ترجمة وتحرير: نون بوست
في الخامس من كانون الثاني/ يناير، أعلن الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف حالة الطوارئ. وبعد يومين، أمر الشرطة بإطلاق النار لقتل “الإرهابيين” – وهو يقصد بذلك أي شخص شارك في الاحتجاجات العنيفة وأعمال الشغب التي أعقبت المظاهرات. كتبت سونبايك سليمانوف، وهي فنانة معاصرة مقيمة في مدينة ألماتي، على قناتها على “تلغرام”: “لم أكن أعتقد أنني سأشاهد عمليات إطلاق نار جماعية لم أكن أسمع عنها إلا عن طريق والدي”.
يعكس شعورها من جهة التحول المروّع للنظام الحاكم ولجوءه إلى العنف المميت بعد الاحتجاجات التي شهدتها كازاخستان الأسبوع الماضي، ومن جهة أخرى المظالم التاريخية المألوفة التي تعود إلى انتفاضة 1986 ضد الحكم السوفيتي في ألماتي.
في البداية، كانت المظاهرات في منطقة مانكيستاو بكازاخستان يوم 2 كانون الثاني/ يناير سلميةً، ثم انتشرت مثل النار في الهشيم في جميع المدن الكبرى في غضون أيام. ولكن سرعان ما سيطرت الجماعات الإجرامية على هذه الاحتجاجات وهاجمت عناصر الشرطة وأضرمت النار في المباني الحكومية. ويشير قادة المعارضة وناشطون في حقوق الإنسان إلى تواطؤ محتمل بين العناصر الإجرامية وأعضاء من النظام الحاكم، الذين سعوا إلى زرع الفوضى لتبرير استخدام القوة ضد المتظاهرين السلميين.
دعا توكاييف أعضاء منظمة معاهدة الأمن الجماعي بقيادة روسيا إلى نشر قوات حفظ السلام لقمع أعمال العنف والشغب في أعقاب الانتفاضات المحلية، مشيرًا إلى تسلل جماعات إرهابية خارجية مدربّة إلى البلاد. وحسب التقارير الرسمية، قُتل 164 شخصًا بينهم أطفال في هجمات أعقبت هذه الاحتجاجات. (أكدت وزارة الإعلام الكازاخستانية في وقت لاحق تسجيل 44 حالة وفاة) وتم اعتقال حوالي 10 آلاف شخص.
تشير معظم التحليلات إلى وجود سمات مشتركة بين هذه الاحتجاجات وتحركات شعبية في بلدان أخرى بما في ذلك مقارناتها بالثورات الملونة والتعبئة في بيلاروسيا واحتجاجات الميدان الأوروبي في أوكرانيا أو حتى ثورات الربيع العربي ضد المستبدين الفاسدين الذين استمر حكمهم لعقود. ولكن هذه المقارنات فيها تبسيط لحقيقة ما يحدث في كازاخستان.
على عكس ما شهدته بيلاروسيا وأوكرانيا والشرق الأوسط من احتجاجات، ظهرت في كازاخستان شبكة معقدة من أشكال التعبئة تستند على الموقع وتاريخ الاحتجاجات السابقة وأنواع المطالب المقدمة. ولا يوجد زعيم واحد أو مجموعة سياسية مهيمنة توجّه هذه الاحتجاجات – ولا حتى أجندة سياسية مفصلة توحّد المحتجين.
على عكس بيلاروسيا، لم يترك الرئيس الكازاخستاني السابق نور سلطان نزارباييف أي منفذ للمعارضة السياسية المستقلة لتعبئة الجماهير. ولم تأت هذه الاحتجاجات بعد انتخابات مثيرة للجدل مثلما هو الحال مع الثورات الملونة التي اندلعت في جورجيا سنة 2003، وأوكرانيا سنة 2004، وقرغيزستان سنة 2005.
مع أن هذه الاحتجاجات تفتقر إلى التأطير والتوجيه السياسي، إلا أن ما وحّد بين المحتجين هو الشعور القاسي بأن الوضع الراهن لم يعد محتملًا
حتى بغياب التأطير السياسي أو سرقة الانتخابات، زادت المظالم الشعبية في السنوات الماضية بين مختلف فئات المجتمع: عمال المناجم الساخطين في حقول النفط، والأمهات اللاتي يطالبن بمساعدات اجتماعية أفضل، والمنظمات الشبابية التي تتوقع تغييرات سياسية، والأحزاب السياسية التي تنشط سرًا سعيا للتمثيل الوطني. لبعض الوقت، بدا أن هذه المجموعات رغم اختلافها لا يفصل بينها التضارب في المطالب والتوقعات.
