قبيل موعد 14 يناير/ كانون الثاني، ذكرى عيد الثورة التونسية عند معارضي الرئيس سعيّد، تتصاعد وتيرة الصراعات السياسية الداخلية مع سلطة الانقلاب على أكثر من جبهة، فقد برعَ الرئيس منذ 25 يوليو/تموز خاصة، في فضّ الناس من حوله، سواء الذين ساندوه في البداية ومن كانوا من المقرّبين منه، على غرار مستشاره السابق عبد الرؤوف بالطبيب، أو من كانوا متردّدين في ذلك على غرار بعض الأحزاب وقيادات منظمة الشغل، وشخصيات سياسية ووطنية وغيرهم، كل تلك العوامل كانت سببًا مباشرًا في اتّساع القاعدة المعارضة للإجراءات الرئاسية.
معركة القضاء على القضاء
منذ الوهلة الأولى للانقلاب، نصّب سعيّد نفسه رئيسًا للنيابة العمومية بعد أن نصّبها رئيسًا للسلطتَين التشريعية والتنفيذية، إلّا أنّ القضاة ممثَّلين في المجلس الأعلى للقضاء رفضوا ذلك، وأكّدوا في اجتماعهم به على استقلالية القضاء، وعدم خضوع القضاة لأية ضغوط أو تجاذبات سياسية.
وقد اقتنع بدايةً الرئيس بذلك، على أمل أن يتمكّن من تطويع السلطة القضائية وإخضاعها لإرادته و”نزواته”، إلّا أنّ الرياح على ما يبدو لم تجرِ بما اشتهاه الرئيس وتمنّاه، وبدت معركة تركيع القضاة ظاهرة في معظم خطابات وكلمات ساكن قرطاج، الذي لم يفوِّت مناسبة أو من دون مناسبة إلّا وتعرض للقضاة “الفاسدين” وممتلكاتهم وعلاقاتهم، في محاولة منه للضغط على المجلس الأعلى للقضاء كي يأتمر بأوامره ويخضع لـ”سلطانه”.
وكان من المخطَّط أن يحاكي الرئيس سيناريو تجميد البرلمان لحلّ مجلس القضاء، فبدأ أنصاره ومساندوه من خلال صفحاتهم شنّ حرب “قذرة” على القضاة لم تسلم فيها الأعراض ولا العائلات ولا الأبناء، كالوا فيها كل التُّهم لعدد كبير منهم، بل وصلَ الأمر إلى رفع شعار “تطهير القضاء” تمهيدًا لمظاهرة حاشدة كانت مبرمجة يوم 17 ديسمبر/ كانون أول الماضي، يتمُّ على إثرها “الاستجابة” لمطلب “الجماهير” و”الشعب” وحلّ المجلس الأعلى للقضاء.
إلا أنّ الأمر مرة أخرى لم يَسِرْ كما خطّطَ الرئيس وحاشيته، فلم يخرج من مسانديه في اليوم المشهود إلا بضع عشرات، فيما كانت من الجهة الأخرى مسيرة ضدّه عدّت بالآلاف.
بيد أنَّ سعيّد لم يستسلم وواصل في سياسة استهداف القضاة ومجلسهم وجمعية القضاة، لا سيما بعد أن استشعرَ عدم التجاوب معه ومع حاشيته، خاصة بعد أن ورّطَ القضاء العسكري في عدّة مناسبات جعلت منه محلَّ انتقادات كثيرة داخلية وخارجية.
وكانت حادثة وزير العدل الأسبق ونائب رئيس حركة النهضة، نور الدين البحيري، الكاشفة التي كشفت المستور من محاولات إخضاع القضاء للأوامر الفوقية، حيث قال رئيس جمعية القضاة إن الرئيس سعيّد طلب من 3 قضاة إيقاف البحيري، ولكنهم رفضوا لعدم كفاية الأدلة.
اضطره هذا الرفض للاستنجاد بوزير داخليته، واختطاف البحيري بطريقة ميليشياوية وفق تعبير كثيرين في الداخل والخارج، واحتجازه دون مسوّغ قانوني أو قضائي بحجّة الإقامة الجبرية، وهو ما يشير إلى مساعي رئاسة الجمهورية لإخضاع خصومها السياسيين عبر عدد من القضاة، لا سيما بعد نجاحها في الحصول على بطاقة جلب، ثمّ حكمَت بالسجن ضدّ الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي.
