في صيف 2021، داخل أحد مساجد المطرية بالقاهرة، عقب صلاة العشاء بإحدى ليالي رمضان العشرة الأخيرة، وبعد الانتهاء من الصلاة طلب منا الإمام خمس دقائق، قبيل صلاة التراويح، للحديث في أمر ما، المعظم كان يتوقع أن يواصل الشيخ حديثه عن فضيلة “الصبر” التي كان يركز على آياتها خلال الصلاة، لكن الأمر لم يكن كذلك، إذ كان السبب الرئيسي لهذا اللقاء الدعوة للتعاون والمشاركة من أجل مساعدة عائلة “إسماعيل” التي باتت على مشارف الطرد من المنزل لعدم دفع الإيجار الشهري لـ4 أشهر.
إسماعيل.. وهو شاب أربعيني يعمل في مجال البناء والتشييد منذ عشرين عامًا، ورب أسرة مكونة من 4 أفراد، بات يواجه أزمةً اقتصاديةً طاحنةً، ففي حين كان لا يجد يومي راحة في الشهر من كثافة العمل سابقًا، إذ به اليوم يكافح لتزيد أيام عمله على خمسة في الشهر.
وخلال دردشة مع جيرانه، أفادوا بأن الرجل منذ قرارات وقف البناء التي أصدرها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قبل عامين، وتعليق إصدار التراخيص، وهو يعاني من تلك الأزمة، علمًا بأن لديه ولدًا وبنتًا في الصف الابتدائي، هذا بجانب الإيجار الشهري الذي تبلغ قيمته 800 جنيه (51 دولارًا).
إمام المسجد والجيران أشاروا إلى أن إسماعيل ليس الضحية الوحيدة لقرارات وقف البناء، فهناك العشرات في هذا الحي يعانون من نفس الوضع المذري، إلى الحد الذي دفع بعضهم للاستدانة حتى حكم عليه بالحبس، وآخرون اضطروا أمام الحالة المتراجعة معيشيًا للتسول في مناطق أخرى بعيدًا عن المنطقة التي يسكنون بها.
وقف البناء والتراخيص
قبل أيام قليلة وخلال وجوده بمدينة أسوان الجديدة (جنوب) لوح السيسي بوقف البناء لمدة 10 سنوات من الآن، لحين وضع آليات لضبط التراخيص وخلافه، داعيًا المصريين إلى وضع أموالهم في البنوك بدلًا من بناء البيوت أو استثمارها في قطاع العقارات.
الرئيس خلال كلمته على هامش افتتاح المدينة الجديدة قال نصًا: “هذا الاستثمار ليس في محله، بدلًا من وضع الأموال في العقارات ضعوها في البنوك، ولو أنك ترغب في بناء عقار بقيمة مليوني جنيه أنصحك بوضع هذه الأموال في البنك، لأن الاستثمار في العقار فرصة ليست كبيرة”، موضحًا “الدولة أخذت العديد من القرارات الخاصة بوقف المخالفات والبناء العشوائي، وكان منها إعادة بناء البلاد في غضون 10 سنوات، ولن يسمح لأي شخص بالبناء طوال هذه الفترة، من أجل إعادة ضبط آليات العمل والتراخيص”.
القرار ليس الأول من نوعه، فخلال العامين الماضيين اتخذ السيسي حزمةً من القرارات لوقف البناء بصفة عامة، البداية كانت منتصف 2020 حين أصدر قرارًا بوقف عملية البناء ومنع التراخيص لمدة 6 أشهر، ليليه قانون التصالح في مخالفات البناء الصادر في نسخته الثانية المعدلة في 7 يناير/كانون الثاني 2020.
وخلال الأشهر الماضية أزالت الحكومة عشرات آلاف المباني والعقارات بدعوى مخالفتها لقانون البناء، فيما هددت بنزول الجيش والشرطة لكل القرى والمناطق للإشراف على عمليات الإزالة والتصدي لأي محاولة لعرقلة هذا الملف الذي اعتبره قضية أمن قومي.