وحّدت المظالم المتباينة سكان منطقة زاناوزن الغنية بالنفط الذين لم يعد بإمكانهم تحمل تكاليف السلع الأساسية مثل الغاز النفطي المسال، حيث شكّل العمال المُنخرطون في النقابات العمالية المحلية ركيزة الاحتجاجات الأولية. وبفضل ما يزيد عن عقد من الخبرة في مجال التعبئة من أجل حقوق العمال، حددوا في الرابع من كانون الثاني/ يناير مطالب واضحة لانتخاب المحافظين ورؤساء البلديات لضمان مساءلة المسؤولين السياسيين أمام السكان المحليين وليس أمام السلطات المركزية. واستبقوا حدوث أي قلة تنظيم بين الحشود من خلال تعيين ما يسمى بـ “القادة المدبرين والمحرضين”. وأخيرًا، نصبوا خيمة كبيرة مزودة بالإمدادات الغذائية، والحمامات المحمولة، ومنصة مجهزة للتعبير عن مظالمهم.
كان هيكل الاحتجاجات في ألماتي ونور سلطان مختلفا وأكثر تنوعًا. وتوضح عالمة الاجتماع ديانا كودايبيرجينوفا من جامعة كامبريدج في بحثها المستمر أن كلا المدينتين تشكلان مركزا للحركات السياسية، بما في ذلك الأحزاب السياسية غير المسجلة مثل “حزب الاختيار الديمقراطي لكازاخستان” بقيادة الصحفي المعارض جانبولت مامي، والحركة السياسية الشبابية أويان قازاقستان (استيقظي كازاخستان)، والحركة الجمهورية، وحزب التريجى غير المسجل. وقد دعا قادة هذه المجموعات السياسية أنصارهم إلى النزول إلى الشوارع تضامنا مع متظاهري زاناوزن.
لكن العدد النهائي للأشخاص الذين احتشدوا كان غير مسبوق حتى بالنسبة لأولئك الذين كانوا يحتجون باستمرار في ألماتي منذ شهر آذار/ مارس 2019، عندما تنازل نزارباييف طواعية عن الحكم. انضم العديد من المواطنين العاديين المستائين من ظروفهم المعيشية إلى هذه الاحتجاجات. وقد ركزت مطالب الاحتجاجات الحضرية في الغالب على التغييرات السياسية وزيادة الدعم الاجتماعي.
بدأت صور الاحتجاجات بالانتشار على منصات التواصل الاجتماعي ما بين الثاني والخامس من كانون الثاني/ يناير، وأثارت موجات من التجمعات السلمية المتفرقة في جميع المدن الرئيسية في البلاد. كانت الاحتجاجات الأولية سلميةً وتوحدها المظالم الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن الأزمات الاقتصادية المستمرة منذ فترة طويلة التي تعصف بالفئات الفقيرة في جميع أنحاء البلاد.
مع أن هذه الاحتجاجات تفتقر إلى التأطير والتوجيه السياسي، إلا أن ما وحّد بين المحتجين هو الشعور القاسي بأن الوضع الراهن لم يعد محتملًا، والمطالبة بتغييرات سياسية حقيقية للقضاء على الفساد المستشري والحد من عدم المساواة الاقتصادية. لقد اتحد الجميع لفترة قصيرة من 4 كانون الثاني/ يناير حتى اندلاع أعمال العنف والشغب في ألماتي بعد يوم واحد.
خلال الأسبوع الماضي، بدا أن كازاخستان في طريقها نحو انتقال سياسي من نظام حكم الأقلية إلى نظام تطالب فيه المزيد من الأصوات بإدراجها في الحوار العام
استجاب النظام الكازاخستاني بسرعة بعد ظهور مستوى غير مسبوق من الوحدة والعمل الجماعي بين المواطنين. شكّل توكاييف لجنة خاصة لعقد حوار مع متظاهري مانجيستاو بعد يوم واحد فقط من اندلاع المظاهرات، ووعد بتجميد سعر غاز البترول المسال لمدة 180 يومًا – وهو وقود لا يزال يُستخدم في تشغيل السيارات القديمة.
تضمن البرنامج الاقتصادي الذي عرضه النظام مقترحات “للتحديث السياسي” – وهو ملخص غامض للتغييرات المستقبلية. لكن بمجرد وصول اللجنة الحكومية إلى مانجيستاو، طالب المتظاهرون بالإصلاحات السياسية والاستقالة الفورية لحاكم المقاطعة وإرساء المزيد من الديمقراطية، والانتقال إلى جمهورية برلمانية. وسرعان ما ظهرت نفس المجموعة من المطالب في أجزاء أخرى من البلاد.
دأبت قيادة كازاخستان طيلة 30 سنة منذ الاستقلال على تأكيد أهمية الاستقرار السياسي على حساب الحكم الهرمي، لكنها ربطته مع ضمان النمو الاقتصادي بفضل الموارد الطاقية والثروات المعدنية الضخمة في البلاد. لكن توزيع هذه الموارد غابت عنه المساواة، ليستحوذ النظام على معظم الثروات ويتقاسمها مع دائرة داخلية من طبقة النخبة.
