رويدًا رويدًا تتحول الدولة التركية إلى حلقة وصل وعُقدة استراتيجية تربطُ بين أقصى الشرق وأقصى الغرب جيوسياسيًّا، ضمن المشروع الذي دشّنه حزب العدالة والتنمية، وتبنَّاهُ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شخصيًّا لضرب عدة عصافير بحجر واحد كما يقول المثل الشهير.
تكمن أهمية وضرورة الربط بين الشرق والغرب من منظور اقتصادي، في أن الشرق تاريخيًّا بصفة عامة وفي الوقت الحاضر بصفة خاصة، والحديث هنا عن الشرق الآسيوي تحديدًا، يمتلك متطلبات الإنتاج الرخيص (عمالة، خبرة، تقنية، موانئ)، بالإضافة إلى الطاقة (الغاز)، وهي السلع التي تحتاجها أوروبا بدورها بشكل رئيسي.
وبين الشرق والغرب، تطمحُ تركيا الجديدة إلى إعادة تعريف نفسها كمركز لوجستي مهم في حركة البضائع والطاقة، وقد بدأت خلال الأعوام الأخيرة تجني ثمار ذلك التصور الذي بدأ عمليًّا قبل عقدَين تقريبًا، كما تخطِّط لإنجاز مزيد من المشاريع في هذا المسار، وذلك استغلالًا لمخرجات تجربة كورونا وعلاقتها بسلاسل الإنتاج والتوريد، ولإعادة تقديم نفسها سياسيًّا عن طريق الجغرافيا والاقتصاد.
من الصين إلى تركيا
قبل سنوات قليلة كان الحديث عن إمكانية ربط الصين، أقصى الشرق الآسيوي، بأوروبا غربًا، عبر مسار برّي مجهَّز لنقل الشاحنات والبضائع، ضربًا من الخيال، ولكن تركيا والصين نجحتا في تنفيذ المشروع خلال وقت قياسي.
يهدف المشروع في الأساس إلى خدمة مشروع الحزام والطريق الصيني الذي يرنو إلى إعادة تعريف الصين جيوسياسيًّا من جديد، من خلال إحياء مشروع طريق الحرير التاريخي، بما يخفِّف من الهيمنة الأمريكية على طرق التجارة التقليدية، ويعزِّز الثقل الثقافي والحضاري والاقتصادي للمشروع الصيني.
وفي الوقت نفسه، تلاقى ذلك المشروع مع حزمة أهداف لدى الدولة التركية، بداية من تحسين الحياة في إسطنبول عبر مشاريع بنية تحتية تستفيد من موقعها الجغرافي، وليس انتهاء بمدّ النفوذ التركي إلى آسيا الوسطى، حزمة البلاد الغنية بالطاقة والموجود بها كثافة سكانية معتبرة تجمع بين العرق التركي والدين الإسلامي، والتي طالما كانت موضوعًا للصراع بين روسيا والصين وإيران وتركيا.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، نجح البلدان، الصين وتركيا، في تسيير قطار بضائع عملاق ينطلق من شمال شرق الصين بأمان، مخترقًا آسيا الوسطى، متقاطعًا مع مسار مشروع الربط السككي الذي دشّنته تركيا مع جارتَيها الشرقيتَين على الحدود، أذربيجان وجورجيا، والمعروف بخطّ باكو-تبليسي-قارص، وذلك وصولًا إلى الأراضي التركية، ومنها إلى أوروبا حتى العاصمة التشيكية براغ بطول حوالي 11 ألف كيلومتر، وهي مسافة هائلة.
يوفِّر ذلك القطار، والذي يُعرَف أيضًا بقطار الصين-لندن، عدة مزايا لكُلّ الدول الواقعة في طريقه، وهي تخفيف الضغط والاعتماد على المسارات البحرية التقليدية، ومن ثم تقليل المسافة والكلفة لتلك الطرق التي تسيطر عليها البحرية الأمريكية.
