ترجمة وتحرير: نون بوست
لا تزال السياسة الخارجية الغربية في القرن الحادي والعشرين متأثرة إلى حد كبير بالدروس المستفادة من حدثين كبيرين وقعا في القرن الماضي: مؤتمر ميونيخ في أيلول/ سبتمبر 1938؛ وأزمة الصواريخ الكوبية في تشرين الأول/ أكتوبر 1962، عندما كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على وشك خوض حرب نووية.
ورغم الأبحاث التي قام بها العديد من المؤرخين، مازالت الكثير من الأساطير والأكاذيب والنظريات المضللة ترتبط بالحدثين.
أثّر مؤتمر ميونيخ على أجيال من السياسيين والدبلوماسيين والمفكرين الاستراتيجيين الغربيين، وخاصة الأنجلو أمريكيين، وغالبًا ما تم اعتباره نموذجا عمليا للخطر الكبير الذي يشكله تقديم التنازلات للأعداء.
خلال المؤتمر، وافقت المملكة المتحدة وفرنسا على أن تضم ألمانيا النازية منطقة السوديت غرب تشيكوسلوفاكيا، والتي كان سكانها من الناطقين بالألمانية، في محاولة لاحتواء الخطر النازي وتجنب اندلاع حرب عالمية ثانية.
لكن المؤتمر كان مثيرا للجدل، وقد وصفه ونستون تشرشل، الذي كان حينذاك عضوًا في البرلمان البريطاني، بأنه يمثل “هزيمة تامة وصريحة”.
فخ الاسترضاء
لم يمنع مؤتمر ميونيخ الزعيم النازي أدولف هتلر من غزو بولندا في أيلول/ سبتمبر1939، مما أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، ليتخذ المؤتمر بعدها دلالات جديدة وأكثر سلبية بكثير من السابق. وُصم رئيسا وزراء بريطانيا وفرنسا آنذاك، نيفيل تشامبرلين وإدوارد دالادييه، بالعار بسبب موقفهما الضعيف تجاه هتلر.
أصبحت العبارة المتداولة لوصف المؤتمر هي “الاسترضاء”، وتحول إلى رمز يُظهر عدم جدوى المفاوضات مع الدول الشمولية والاستبدادية.
ويمكن القول إن علاقة الغرب المتوترة حاليا مع روسيا والصين وإيران يحكمها إرث مؤتمر ميونيخ.
لكن عندما تعود بتمعن إلى أيلول/ سبتمبر 1938 قد ترى الأمور من منظور مختلف. لم يتم استرضاء هتلر لأن الديمقراطيات الأوروبية كانت ضعيفة أو جبانة، ولكن لأن المملكة المتحدة لم تكن مستعدة بعد للدخول في الحرب. منح مؤتمر ميونيخ بريطانيا عامًا إضافيًا للاستعداد للصراع الذي بدا حتميا.
لعبت هذه السنة الإضافية دورا مهما في حسم نتيجة المعركة سنة 1940، عندما هزم سلاح الجو الملكي البريطاني نظيره الألماني فيما يُعرف بـ”معركة بريطانيا”، وهذا ما ساهم في خسارة الألمان تفوقهم الجوي على القوات البريطانية ووضع حدا لسيناريو الغزو النازي.
اتُهم كل من عارض حربي العراق وليبيا، سنتي 2003 و2011 على التوالي، أو رفض التدخل ضد النظام السوري في 2013، بأنه وقع في فخ “الاسترضاء”، في إشارة إلى ما حدث في ميونيخ سنة 1938.
وفقًا لأندرياس هيلغروبر، المؤرخ الألماني البارز في تلك الفترة، مثّل ذلك الحدث أحد نقاط التحول في مسار الحرب. سرعان ما فهم هتلر تأثيره، ودفعه لاتخاذ قرار غزو الاتحاد السوفيتي في حزيران/ يونيو 1941.
