لا يخفى على أحد ما تقوم به “إسرائيل” ضمن مشروعها الاستعماري من احتلال كامل الأرضي الفلسطينية، وتهويد معالمها، وطرد الفلسطينيين منها، وذلك وفق أبجديات الفكر الصهيوني المنبثق في مؤتمر بازل عام 1897.
وقد بدأت البنادق والدبابات للمستوطنين في فلسطين المحتلة بتطبيق خطتها بعد المؤتمر بشكل غير مباشر، لدفع السكّان على الرحيل، قبل أن يوجَّه الرصاص والقنابل إلى الفلسطينيين إبّان النكبة عام 1948 لتأسيس المشروع الصهيوني الاستعماري بشكل رسمي.
ولم يكتفِ الاحتلال ببسط نفوذه على الداخل المحتل فحسب، بل يحاول حتى اللحظة في خطط التهويد والتغيير الديموغرافي في المناطق العربية الفلسطينية داخل الخط الأخضر، وقلبها لصالح مستوطنيه، وهو ما يفعله الاحتلال جليًّا في أراضي النقب المحتل جنوب فلسطين التاريخية، وما يحاوله من تهجير سكانه بالقوة.
صمود البدو في نصف فلسطين
على ما نسبته 40% تتفرّد المنطقة الصحراوية من مساحة فلسطين التاريخية، وتمتدّ من عسقلان على الساحل الغربي لوسط فلسطين وحتى رفح، ممتدة على طول الحدود مع سيناء، وفيها تقع 7 تجمُّعات عربية معترف بها، وهي رهط، تل السبع، عرعرة، اللقية، حوة، كسيفة وشقيب السلام، والتي تشكّل 56% من سكان النقب، يفتقرون فيها للبنية التحتية من صحة وطُرُق وتعليم وكهرباء وماء.
وضمن محاولات التهويد، منحت سلطات حكومة الاحتلال البدو في النقب الجنسية الإسرائيلية، لكنها لم تعترف بملكيتهم على 13 مليون دونم موزَّعة على 35 تجمعًا بدويًّا، ورغم وجودهم فوق أرضهم المحفوظة في التاريخ الفلسطيني، إلا أن حكومة الاحتلال تصرُّ على “عدم شرعيتها”، وترفض الاعتراف بها، وذلك في إطار محاربة البدو الفلسطينيين والظاهرة الأصيلة من حياة الشعب الفلسطيني وديموغرافيته، حيث يشكّل سكّان هذه المنطقة 44% من مجمل سكان النقب الفلسطينيين.
ويتعرّض النقب لمحاولات مستمرة من التهويد والتهجير، فمع قيام دولة الاحتلال والنكبة الفلسطينية عام 1948، أجبر الاحتلال قرابة الـ 100 ألف بدوي على الرحيل من منطقة النقب، وتحوّلَ أغلبهم إلى لاجئين في الأردن وشبه جزيرة سيناء وقطاع غزة المحاصر ومناطق الضفة الغربية المحتلة، خصوصًا مناطق الخليل والأغوار والقدس.
وفي عام 1976، أسّس أرئيل شارون، الذي أصبح رئيس حكومة الاحتلال فيما بعد، وحدةً حكومية خاصة، ليفرض قيودًا على حياة البدو في النقب، وقد أطلق على هذه الوحدة الخاصة اسم “الدوريات الخضراء”، وكانت جزءًا من وزارة الزراعة، وشُكِّلت لحراسة “أراضي الدولة وحمايتها من البدو والسيطرة عليها”.
وقد كانت هذه الوحدة الخاصة تأتي لمحاربة ما أُطلق عليهم “البدو المتسلِّلين”، في إشارة إلى البدو الفلسطينيين في النقب، وقد صادرت هذه “الدوريات الخضراء” مواشي البدو، وهدمت خيامهم، وفرضت غرامات عليهم بحجّة الرعي في “منطقة عسكرية مغلقة”.
فوبيا الديموغرافيا في النقب
لطالما كانت المخاوف الإسرائيلية في الداخل المحتل تنصبُّ بشكل أساسي على تزايد أعداد العرب مقابل وجود محدود لليهود، خاصة مع احتفاظ مدن وتجمعات سكانية بطابعها العربي، وقد أقرّت حكومة الاحتلال في سبيل هذا عددًا من الخطط القومية والاستراتيجية لمجابهة أي تفوق عربي سكاني على المستوطنين، باستخدام مختلف الأدوات العنصرية من خلال التهجير، مصادرة الأراضي، عمليات الهدم، التضييقات من قبل المستوطنين، وحرمان الفلسطينيين من أبسط الخدمات لدفعهم إلى الرحيل.