سيطرت هذه الدائرة الضيقة من التابعين للنظام على المؤسسات الاقتصادية الأكثر ربحًا واستغلت دعم الدولة لتوسيع شبكة الشركات التابعة لها. في المقابل، كان عامة الناس يعيشون برواتب متدنية ويعتمدون على الاقتراض من البنوك التي تسيطر عليها نفس الأطراف. انخرط الكثير من المواطنين في تقديم خدمات سيارات الأجرة غير المرخصة كمصدر ثاني للدخل، بينما كانت أسعار غاز البترول المسال المنخفضة ضرورية بالنسبة لهم. لم تعد هذه البنية ثنائية المستوى قادرة على الاستمرار أكثر بعد ارتفاع أسعار الغاز ما أطلق العنان لمجموعة متكاملة من المظالم.
خلال الأسبوع الماضي، بدا أن كازاخستان في طريقها نحو انتقال سياسي من نظام حكم الأقلية إلى نظام تطالب فيه المزيد من الأصوات بإدراجها في الحوار العام. وغياب أجندة مفصلة أو زعيم يؤطر ويوجه الحشود في هذه الثورة الشعبية في كازاخستان علامة على عمق المظالم في ظل الوضع السياسي الراهن وجاذبية الاحتجاجات على نطاق واسع بين السكان. ولو استمرت الاحتجاجات لفترة أطول لكان ممكنا بروز قادة جدد ومجموعة أكثر وضوحًا من المطالب.
فشلت التعبئة في تحقيق هدفها المتمثل في إصلاح كازاخستان وتجديد نظامها السياسي. لكن يستمر الكفاح رغم اختيار توكاييف الاعتماد على القوات المسلحة الخارجية بدلاً من المجتمع المدني المحلي.
لن يحل نهج توكاييف المتشدد الأسباب الكامنة وراء الاحتجاجات. وقد اكتسبت دوائر النشطاء المختلفة – التي كانت يائسة في السابق – إحساسًا جديدًا بالوحدة بسبب علاقاتها مع المواطنين، وهذه علامة فارقة في تطور الحركات الاجتماعية في البلاد. بالنسبة للكثيرين في كازاخستان، يظهر الزعيمان في القمة أنهما منفصلان أكثر من أي وقت مضى عن مواطنيهم. قد يكسب النظام بعض الوقت من خلال طلب مساعدة منظمة عسكرية إقليمية لقمع المعارضة الداخلية، ومن المرجح أن يكون هناك مستويات مماثلة من التعبئة في المستقبل. قد تعمل منظمة معاهدة الأمن الجماعي على تهدئة الجمهور في الوقت الحالي، لكن مصداقية توكاييف دُمرت بسبب قراره مناشدة منظمة عسكرية بقيادة روسيا للمساعدة في قمع الاحتجاجات الداخلية الناتجة عن مظالم محلية.
تعد الثورة الشعبية في كازاخستان التي انطلقت الأسبوع الماضي جزءًا حتميًا من مرحلة الانفصال عن الإرث الدائم للحكم السوفيتي والاقتصاد الذي تسيطر عليه النخب الفاسدة. طالب المتظاهرون بتفكيك مؤسسات دولة ما بعد الاتحاد السوفيتي المصممة لخدمة القادة في القمة. وتعد التعبئة الجماعية المناهضة للنظام علامة على أن المجتمع أكثر انخراطًا في السياسة ويتطلع إلى المشاركة في صنع القرار وتنظيم انتخابات حرة.
على عكس العمل الجماعي في بيلاروسيا، ظهر مجتمع مدني سري مفعم بالحيوية في كازاخستان لا يشبه الناشطين في أوكرانيا أو جورجيا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، الذين اعتمدوا بشدة على المنظمات غير الحكومية. يتسم المجتمع المدني في كازاخستان بالمرونة ويضم حركات مختلفة وناشطين أفراد مثل سوليمينوفا يوجهون رؤاهم السياسية من خلال الفن والمناقشات عبر الإنترنت وخارجها والاحتجاجات السلمية. وعلى عكس الربيع العربي، تدعو الحركات السياسية الرئيسية مثل “انهضي يا كازاخستان” إلى تحول سلمي وتدريجي للنظام السياسي ونسبة كبيرة من السكان على استعداد للمشاركة في ذلك، خلافا للاحتجاجات العنيفة التي تركزت في مدينة ألماتي سنة 1986.
مهدت المسيرات العفوية الطريق للانتقال السياسي في كازاخستان باتجاه حكومة أكثر شمولاً وتمثيلاً. وفي الوقت الحالي، فشلت التعبئة في تحقيق هدفها المتمثل في إصلاح كازاخستان وتجديد نظامها السياسي. لكن يستمر الكفاح رغم اختيار توكاييف الاعتماد على القوات المسلحة الخارجية بدلاً من المجتمع المدني المحلي.
المصدر: فورين بوليسي