تغيرت الموازين بين 14 يناير/كانون الثاني 2012 و14 يناير/كانون الثاني 2022، ففي التاريخ الأول كانت حركت النهضة في سدة الحكم، أما الآن فهي تقود جبهة المعارضة ضد الرئيس سعيّد الذي انقلب على دستور البلاد ومؤسساتها الشرعية.
لكن لسائل أن يسأل ما الذي قدمته النهضة لتونس خلال 11 سنة من وجودها في الحكم سواء كان وجودًا فعليًا أم صوريًا؟ وما الإخفاقات التي سجلتها خلال هذه الفترة من تاريخ تونس سواء في الحكم أم داخل الحزب نفسه؟ وهل ما زالت الحركة تتطلع للعب دور محوري في مستقبل البلاد السياسي؟ سنحاول في هذا التقرير لـ”نون بوست” الإجابة عن هذه الأسئلة.
إخفاقات متعددة
في السنوات العشرة التي أعقبت الثورة، أخطأت النهضة في العديد من المواضيع، خاصة أنها لم تكن مستعدة للحكم، فبين ليلة وضحاها وجدت نفسها الحزب الحاكم في تونس بعد أن منحها التونسيون أغلبية مقاعد المجلس الوطني التأسيسي أكتوبر/تشرين الأول 2011، وحينها لم يكن مشروعها واضحًا بعد؛ هل تركز عملها على صياغة الدستور وبناء مؤسسات الجمهورية الثانية أم تركز على الجانب الاقتصادي والاجتماعي، وهذا التخبط جعلها تفقد البوصلة، وتتحول من فاعل إلى مفعول به.
تضاعف خطأ النهضة في تلك المرحلة أنها لم تصارح التونسيين بوضع البلاد في جميع المجالات، وأخذتها العزة بالنفس وحمّلت نفسها مسؤولية تفوق قدرتها، ووعدت بالتنمية والتشغيل والنمو وغيرها من الوعود التي يصعب تحقيقها في تلك الفترة، إذ لم تحرص الحركة آنذاك على جرد وتقويم الخيارات المتبعة ما قبل الثورة وآثارها والوضعية الحقيقية للمالية والمؤسسات العمومية ولم تُطلع التونسيين على ما كان موجودًا قبل 14 يناير/كانون الثاني، حتى يتم الاتفاق على خيارات وطنية جديدة، ذلك أنها، كانت حزبًا سريًا احتجاجيًا، لم يجرب الحكم من قبل، ولا يعرف شيئًا عن دواليب الدولة.
إخفاقات داخلية كثيرة، من بينها تفشي المحسوبية في الحركة والتماهي مع بعض رجال الأعمال والأمنيين والنقابيين المتهمين بالفساد والتغطية على فسادهم
صحيح أن البلاد كانت في فترة استثنائية، لكن التركيز على صياغة الدستور في المجلس التأسيسي الذي تقود النهضة تفاصيله، كان أمرًا مرهقًا لتونس، فالبقاء لثلاث سنوات كاملة في هذه النقطة فقط أضاع على تونس العديد من الفرص.
حتى في تشكيل الحكومة الأولى التي أعقبت انتخابات المجلس التأسيسي أخطأت الحركة، فقد اختارت النهضة قيادات الصف الأول لقيادة المرحلة وشغل المناصب العليا في الدولة (وزراء، ولاة…)، رغم أنها كانت في السجون وبعيدة عن الإدارة التونسية.
ضمن أخطاء النهضة خلال السنوات الماضية أيضًا مسألة التحالفات، فأغلب التحالفات لم تبن على مراجعات صريحة وعميقة من الحركة، فوقعت النهضة في لبس كبير في علاقتها بمنظومة ما قبل الثورة، وأيضًا في علاقتها بالدوائر المتورطة في الفساد وخيارات لا وطنية أحيانًا، ذلك أن الوضع لم يكن واضحًا عند الحركة من البداية، ما حمّلها مسؤولية أكبر من طاقتها.
فضلًا عن ذلك، أخطأت النهضة كثيرًا في مسألة التعامل مع الحكومات المتعاقبة على قصر القصبة بعد الثورة، خاصة تلك الحكومات التي لم تكن طرفًا فاعلًا فيها، على غرار حكومة المهدي جمعة والحبيب الصيد ويوسف الشاهد وهشام المشيشي، إذ لم تكن النهضة ممثلة في هذه الحكومات تمثيلًا يعكس حجمها الانتخابي، ومع ذلك تحملت وزرها وفشلها، ما يعارض الأقاويل الشائعة بأن النهضة كانت تحكم طيلة السنوات الماضية، رغم أنها كانت في الغالب ممثلة بوزير وبعض كتاب الدولة.