ولم يكن النقب بمعزل عن محاولات التغيير الديمغرافي هذه، ففي عام 2005 أقرّت الحكومة ما سُمّي بـ”الخطة القومية الاستراتيجية لتطوير النقب”، والتي تهدف إلى زيادة عدد اليهود في النقب ليصل إلى مليون نسمة، في الوقت الذي لا تزيد أعداد العرب عن 200 ألف نسمة.
وفي عام 2011، رصدت حكومة الاحتلال ميزانية قيمتها 25 مليون دولار للشروع في تنفيذ مخطط يقضي بإقامة 100 مزرعة جديدة، إضافة إلى 41 مزرعة فردية أقامها اليهود بشكل غير قانوني على أراضي الفلسطينيين في النقب، وستخصَّص مساحة مقدارها 80 دونمًا مجّانًا لكل عائلة يهودية توافق على الاستيطان بالمنطقة.
ولاحقًا، استهدف الاحتلال قرى النقب بالهدم والإهمال والحرمان من الخدمات الأساسية وسياسة رشّ المزروعات، وسلّمت سلطات الاحتلال أوامر هدم في السنوات الخمس الأخيرة لأكثر من 16 ألف منزل، وهدمَ الاحتلال في النقب أكثر من 10.769 منزلًا بين الأعوام 2009 و2019، وفق المجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها.
رغم وجود الاحتلال السياسي والعسكري والاقتصادي في الداخل المحتل عام 1948، ما زالت المدن العربية الفلسطينية هناك تحتفظ بوجودها وطابعها وتقاوم كل محاولات التهويد والأسرلة.
وفي محاولة لفهم ما يخيف الاحتلال من التواجد العربي في المدن الفلسطينية، منها النقب، وكذلك منطقة الجليل في الشمال الفلسطيني، نشرَ معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي عام 2017 دراسة عن المخاوف الإسرائيلية المتزايدة من مخاطر التوزيع الديموغرافي داخل دولة الاحتلال، وعن الآليات المتّبعة لتكسير التواجد العربي المكثَّف في مناطق معيّنة وتفريقه.
وبحسب المعهد، يشكّل تقويض التوازن الديموغرافي في النقب والجليل تهديدًا جيوسياسيًّا على “إسرائيل”، وهذا التهديد يمكن قراءته من خلال تاريخ الدول التي تشكّلت بأغلبية ديموغرافية على بقع جغرافية فيها، وهذه الأغلبية تشكّلت لديها نخبة طالبت بالاستقلال إمّا بشكل عنيف وإمّا بشكل سلمي.
وتنبع المخاوف الإسرائيلية من أن يتحول الشعور لدى المجتمع الفلسطيني في المناطق المحتلة إلى شعور أقليات داخل “إسرائيل”، خاصة مع تذمُّر فلسطينيي الداخل من الأوضاع السياسية والاجتماعية والتمييز الإسرائيلي بحقّهم، والتخوُّف الإسرائيلي الآخر في أنَّ تركُّز العرب في الجليل والنقب قد يصعّب المهمة أمام “إسرائيل” في إنفاذ القانون الإسرائيلي في هذه المناطق، خاصة فيما يخصّ البناء، وأيضًا أن تطبِّق هذه الأقليات لاحقًا قوانين محلية “عشائرية” ذات صلة بالدين واللغة، ما يؤثِّر على طابع دولة “إسرائيل” وهويتها.
وبينما استطاع الاحتلال بسط سيطرته المباشرة على أراضي فلسطين في الداخل المحتل، ما زال من خلال مشاريعه الاستيطانية يفرض سيطرته على أراضي الضفة الغربية، وفي الوقت ذاته، ورغم وجوده السياسي والعسكري والاقتصادي في الداخل المحتل عام 1948، فإنه لم يفلح بشكل كامل ولأكثر من 70 عامًا في مدّ نفوذه على كامل الأراضي والتجمعات السكانية، وما زالت المدن العربية الفلسطينية في الداخل المحتل تحتفظ بوجودها وطابعها وتقاوم كل محاولات التهويد والأسرلة.