وقد سلط جانان غانيش، كاتب العمود في صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، الضوء مؤخرًا على هذا الجانب المهم الذي تجاهلته الروايات الرسمية لعقود، وأعرب عن أمله في أن يستفيد القادة الغربيون بشكل جيد من دروس مؤتمر ميونيخ. لكن ما يحدث على أرض الواقع، هو أنه مع اندلاع كل أزمة دولية، تلقي ميونيخ بظلالها لترجيح كفة القرارات الصارمة والابتعاد عن التفاهمات والحلول الوسط.
في هذا الإطار، اتُهم كل من عارض حربي العراق وليبيا، سنتي 2003 و2011 على التوالي، أو رفض التدخل ضد النظام السوري في 2013، بأنه وقع في فخ “الاسترضاء”، في إشارة إلى ما حدث في ميونيخ سنة 1938.
الاتفاق النووي الإيراني
اتخذ الجمهوريون في الولايات المتحدة وتيار يمين الوسط في “إسرائيل” موقفا صارما من الاتفاق النووي الذي تم توقيعه مع إيران سنة 2015. بعد سبع سنوات من الاتفاق، ما زالت هذه الأطراف تعارض بشدة أي صفقة مع إيران، وتتذرع بما حدث سنة 1938، وترى أن أي اتفاق لن ينجح في كبح جماح طموحات إيران النووية.
للأسف، نسي هؤلاء أنهم هم المسؤولون عن مثل هذه النتيجة وليس أي طرف آخر. وقد فضح الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عملية صنع القرار في الولايات المتحدة من خلال اعترافه بأنه تعرّض للتضليل بشأن إيران من رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو.
سنة 1962، أجبر الموقف الصارم للرئيس جون كينيدي والحصار البحري والتفوق العسكري الأمريكي، الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، على الاستسلام ووقف نشر الصواريخ النووية السوفياتية في كوبا. أصبح ذلك الحدث رمزًا للتفوق الأمريكي على الاتحاد السوفياتي، وسيطر على طريقة صنع قرارات السياسة الخارجية والأمنية للولايات المتحدة خلال العقود اللاحقة.
كان المفكر والصحفي ليزلي غيلب، الذي يعدّ أحد أبرز الخبراء في السياسة الخارجية الأمريكية، والرئيس الفخري السابق لمجلس العلاقات الخارجية، أول من انتقد تلك الآراء بشكل علني قبل 10 سنوات، وقال متحدثا عن أزمة الصواريخ الكوبية: “أدت إلى تمجيد القوة العسكرية والقرارات الصارمة، وتشويه الحلول الدبلوماسية؛ لقد أصبحت معيارًا للصلابة والمواجهة المحفوفة بالمخاطر مع الأعداء”.
تبنى هذه الرؤية جميع صناع السياسة الأمريكية تقريبا، أي أعضاء الكونغرس والدبلوماسيون والقادة العسكريون والإعلاميون والمفكرون والأكاديميون؛ بعبارة أخرى.
رفعت الولايات المتحدة شعار “لا مساومة مع الشيطان” في وجه خروتشوف قبل ستة عقود، وهي تطبق المبدأ ذاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حاليا؛ حيث يعتبر الساسة الأمريكيون أن “التنازلات علامة ضعف” وأن “أي صفقة يجب أن تتم من موقع قوة”.
أهمية الحلول الوسط
للأمانة التاريخية؛ لا تعدو الرواية الرسمية حول أزمة الصواريخ الكوبية أن تكون أسطورة، لأنها لم تنته باستسلام موسكو غير المشروط لمطالب الولايات المتحدة، ولكنها انتهت بتنازلات متبادلة، فقد سحب السوفيات صواريخهم من كوبا مقابل تعهدات رسمية أمريكية بعدم غزو الجزيرة (وكانت قد حاولت ذلك في العام السابق في خليج الخنازير)، وإزالة الصواريخ النووية متوسطة المدى من تركيا المتاخمة للاتحاد السوفياتي. في الواقع؛ حقق السوفيات هدفين، مقابل هدف واحد للأمريكان.