يضاف إلى ذلك إخفاقها في فترة ترؤس الحكومة، أي في عهدي حمادي الجبالي وعلي العريض، ذلك أن خلال فترة حكمها اعتمدت ما يسمى سياسة “الأيادي المرتعشة”، فلم تكن الحركة صارمة في التعبير عن خياراتها، ما جعلها تتماهى في بعض الأحيان مع العديد من المتهمين بالفساد.
ومن الأخطاء الكبيرة للنهضة، ترشح زعيمها راشد الغنوشي لرئاسة البرلمان، فترؤس الغنوشي للبرلمان أثر سلبًا على عمل مجلس نواب الشعب، وأعطى دفعًا كبيرًا للعديد من القوى الساعية لترذيل العمل التشريعي في تونس.
كما لم تعمل الحركة جديًا لتشكيل المحكمة الدستورية، التي استغل الرئيس قيس سعيّد غيابها لتأويل الدستور وفق الرؤية التي تخدمه، ومكنته من السيطرة على البلاد بعد تعليق عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإقالة الحكومة. ليس هذا فقط، ففي أغلب المراحل التي أعقبت الثورة، كانت النهضة أسيرة حساباتها الحزبية والنقابية وعلاقتها الخارجية، وعوض أن تحتوي المنظومة القديمة تم احتواؤها وأصبحت غير قادرة على الفعل ولا تقديم الإضافة.
نجحت النهضة بعض الشيء في الخروج من الحزب السري الاحتجاجي إلى الحزب السياسي الحاكم
“الأيدي المرتعشة لا تصنع التاريخ ولا تقدر على البناء”، هذا حال النهضة بعد الثورة، عملت حسابًا للجميع، للأحزاب والنقابات وسفارات الدول الأجنبية والمنظومة القديمة، إلا الشعب لم تعمل له حساب، ما جعلها تفشل في الالتزام بوعودها تجاه البلاد.
سياسة النهضة الإعلامية أيضًا لم تكن موفقة في أغلب الوقت، فقد كانت قيادات الحركة مكلفة بالدفاع عن سياسات حكومات لا تشارك فيها، كأنهم ناطقون باسمها، ما أضر بصورتها لدى عموم الناس، فالنهضة وفق اعتقادهم هي من تحكم لكن واقعيًا كانت مجرد ديكور لتأثيث المسرح.
إخفاقات داخلية كثيرة، من بينها تفشي المحسوبية في الحركة والتماهي مع بعض رجال الأعمال والأمنيين والنقابيين المتهمين بالفساد والتغطية على فسادهم، إلى جانب إقصاء الشباب والعنصر النسائي من مراكز القيادة، فرغم ادعاء الحركة دعم الشباب والمرأة، فإن الواقع كان يقول عكس ذلك. نذكر أنه خلال الانتخابات التشريعية لسنة 2019 تم إقصاء العديد من الشباب من القوائم الانتخابية رغم اختيارهم من القواعد لتمثيل الحركة في الانتخابات.
نفس الوجوه بقيت في الصفوف الأولى، رغم ثبوت فشلها والدعوات المتكررة من هياكل الحركة للتغيير، هذا الأمر أثر كثيرًا على عمل النهضة داخليًا وعلى المستوى الخارجي أيضًا، ما جعل العديد من مقراتها تتعرض للحرق، فضلًا عن تراجع شعبيتها وتآكل رصيدها الانتخابي، حتى إن البعض يطالب بإقصائها من الحياة السياسية ومحاسبة قادتها، بعد أن حمّلوها مسؤولية ما وصلت له البلاد من أزمات عدة تكاد تؤدي إلى انهيار الدولة.
النصف الممتلئ من الكأس
لا تنفي هذه الإخفاقات الكثيرة لحركة النهضة وجود العديد من النجاحات والإنجازات للحركة خلال السنوات العشرة الماضية التي أعقبت الثورة التونسية، أبرزها مساهمتها المهمة في صمود التجربة الديمقراطية التونسية لفترة زمنية مهمة.
يقول القيادي في حركة النهضة محمد القوماني في هذا الخصوص، إن صمود الديمقراطية التونسية في وجه الهزات والثورة المضادة لمدة عشر سنوات، في وقت تم إجهاض العديد من الثورات الأخرى في المنطقة العربية بسرعة، كان للنهضة دور مهم وبارز فيه.
في حديثه لـ”نون بوست”، يؤكد القوماني أن النهضة ساهمت في بناء التوافقات في البلاد رغم النواقص الكبيرة التي تخللتها، إذ دخلت في توافقات مع العديد من الفعاليات السياسية في البلاد، بهدف إنجاح الانتقال الديمقراطي التونسي والنأي به عن تجارب دول المنطقة التي اتسمت عمومًا بالفشل.