لكن يبدو أن القرارات التي كانت تهدف – كما تقول الحكومة – لتقنين منظومة البناء والقضاء على الفوضى العقارية، وتطبيق القانون وحماية ثروات البلاد، سيكون لها ضحاياها من العاملين في مجال العقارات بصفة عامة، عمال ومقاولون وموظفون.
قصص مأساوية
على بعد عقارين فقط من المنزل الذي يقطن فيه “إسماعيل” يسكن “خليل” الذي كان يسابق الزمن ليل نهار في العمل لأجل الانتهاء من تجهيز ابنته التي كان يفترض أن يكون زفافها نهاية 2021، لكن ظروف الحياة الصعبة وعدم القدرة على شراء ما تبقى من الأجهزة دفعته للتأجيل حتى منتصف العام الحاليّ.
وبوجه هده الحزن وأعين زاغها القلق، عبر الرجل الستيني عن أن غاية أمنيته قبل وفاته أن يرى ابنته سلمى في بيت الزوجية، وأوضح خليل: “أنا كنت بكسب زي الفل، كانت يوميتي نحو 200 جنيه والشهر كله كنت بشتغله، ولو حبيت أريح يوم كان بيكون بمزاجي”، وتابع “دلوقتي رجلي جمدت من قلة الشغل، مبقاش في مبان ولا أي حركة، والله بتيجي عليا أيام ما بلاقي فيها فطار للعيال”.
وألمح خليل إلى أنه منذ نهاية 2019 وسوق البناء والعقارات في تراجع مستمر، منوهًا أنه كان يعمل في بعض الأحيان في شركة للمقاولات بالجيزة، لكن الشركة أغلقت أبوابها بعدما لم تعد قادرة على دفع رواتب العاملين بها، وأضاف “معظم الشركات قفلت مفيش شغل”.
“والله أنا لو أقدر أشتغل أي حاجة تانية هشتغل، لفيت على العمارات يمكن محتاجين بوابين وفي المدارس والجمعيات، لكن سني كبر خلاص والناس عاوزة الشاب الصغير اللي يقدر يجري ويتحرك، يا خسارة العمر اللي راح وفي الآخر مش قادر أجهز بنتي وبقيت عايش على المساعدات من أهلي في الصعيد ومن الجيران وأهل الخير”، هكذا اختتم العم خليل حديثه بعدما أغرقت دموعه لحيته البيضاء القصيرة.
المقاولون: ليس ذنبنا
توجيه أصابع الاتهام للمقاولين كونهم المتسبب الأول في تشريد عمال البناء استنادًا إلى شهادات العشرات ممن التقيناهم في أماكن مختلفة، دفعنا إلى الذهاب للمقاولين لمعرفة حقيقة الأمر، خاصة أن بعض العمال أشاروا إلى أن المقاولين أنفسهم ضحايا قرارات وقف البناء.
البداية كانت مع المعلم فكري (كما يحب أن يلقبه الناس)، المقاول الذي يعمل في قطاع العقارات منذ أكثر من 25 عامًا، ولديه شركة يعمل بها أكثر من 70 عاملًا ومهندسًا، الذي استبق سؤالنا عن مسؤوليته وغيره من المقاولين في تشريد العمال، بقوله: عندك مشترٍ للشركة؟
السؤال كان صادمًا لنا بداية الأمر، وبالطبع ليس لدينا إجابة عنه، واكتفينا بنظرات يبدو عليها الاستغراب، وهو ما دفع الرجل لعدم تركنا طويلًا داخل تلك الحيرة ليضيف “السوق بقى واقف، والحالة صعبة، مفيش مشروعات، ولو في بتبقى بمقابل ضعيف لا يكفي أجور العمال والمهندسين والمواد المستخدمة”.
وبعد حوار امتد قرابة نصف ساعة، استعرض خلالها فكري أبرز ملامح سوق العقارات خلال العامين الماضيين، كشف أن أكثر من عشر شركات يملكها أصدقاء له أغلقت أبوابها بالكامل، وضعفها خفضت نسبة العمالة لديها، وأخرى خفضت الرواتب والأجور إلى أكثر من 50%.