ورغم تنبيه القضاة في أكثر من مناسبة، وبيان رفضهم القاطع لمحاولات الرئيس حلّ المجلس أو تسيير السلك عبر المراسيم الرئاسية، إلّا أن المؤشرات توحي بأن سعيّد ماضٍ في مسعاه ولن يستسلم للأمر الواقع، لا سيما أنه مؤمن بأنَّ كل القطاعات أو جُلّها فاسدة ومتآمرة وتعمل خارج سلطة الدولة، فهو يسعى إلى قضاء شبيه بقضاء ابن علي يمنح صلاحيات محدودة للقضاة، ويبقي القضاء تحت جناح السلطة التنفيذية وإرادة الدولة فقط.
دعوات للحشد والاحتجاج
بالتزامن وفي السياق ذاته، لم تفوّت مبادرة “مواطنون ضد الانقلاب” بكل من فيها من شخصيات وأحزاب، الفرصةَ للدعوة إلى التحشيد والتعبئة للاحتجاج ضد الانقلابيين يوم 14 يناير/ كانون الثاني ذكرى الثورة، خاصة بعد أن تعرّضوا للتعنيف والضرب وفكّ اعتصامهم يومَي 17 و18 ديسمبر/ كانون الأول، ما دفع عددًا منهم للدخول في إضراب جوع لأكثر من أسبوعَين لحدّ الآن، من أجل لفت النظر نحو الواقع الجديد الذي فرضته التأويلات التعسُّفية للدستور يوم 25 يوليو/تموز.
تلك الممارسات ضد النشطاء واستمرار غلاء المعيشة، بل انقطاع مواد غذائية رئيسية ومدعومة من الدولة من الأسواق، إضافة إلى استمرار الاحتكار في سلع أخرى، كمواد البناء والاستمرار الجنوني في ارتفاع أسعارها؛ كلها عوامل ساعدت جبهة معارضي الانقلاب السياسية على مزيد من التوسُّع.
وعلى رأس الجبهة مبادرة “مواطنون ضد الانقلاب”، التي تدفع نحو انضمام المزيد من القوى الديمقراطية والشخصيات الوطنية إليها، وقد نجحت بعض المساعي في ذلك، حيث من المنتظر أن يتمَّ انضمام وجوه جديدة للمبادرة، من السياسيين ورؤساء الأحزاب الذين يرفضون الانقلاب.
ولا يمثّل وجود حركة النهضة بينهم عائقًا للتصدّي للانقلاب ومحاولة الرئيس سعيّد تطويع الدولة، وفرض برنامجه السياسي والسير بالبلاد نحو سيناريو مجهول، في ظلّ وضع متأزِّم وكارثي، لا سيما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي كما سبقت الإشارة، حيث بلغت العلاقة مع المنظمة الشغيلة أُفقًا مسدودًا، ما ينبئ بمزيد تأزُّم الوضع واشتعال الاحتجاجات والتحركات الشعبية، لا سيما على المستوى الداخلي في الجهات التي ما زالت تعاني من الفقر والبؤس والتهميش.
وقد صرّحت عدة أحزاب للخروج بشارع الثورة يوم 14 يناير/ كانون الثاني، منها التيار والتكتل والجمهوري والعمّال والنهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس والتحالف المدني الوطني وغيرهم.
ورغم تفاقُم عدد الإصابات بفيروس كورونا وخطر انتشار المتحوّر الجديد أوميكرون، بالتزامن مع توصيات اللجنة العلمية بمنع التجمُّعات، إلاّ أن معارضي سعيّد عازمون على الخروج للاحتجاج ضدّ الانقلاب يوم 14 يناير/ كانون ثاني الذي يعتبرونه يومًا رمزيًّا للثورة التونسية، حيث هرب فيه الدكتاتور ابن علي، وانتصرت إرادة المنتفضين، ورأوا أن قرار حظر التجول وإلغاء التظاهرات بكل أنواعها في كامل تراب الجمهورية، لم يكن لغرض صحّي بل لمنع الاحتجاجات ضد الانقلاب المبرمَج له منذ مدة.