إلى جانب ذلك، ساهمت النهضة، وفق القوماني، في صياغة دستور توافقي حاز موافقة أغلبية أعضاء المجلس التأسيسي، ونص على توزيع السلطات وركز على السلطة المحلية واللامركزية والحقوق والحريات وإرساء الهيئات الدستورية في البلاد.
ليس هذا فقط، إذ نجحت النهضة أيضًا في إقناع الناخبين ببرنامجها والفوز بكل الانتخابات التي عرفتها تونس بعد الثورة رغم النظام الانتخابي الذي لم يكن في صفها، ومع ذلك لم تكن النهضة تحكم، ففوزها في الانتخابات لا يعني أنها ستكون الحزب الحاكم، فقد كانت ضحية النظام الانتخابي، وفق محدثنا.
نجحت النهضة أيضًا، ولو كان الأمر نسبيًا، في المحافظة على مكانتها السياسية، رغم الهزات الأخيرة، ذلك أن النهضة خلال السنوات الماضية بقيت الحزب الأبرز في تونس، صاحب أكبر قاعدة جماهيرية، وهو الحزب الوحيد القادر على تحريك الشارع في أي وقت أراد.
حافظت النهضة على هياكلها، في الوقت الذي شهدت فيه العديد من الأحزاب انقسامات كبرى أدت إلى تشظيها حتى أصبحت لا تُرى بالعين المجردة، وأصبحت أشبه بالدكاكين الحزبية التي تُتح زمن الانتخابات فقط وتُغلق بعده مباشرة، ونجحت النهضة في هذا الشأن في إنجاز مؤتمرين علنيين بعد الثورة وتستعد لمؤتمر ثالث.
إلى جانب ذلك، نجحت النهضة بعض الشيء في الخروج من الحزب السري الاحتجاجي إلى الحزب السياسي الحاكم، وبدأت في طرح جملة من الأسئلة المفصلية المتعلقة بإدارة الشأن الداخلي وإدارة المشروع المجتمعي والسياسي والاقتصادي.
النهضة تأمل أن تبقى الحزب الأول في البلاد، لكن أن تكون أيضًا الحزب القادر على التغيير والمساهمة في تنمية البلاد
كما انطلقت النهضة في العديد من المراجعات، أهمها فصل الجانب الدعوي عن العمل السياسي، حتى تكون حزبًا مدنيًا متكاملًا، وشهدت النهضة بذلك تطورًا، حيث بدأت حركة عقدية تخوض معركة من أجل الهوية، ووصلت إلى كونها حركة احتجاجية شاملة تدعو إلى الديمقراطية، ثم ها هي الآن تعمل إلى أن تكون حزبًا ديمقراطيًا وطنيًا متفرغًا للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام.
تطلعات
مع ذلك لم تتمكن النهضة من الاستجابة لتطلعات التونسيين، ما أعطى حجة للرئيس قيس سعيّد حتى ينقلب على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية ويتحكم في مفاصل الحكم ويؤسس لنظام لا مكان فيه لأحد غيره، رغم الرفض الشعبي والخارجي الكبير لقراراته.
تركز النهضة الآن كل اهتمامها على التصدي لانقلاب سعيد، إلى جانب العديد من القوى المدنية المؤمنة بالثورة في البلاد، إذ شاركت في المظاهرات المنددة والرافضة لقرارات سعيد، ويشارك بعض قياداتها في إضراب الجوع للضغط عليه، كما تعمل النهضة إلى جانب العديد من الفعاليات السياسية في البلاد على حشد الدعم الدولي للديمقراطية التونسية المهددة، إذ تخشى أن تكون الإجراءات الاستثنائية التي أقرها سعيد إجراءات دائمة، ما يعني انهيار آخر حصون الربيع العربي.
بعد التصدي لانقلاب سعيد، على حركة النهضة أن تعمل جاهدةً لتطوير الحزب والتحول إلى حزب سياسي مدني له القدرة على الحكم وفهم تطلعات التونسيين والاستجابة لمطالبهم خاصة الاجتماعية والاقتصادية، فالتركيز فقط على الجانب السياسي لن يخدم التونسيين ولن يحقق مطالبهم.
النهضة تأمل أن تبقى الحزب الأول في البلاد، لكن أن تكون أيضًا الحزب القادر على التغيير والمساهمة في تنمية البلاد بالشكل المطلوب، فالتونسي الآن لن يقبل إلا الأحزاب التي تخدمه وتقدم الإضافة لبلاده، دون ذلك سيلفظها التاريخ وتكون من الماضي.