وأوضح المقاول الذي اضطر لتخفيض العمالة لديه لأكثر من 70% خلال العام الماضي تحديدًا، أن المشروعات التي كان ينفذها سواء لأفراد أم كيانات، تراجعت لأكثر من 50%، وأنه لولا “الخوف على سمعته” لأغلق شركته تمامًا، خاصة أن النفقات باتت تتجاوز الإيرادات بكثير على حد قوله.
وعن أسباب هذا التراجع، قال إن السبب الظاهري قرارات وقف البناء الصادرة عن الحكومة ومنع منح الأحياء التراخيص للملاك، لكن هناك سبب آخر يراه فكري الأخطر ويهدد مستقبل ملايين العاملين في مجال البناء والتشييد، وهو سيطرة الجيش على قطاع المقاولات بصورة كبيرة، منافسًا القطاع الخاص الذي بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة.
من جانبه كشف أيمن – رجل أعمال يعمل في المقاولات -، أن هناك أكثر من 36 ألف شركة مسجلة بحسب تصريحات عضو مجلس إدارة الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء، محمد عبد الرؤوف، و15% منها فقط تحصل على مشروعات كبيرة ومتوسطة، متسائلًا: ما مصير 85% من تلك الشركات؟
وأضاف رجل الأعمال أن أكثر من نصف الشركات العاملة في مجال المقاولات في مصر فقدت الجزء الأكبر من حصتها السوقية منذ 2016 وحتى اليوم، ما اضطرها لتوسيع دائرة أعمالها إلى مجالات أخرى غير المقاولات، حتى إن كانت من الباطن، وإلا فالغلق هو المصير المنتظر.
اسألوا الجيش
في مارس/آذار فوجئ الجميع بدخول الجيش سوق العقارات بشكل غير مسبوق، رغم الأزمة التي كان يعيشها السوق في ذلك الوقت جراء الاضطرابات السياسية والاقتصادية، التي كانت تتطلب حينها دعم الدولة للشركات المدنية والقطاع الخاص بصفتها المؤشر الحقيقي للوضعية الاقتصادية.
وبدلًا من دعم الدولة بكل مؤسساتها لقطاع المقاولات بتحفيز شركاتها المدنية المتخصصة للخروج من هذا المأزق، إذ بالقوات المسلحة تزاحم تلك الشركات من خلال أربع هيئات تتبع وزارتي الدفاع واﻹنتاج الحربي، وهي جهاز مشروعات الخدمة الوطنية والهيئة العربية للتصنيع والهيئة القومية للإنتاج الحربي والهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
وشهر تلو الآخر بدأت تلك الهيئات تهيمن على القطاع بأكمله (بلغ حجمه هذا العام قرابة 260 مليار جنيه) وتزيح الشركات المدنية، حتى أحكم الجيش قبضته على أكثر من 90% من السوق بحسب تصريحات خاصة لمقاولين، ما دفع القطاع الخاص برمته إلى أن يتحول إلى “أجير” عند المؤسسة العسكرية التي أصبحت المتحكم الرئيسي في الاقتصاد برمته، إذ تسيطر على أكثر من 60% من حجم الأنشطة الاقتصادية في مصر.
“محسن. ص” صاحب شركة مقالاوت، يقول إن “حنفية” المشروعات باتت في أيدي الجيش، وعليه لا يمكن الحصول على أي مشروعات إلا تحت مظلة أي من الهيئات الأربعة التابعة لوزارتي الدفاع والإنتاج الحربي، مؤكدًا أنه في حال العمل بشكل مستقل عن تلك الهيئات ستتعرض لمشاكل كبيرة وربما تقودك في النهاية إلى غلق شركتك.
“لذلك كان لا بد من الاستسلام لهذا الوضع، فاضطررنا من أجل البقاء في السوق أن نعمل من الباطن لصالح الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، الهيئة تتفق على المشروعات من الدولة بالأرقام التي تحددها هي ثم تقدمها لنا بأسعار أقل بكثير مما تم الاتفاق عليه، وليس أمامنا مجال للرفض.. علينا القبول وإلا فكل الخيارات متاحة”، هكذا قال محسن في حديثه عن خريطة توزيع المشروعات العقارية في السنوات الأخيرة.