اجتماع رئيس الوزراء البريطاني السابق اللورد نيفيل تشامبرلين، ورئيس الوزراء الفرنسي إدوارد دالادييه، والزعيم الألماني أدولف هتلر، والزعيم الإيطالي موسوليني، في 29 أيلول/ سبتمبر 1938 للتوقيع على معاهدة ميونيخ.
منذ سنة 1962، تم بناء السياسة الخارجية للولايات المتحدة إلى حد كبير على مثل هذه الأساطير، كما كتب غيلب: “لوقت طويل جدًا، هيمنت التهديدات ولغة المواجهة على نقاشات السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وقللت من أهمية من التسويات البراغماتية”.
تُظهر الوقائع التاريخية أن التسوية ليست دائما شيئا سيئا، ويمكن أن تنجح كما رأينا في أزمة الصواريخ الكوبية.
هذا هو الدرس المهم، ويجب أن نستوعبه بشكل أفضل. لكن الرؤساء الأمريكيين، حتى أقلهم تشددا، مثل جو بايدن، يواجهون مشاكل في تبني مثل هذه المواقف المرنة، وهو ما يتضح من رفضه التراجع عن قرار ترامب والعودة إلى الاتفاق النووي دون قيد أو شرط.
المفاوضات الجارية حاليًا في فيينا تنحرف عن مسارها بسبب هوس البحث عن مواقع القوة؛ ويقول غانيش في هذا السياق: “مدرسة البحث عن موقع القوة بأي ثمن في السياسة الخارجية ليست سيئة فحسب، بل تأتي بنتائج عكسية”.
نتائج عكسية
إن الحزم والثبات أمران مهمان لردع الأعداء والحفاظ على القيم والمصالح، مع ذلك يصبح كلاهما عائقا عندما يتم استخدامهما في كل الظروف؛ إذا تم تطبيق هذا النهج دون حكمة يصبح خطيرا ويأتي بنتائج عكسية.
يرتبط تأثير مؤتمر ميونيخ وأزمة الصواريخ الكوبية بأكاذيب وأساطير أخرى؛ مثل نظرية الدومينو الشهيرة التي ورطت الولايات المتحدة في حرب فاشلة استمرت 10 سنوات في فيتنام.
هذه الأساطير هي جزء من التنافر المعرفي المقلق الذي ظل لفترة طويلة يطارد السياسة الخارجية والأمنية للولايات المتحدة، والذي وصفه مقال حديث في مجلة ناشيونال إنترست بأنه “إنشاء لـ(سرديات فوقية)، وهي أطر شاملة للفكر والتحليل تتلاءم مع مجموعة واسعة من القضايا المختلفة تمامًا [و] … تركز على قضية واحدة من المفترض أن تكون متجانسة؛ عدو عالمي وقوي بشكل ساحق من الضروري مواجهته في كل مكان”.
ولهذه السردية الفوقية فرعان أساسيان، هما المبالغة المفرطة في التهديد، والتخويف المنهجي للرأي العام.
في الوقت الحالي، تستهدف الرواية الفوقية الصين وروسيا. صحيح أن الدولتين تثيران المشكلات، لكن الغرب يصوّر تعارض المصالح الجيوسياسية بين القوى الكبرى على أنه تهديد مروع للديمقراطيات من أنظمة استبدادية شريرة، وهي وجهة نظر لا معنى لها.
من الطبيعي في حياة البشر أن نسيء أحيانا قراءة التاريخ ونختلق الأساطير، لكن عندما يصبح صنع الأساطير أمرا ممنهجا، مثلما تثبته طبيعة العلاقة الغربية مع روسيا والصين في الوقت الراهن، يصبح الوضع شديد الخطورة.
المصدر: ميدل إيست آي