وبعد عام تقريبًا، عاد قطارٌ مشابه، محمّل بشحنة عملاقة من الثلاجات المصنوعة في التركية، في مسار مشابه، مخترقًا 5 دول، هي تركيا وجورجيا وأذربيجان (القوقاز) وكازاخستان وصولًا إلى الصين، مارًّا بقارّتَين هما أوروبا وآسيا، وبحرَين هما مرمرة والقوقاز، في حدث مهيب في تاريخ النقل التجاري بين الغرب والشرق، وفي تاريخ المشروع السياسي لتحويل تركيا إلى دولة ذات ثقل إقليمي وحضاري حقيقي.
ما قصة قطار باكستان-إيران؟
المدهش أن الربط السككي بين الشرق والغرب لم يتوقَّفْ عند هذه النقطة، وإنما من الواضح أنه اتّسع بعد نجاح الرحلات السابقة، بحيث يشمل دولًا أخرى ومسارات متقاطعة في الخطة نفسها، على أن تكون عقدتها تركيا.
في هذا السياق، طالعَ المهتمون بأخبار آسيا الوسطى وتركيا والتجارة الدولية خبرًا سارًّا قبل أيام، ربما لم يحظَ بالتغطية الملائمة لأهميته بشكل مقصود أو غير مقصود، وهو خبر نجاح تسيير أول قطار بضائع من باكستان إلى تركيا عبر الأراضي الإيرانية، قاطعًا مسافة إجمالية تفوق الـ 6 آلاف كيلومتر.
طُرح هذا المشروع لأول مرة في الفترة الأخيرة، ومعظم مشاريع الربط الجيوسياسي لها جذور تاريخية قديمة، وفي عام 2009، عهد رئيس الوزراء الباكستاني رضا جيلاني الذي بدا متحمّسًا كثيرًا لهذا المشروع حينئذ، تعطّل المشروع من المنبع لأسباب تقول إسلام آباد إنها تقنية وليست سياسية.
ولكن تلك العقبات أيًّا كانت لم تقضِ على هذا الحلم، الذي استقبله مسؤولو الدول الثلاث في تركيا حين وصوله بنجاح إلى نقطة النهاية، بعد أن قطع تلك المسافة في نحو 10 أيام فقط، وهو ما يعني بداية تقليل الاعتماد على المسارات البحرية المشابهة والتي تستهلك ضعف الوقت والتكلفة تقريبًا.
استطاع ذلك القطار جرَّ 20 مقطورة تضمّ حاويات طولها 40 قدمًا، ومن المفترض أن يساهم خلال الأعوام القادمة في رفع التبادل التجاري بين البلدان الثلاثة إلى 5 مليارات دولار، وقد أعلن شاه محمود قريشي، وزير الخارجية الباكستاني، عن عمل الفريق الثلاثي على مدّ هذا القطار التاريخي، بنصّ كلامه، إلى أوروبا قريبًا.
مشاريع مستقبلية واعدة
في الوقت نفسه تقريبًا تعمل تركيا وأذربيجان من جهة، وتركيا وأرمينيا كذلك من جهة أخرى، على تأسيس محور جديد لربط البلدان الثلاثة سككيًّا وحدوديًّا برعاية روسية، وهو ما يُعرَف بمحور “زنغزور” الحدودي.
يعدّ هذا المشروع ثمرة للمخرجات النهائية لاتّفاق وقف الحرب بين أذربيجان وأرمينيا نهاية العام الماضي، والتي دعمت فيها تركيا باكو، ورعت موسكو خلالها التهدئة، وقامت باكو بموجب ذلك الاتفاق بإعادة مرتفعات قرة باغ التي احتلتها يريڤان مع سقوط الاتحاد السوفيتي لمدة 3 عقود.
على الأرض، يمتدُّ ذلك المشروع من باكو إلى مدينة هوراديز في مقاطعة فضولي، وصولًا إلى شمال أردوباد في إقليم ناخيتشيفان الآذريّ ذي السيادة المستقلة، وحتى بلدة فيلداغ على الحدود التركية الإيرانية، وهو مشروع بالغ الدقة هندسيًّا يقول المتخصصون إن تنفيذه في تلك البيئة السياسية الوعرة كالمشي على الحبال.