وأضاف “حتى لو فكرنا في منافسة الهيئة في المناقصات والمزايدات الكبرى، فإن المنافسة تكون غير عادلة، فالجيش لديه امتيازات لا تتوافر لدينا كشركات خاصة، فهو يمتلك الأرض بلا مقابل، والخدمات ومواد البناء بلا مقابل أو ضرائب، كما أنه يكلف الجنود المدربين أو الفنيين الذين يقضون فترة الخدمة العسكرية، بالعمل في تلك المشروعات بلا مقابل، وعليه يقدم عرضًا أقل من الشركات الخاصة بكثير، أما نحن فلدينا التزامات كبيرة، ارتفاع جنوني في أسعار مواد البناء وقفزات في الضرائب وارتفاع في الأجور، كل هذا يصعب من مهمتنا ويقدم السوق على طبق من ذهب للجيش”.
وأمام تلك الوضعية، اضطرت الشركات إلى تقليص العمالة الموجودة لديها، فالعائد من المشروعات لا يكفي لسداد كلفة تلك النفقات، عمال ومواد وضرائب وغيره، ومن يتبقى من العمال يتحمل العبء الأكبر، مهام إضافية مضاعفة بنفس الراتب إن لم يكن أقل، الكل هنا تنازل كثيرًا لأجل استمرار لقمة العيش حتى لو قلت قيمتها، فعلى كل حال أفضل من البطالة دون عمل.
“أحمد” مهندس مدني كان يعمل في إحدى شركات المقاولات الكبرى التي تصنف واحدةً من أكبر خمس شركات في مصر، يقول إنه منذ بداية 2020 بدأت الشركة في تقليص العمالة لديها، مهندسين وفنيين وعمال، بنسب تتراوح بين 20 -35%، لتوزع أعمالهم على الموجودين بنفس الراتب، وحين كنا نعترض كان يقال لنا: “إللي مش عاجبه يسيب الشركة.. المشروع اللي كنا بناخد بعشرة قروش قبل ذلك، اليوم بناخده بقرشين وبالعافية وبعد سلسلة من التنازلات والهدايا وخلافه”.
ويضيف المهندس الذي لم يتجاوز عمره 35 عامًا إنه بعدما كان يتقاضى راتبًا 7 آلاف جنيه، تراجع إلى 5 آلاف، مع مضاعفة الأعباء الموكلة إليه، منوهًا أنه أمام هذا الوضع اضطر للبحث عن فرصة للسفر للخارج، وبالفعل اليوم هو في إحدى دول الخليج بعد أن تقدم باستقالته نهاية العام الماضي، منوهًا أن هناك المئات من أصدقائه سلكوا نفس الطريق بعدما فقدوا مصدر دخلهم الوحيد، “هذا مع المهندسين فما بالك بالعمال”، هكذا اختتم المهندس حديثه.
إغراق السوق
في أغسطس/آب 2021، قال وزير الإسكان المصري عاصم الجزار إن هناك زيادة سنوية في السكان من 2 إلى 2.5 مليون نسمة، تحتاج من 500 إلى 600 ألف وحدة سكنية، وهو ما اعتبره القطاع الخاص متنفسًا لهم للمشاركة في تورتة السوق العقاري، لكنهم صدموا بالقفزات الجنونية في أسعار مواد البناء وحزمة من القوانين التي كبلت أيديهم تمامًا.
فخلال العام الماضي فقط ارتفعت أسعار الحديد والصلب بنسب تتراوح بين 40-45%، وفي آخر موجة من تلك الزيادة قفز سعر طن الإسمنت في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، لنحو 1250 جنيهًا مقارنة بنحو 725 جنيهًا من الشهر ذاته لعام 2020، كما قفز سعر طن الحديد إلى 15 ألفًا و500 جنيه مقارنة بنحو 9500 جنيه العام 2020 (الدولار يساوي 15.75 جنيه)، ما تسبب في رفع أسعار العقارات بنسبة 15%، وفق الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء.