أمين عام حزب #التيار_الديمقراطي #غازي_الشواشي، في تصريح للعربي الجديد: قرار سياسي وراء منع الاحتجاج يوم 14 حانقي وإحياء ذكرى الثورة التي أراد رئيس الجمهورية محوها بجرة قلم من الروزنامة والتاريخ…وهذا هو المنع ذو طابع سياسي ومحاولة لتوظيف الوضع الصحي لمنع التونسيين من الاحتجاج.
— محمد ضيف الله (@qr8SXClCAd0Tndc) January 12, 2022
في المقابل، ظهرت تهديدات من بعض أنصار الرئيس، منقسمين بين الاحتجاج للمطالبة بما سمّوه “إصلاح القضاء” الرافض لمواقف قيس سعيّد، وإمكانية منع الاحتجاج وعدم السماح به بذريعة الوضع الصحّي.
جبهة جديدة مع الصحفيين
وكأن الرئيس سعيّد لم يكتفِ بتوسُّع دائرة معارضته السياسية والاجتماعية، ليفتح جبهات جديدة مهنية ضدّه، منها أهم قطاع في البلاد وهو القطاع الصحفي والإعلامي، بعد جبهاته ضدّ كل من المحامين والقضاة.
كانت استهانة الرئيس وفريقه بالصحفيين متواترة ومتواصلة، ولم تكن كما المعهود به، فلأول مرّة تعقد رئاسة الجمهورية ندوة صحفية من دون حضور الصحفيين، كما سبق أن منعت الصحفيين من التوجُّه بالأسئلة لسعيّد، خلال لقائه الإعلامي مع الرئيس الجزائري عبد الحميد تبون.
هذا إلى جانب ما صدرَ مؤخرًا من بيان نقابة التلفزة الوطنية التونسية، حيث انتقدت الأوضاع بالمؤسسة وتسييرها عبر التعليمات، كما منعت الرئاسة السياسيين وممثّلي الأحزاب من الحضور والظهور في برامج التلفزة الوطنية، وهو ما انتقده مؤخرًا نقيب الصحفيين، ناهيك عن التصريح الأخير لسعيّد نفسه، عندما قال إنّ الإعلاميين يجب أن يضعوا أنفسهم بين ظفرَين، والحال أن الهياكل الرسمية في قطيعة تامة مع وسائل الإعلام في سابقة لم تحدث حتى قبل الثورة.
“خطر كارثي داهم” على الصحافة في ظلّ استيقاء المعلومة من الصفحة الوحيدة والرسمية لرئاسة الجمهورية، ما قد ينذرُ بتدنّي تصنيف تونس في المؤشرات الدولية لوضع الصحافة والصحفيين، بعد مكاسبها المتقدمة التي شهدَ بها القاصي والداني، دون اعتبار خطورة المحاكمات والتتبُّعات والتضييقات.
هذه الأحداث والمؤشرات تدلّ على مدى تأزُّم العلاقة بين الرئيس سعيّد والصحفيين، وحتى في القطاع الإعلامي العمومي، بل لم يخرج سعيّد بعد أكثر من سنتَين من توليه، دون اعتبار مقابلة يتيمة على التفلزيون الرسمي وعدَ بها سابقًا بأي لقاء مع وسيلة إعلامية تونسية خاصة أو عامة، بينما أجرى مقابلتَين اثنتَين مع تلفزيون فرنسي، فيما لم تخرج رئيسة حكومة الرئيس نجلاء بودن في أي حوار أيضًا بل لا نكاد نسمع لها مجرّد تصريح مقتضب.
كما لم يخرج الرئيس في أي حوار مكتوب، وظلَّ يكتفي دائمًا بكلماته المصوَّرة التي تبثّها صفحة الرئاسة والتي لا يتحدث فيها غيره، ويكتفي كل الحضور بالصمت وهزّ الرأس.
والحقيقة أن الرئيس سعيّد لم يخفِ من البداية امتعاضه من الصحفيين والإعلاميين، حتى إبّان حملته الانتخابية حيث ظلَّ يرفض كل الحوارات واللقاءات الصحفية إلا نادرًا، فلربما لا يريد الإحراج، ولا يحتمل الانتقادات أو سماع الرأي المخالف والأسئلة الصحفية التي يمكن أن تكون محرجة، رغم أنه لم يكن كذلك قبل قراره دخول عالم السياسة وخوض غمارها وأوحالها، حيث تصريحات المسؤولين ليست منّة بل واجبًا ينتظره الناس لمعرفة همومهم وتفاصيل واقعهم.