ومن المفترض بعد ذلك المشروع أن يعود الربط المباشر بين كل من أذربيجان وإقليم ناخيتشيفان من جهة، وبين أذربيجان وتركيا من جهة أخرى، ليتكامل مع مشروع أذربيجان-جورجيا-تركيا السككي، وليصبح اتصال تركيا أوثق جغرافيًّا، وليس ثقافيًّا وتاريخيًّا فقط، بمنطقة القوقاز وآسيا الوسطى.
على التوازي، تضعُ تركيا اللمسات الأخيرة على مشروع ربط الإمارات بها سككيًّا مرورًا بدولة إيران، ذلك المشروع الذي تبلورَ خلال زيارات المسؤولين الإماراتيين إلى أنقرة نهاية العام الماضي، وهو ما يعني إمكانية تصدير النفط والبضائع الإماراتية إلى أوروبا أيضًا من خلال تركيا.
يبدأ مسار المشروع بحرًا من ميناء الشارقة الإماراتي إلى ميناء بندر عباس الإيراني ذي الأهمية الاستراتيجية، ثم يأخذ طريقًا برّيًّا إلى الحدود التركية الإيرانية وحتى لواء إسكندرون، وهو مشروع مدعوم أمميًّا ضمن سلسلة اتفاقيات تهدف لتعزيز النقل السككي تُوِّجت في جنيف عام 1975، تحت مسمى “دفتر النقل البرّي”.
سيختصر ذلك المسارُ المسارَ البحري التقليدي في قناة السويس، ليقلِّل المسافة الزمنية من 20 يومًا بين الإمارات وتركيا إلى 8 أيام كحدٍّ أقصى، وقد نجحَ النقل التجريبي لشحنة من المعادن من مدينة رأس الخيمة الإماراتية إلى تركيا عبر ميناء بندر عباس الإيراني.
منافع هائلة
إن هذه المشاريع بمثابة ضرب مجموعة عصافير بحجر واحد بالنسبة إلى تركيا، لأنها تخدم جملة من الأهداف التركية، مثل تعزيز التجارة الإقليمية وتعزيز أهمية إسطنبول والنفوذ إلى مناطق وعرة سياسيًّا، ولعب دور فاعل في مسارات التجارة الإقليمية كما يدندنُ الرئيس التركي دومًا في معظم خطاباته عن دور تركيا المختلف كمًّا ونوعًا في حقبة ما بعد كورونا على خريطة التجارة العالمية، وضرورة الاستقلال الاقتصادي.
في الوقت نفسه، ستساعد هذه المسارات الجديدة حتمًا في كبح معدلات التوتر الإقليمية لصالح التفكير في المصالح والفرص المشتركة، ففي أمر لافت، عرضت الهند، العدو اللدود للصين وباكستان، الانخراط في مشروع الربط السككي الواصل إلى تركيا.
وعمليًّا، إن مشروع ممر “زنغزور” الواقع على حدود 5 دول بصورة رئيسية، هي أذربيجان وأرمينيا وإيران وتركيا وروسيا، يعدّ سببًا ونتيجة لمدّ جسور التقارب بين كل من تركيا وأرمينيا، وهو أمر ربما كان من الصعب تصوره حتى مدة قصيرة في ضوء الصراعات التاريخية بين الطرفَين والاتهامات المتبادلة المعروفة، كما سيساعد في توطيد العلاقة تجاريًّا بين أرمينيا وروسيا. وفي معظم تلك المشاريع تستفيد إيران أيضًا، سواء في مشروع إسلام آباد-إسطنبول، أو مشروع الإمارات-تركيا الذي يمرُّ بميناء بندر عباس، إذ إننا أمام عملية دمج جيوسياسي قهري لإيران بما يخدم مصالحها الإقليمية.