تلك التغيرات الطارئة على سوق العقارات تزامنت مع تراجع المستوى المعيشي للمواطنين، جراء زيادة معدلات التضخم والآثار الناجمة عن تعويم العملة المحلية في 2016، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على حجم مدخرات المواطنين التي تراجعت بشكل كبير مقارنة بما كانت عليه في السابق، ما كان له أثره السلبي على الإقبال على العقارات في المجمل.
تقليص حجم الطلب على العقارات قوبل بإغراق الهيئات التابعة للجيش السوق بعشرات المشروعات التي زادت من الأزمة، مثل مشروع المليون وحدة سكنية لمحدودي الدخل بالتعاون مع شركة أرابتك الإماراتية (من خلال 13 موقعًا بالمحافظات) بتكلفة تقدر بنحو 280 مليار جنيه مصري، وإسكان العاصمة الإدارية الجديدة (مساحتها 170 ألف فدان شرقي القاهرة)، بجانب تطوير مدينة العلمين الجديدة (مساحتها 48 ألف فدان) على ساحل البحر المتوسط، وهضبة الجلالة (مساحتها 17 ألف فدان) في المنطقة الجبلية شمال البحر الأحمر، وأخيرًا مدينة المنصورة الجديدة (شمال مصر).
هنا تساؤل يفرض نفسه: هل الأزمة في مصر أزمة عقارات؟ قبل نحو 20 عامًا قال رئيس لجنة الإسكان بمجلس الشعب ورئيس لجنة الإسكان بالحزب الوطني آنذاك المهندس محمد محمود حسن، إنه لا توجد أزمة عقارات أو سكن في مصر، لكن المشكلة الحقيقية في الدخول والسيولة المالية للمواطنين، فالسواد الأعظم من المصريين لا يملكون ثمن شراء وحدة سكنية بسبب سعرها المرتفع.
ويتناغم هذا الرأي مع البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بشأن وجود نحو 12.5 مليون وحدة سكنية “مغلقة” بلا سكان بنسبة 29.1% من إجمالى عدد الوحدات فى مصر، ضمن بيانات تعداد السكان في البلاد خلال عام 2017.
ورغم ذلك هناك إغراق كامل للسوق بالمشروعات السكنية التي تباع بأسعار تتجاوز قدرة المواطنين، ورغم محاولات الدولة تقديم المساعدة عبر برامج التمويل العقاري ومشروعات إسكان الشباب بالتقسيط الذي يصل إلى 20 عامًا في بعض المشروعات، ما زالت هناك فجوة بين حجم الطلب والمعروض، وهو ما يعمق الأزمة في مصر.
القطاع الخاص.. مصير مجهول
إصرار الجيش على التهام حصة السوق العقاري وضع مستقبل قرابة 36 ألف شركة تعمل في مجال المقاولات في مهب الريح، لتحيا على الفتات مما تتركه له الهيئات التابعة للمؤسسة العسكرية، وبالسعر الذي تحدده الأخيرة دون رفاهية التفاوض والقبول والرفض من تلك الشركات.
كثير من تلك الشركات اضطر للغلق أمام تلك الوضعية الصعبة، وبعضها جمد نشاطه مؤقتًا، فيما استمر الفريق الثالث في عمله وفق المعادلة الجديدة، وفي كل تلك الحالات الثلاثة كان العمال الضحية الكبرى في هذا الصراع، ليدفعوا ومن خلفهم أسرهم ثمنًا باهظًا لغياب التوازن في تلك المعركة غير المتكافئة.
“عطية”.. صاحب شركة مقاولات شهيرة في منطقة الوايلي بالقاهرة، يقول إنه اضطر لتقليل النفقات بشكل لافت، فبعدما كان لديه قرابة 70 موظفًا من مهندسين وإداريين وعمال، بات اليوم لا يملك إلا 10 فقط من المؤمن عليهم، أما الباقي فتحولوا للعمل بـ”اليومية” حال وجود مشروعات وفي حاجة لهم، أما في الأحوال الطبيعية فلا يتم الاستعانة بهم.
“حتى المشروعات التي نقوم بها لم تسلم من المنافسة والمزايدة من كيانات القوات المسلحة، ففي آخر مشروع لي في منطقة التجمع بالقاهرة، فوجئت بجمعيات تابعة للجيش تعرض وحدات سكنية أرخص مما نقدمه نحن، ومعروف طبعًا سبب تراجع سعرها، ما تسبب في تكبدنا خسارة فادحة، فالمشتري بالطبع سيقدم على الوحدة الرخيصة خاصة إن كانت على نفس المستوى من التشطيب والجودة”، هكذا أضاف صاحب شركة المقاولات.
وألمح أن الإنجازات التي تحققها هيئات الجيش في سرعة إتمام المشروعات وجودتها بسبب المزايا التي تتمتع بها دون غيرها من الشركات الأخرى، دفع معظم رجال الأعمال والمستثمرين إلى الاستعانة بها، وهو ما فاقم الوضع المذري لشركات القطاع الخاص، وعليه يمكن القول إنها الآن داخل غرف الإنعاش في انتظار إما رصاصة الرحمة وإما صدمات كهربائية عاجلة تعيدها للحياة مرة أخرى.
12 مليون أسرة في مهب الريح
صحيفة “الأخبار” المصرية الممولة من الحكومة، نشرت في تحقيق لها عن تداعيات قرارات وقف تراخيص البناء، أنها ستؤثر على الملايين من العمالة غير المنتظمة التي تمثل أكثر من 40% من العاملين في سوق العمل، البالغ عددهم 30 مليونًا، بحسب أحدث أرقام الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء المصري.
ونقلت الصحيفة على لسان نائب رئيس اتحاد نقابات عمال مصر ورئيس النقابة العامة للبناء والأخشاب، عبد المنعم الجمل، أن مثل تلك القرارات سيكون لها تداعياتها الكارثية على تلك العمالة، خاصة الموجودين بالقرى والمناطق الشعبية، منوهًا أن التأثير ربما يكون أكثر حدةً مع العمالة التابعة للشركات والمؤسسات.
وكيل لجنة الإسكان والمرافق بمجلس النواب، إيهاب منصور، في تصريح له قال إن قرار وقف تراخيص البناء “استطاع بلا أدنى شك التأثير السلبي على العمالة اليومية المؤقتة”، لافتًا إلى حدوث حالة من البطالة المؤقتة بين أوساط العمالة اليومية.
أما عضو مجلس إدارة الاتحاد المصرى لمقاولى التشييد والبناء، شمس الدين يوسف، فاعتبر أن القرار “متسرع وغير مدروس“، موضحًا أن توقيت إصداره غير مناسب بالمرة، فى ظل زيادة نسبة البطالة الناتجة عن أزمة فيروس كورونا، إضافة إلى التأثير على الصناعات المكملة للتشييد والبناء من الإسمنت والحديد وغيرهما من المواد الخام.
فيما تحاول جمعية رجال الأعمال المصريين والاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء، إلغاء القرار عبر تقديمهما العديد من المذكرات الرسمية لمجلس الوزراء ووزارتي التنمية المحلية ومحافظتي القاهرة والجيزة، حفاظًا على كل الفئات العاملة في هذا القطاع.
وبحسب الإحصاءات الصادرة عن مسؤولي الاتحاد، فإن نحو 12 مليون مصري يعملون في قطاع المقاولات، فيما ذكرت دراسة حديثة أن هناك من 15 مليون إلى 20 مليون مواطن من مختلف الفئات يستفيدون بصورة مباشرة من مشروعات البناء والتشييد، وأن أكثر من 70% من طوائف المجتمع متضررة من قرار وقف تراخيص البناء، كما جاء على لسان عضو لجنة الإدارة المحلية بالبرلمان النائب عصام إدريس، الذي ناشد بضرورة إعادة النظر في هذا القرار “لأن الناس خربت بيوتهم بسببه”.