في 28 سبتمبر/ أيلول 2013، عُرضت أولى حلقات أنمي “الهجوم على العمالقة”، (الأنمي هو فن ياباني للرسوم المتحركة له خصوصية في الرسم والتحريك تجعله مختلفًا عن الأسلوب الأمريكي في الرسم)، المُقتبس عن مانغا تحمل الاسم نفسه للمؤلف هاجيمي إيساياما (المانغا هي اللفظ الذي يطلقه اليابانيون على القصص المصوَّرة الخاصة بهم).
في عام 2014، بعد عرض الموسم الأول من الأنمي، وحسب مجلة “ماينيتشي شيمبون” اليابانية الشهيرة، ارتفع معدل بيع مجلدات مانغا “الهجوم على العمالقة” بشكل وصفته المجلة بشيء لا يحدث إلا مرة واحدة كل عقد، حيث ارتفع معدل البيع حسب تقارير أصدرتها شركة أوريكون اليابانية المتخصِّصة في الإحصاءات الفنية، إلى ما يقارب 30 مليون مجلد مانغا.
كان معدل الشراء جنونيًّا بالنسبة إلى مانغا حديثة نسبيًّا، لم يصدر لها إلا موسم واحد من الأنمي، فقد ارتفعت المبيعات بحلول نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 لتصل إلى 45 مليون مجلد، وفي ديسمبر/ كانون الأول للعام نفسه انفجرت المبيعات لتصل إلى 100 مليون نسخة مطبوعة، بالإضافة إلى كسره احتكار مانغا أنمي “وان بيس” لصدارة الأكثر مبيعًا بسلسلة امتدت لـ 5 سنوات.
بعدها، ومع امتداد الأنمي إلى مواسم عديدة، أصبح “الهجوم على العمالقة” واحدًا من أشهر سلاسل المانغا والأنمي على الإطلاق، وواصلَ تحقيق مبيعات خيالية، وامتدَّ صيته إلى كل أنحاء العالم، لدرجة أن العالم كله أصبح يقف على قدم وساق في انتظار الحلقات الجديدة حتى بعد انتهاء المانغا نفسها.
ساعدَ هذا في تكوين قاعدة جماهيرية عريضة، ليتحول الأنمي إلى ما يشبه الـ Cult له مريدوه، ينصبوه على عرش عالم الأنمي والمانغا، كالأنمي الأفضل على الإطلاق، متجاهلين حضور الثلاثة الكبار في عالم الأنمي والمانغا “وان بيس – ناروتو – بليتش”.
الغريب أن هناك الكثير من جمهور “الهجوم على العمالقة” لا يتابعون الأنمي أصلًا كفنّ، وربما لا يعرفون أي شيء عن عالمه، ولكن إذا سألتهم عنه سيردِّدون بسرعة مدهشة اسم Attack On Titan، هذه القدرة على جذب جمهور غير متابع أصلًا للفنّ ذاته، شيء يُحسَب لصنّاع المنتَج الإبداعي، لأنه شيء استثنائي، تقريبًا لم يحدث من قبل بهذا الشكل.
انتظر العالم بشغف الحلقة الخامسة من الموسم الرابع المسماة “إعلان الحرب” (A Declaration of War)، فتصدّر عنوانها منصات التواصل الاجتماعي تزامنًا مع ذكرى اغتيال السليماني وأخبار جديدة عن قضيته؛ حيث اعتقدَ الكثير من الأمريكيين -نظرًا إلى العنوان- بنشوب حرب عالمية ثالثة، في حال أعلنت الحكومة الأمريكية الحرب ضدّ إيران، لأن العنوان كان ملتبسًا قياسًا بالحدث، وهذا يعطينا فكرة عن مدى الاهتمام البالغ بالأنمي من قبل الجمهور، فلا حدود لانتشاره تقريبًا، خصوصًا مع انفتاح الوسط الإلكتروني.
ولكن ما هي الأسباب التي جعلته يصل إلى هذه المكانة؟ الموضوع لا يعتمد بشكل قطعي على التسويق أو استغلال الوسط الإلكتروني في الترويج للمنتَج الإبداعي، بقدر ما يتعلق بجودة الأنمي ذاته، من حيث الكتابة والرسم وبناء العالم، فاشتباك القصة مع المعقول والخيالي وتأطير الحكاية من منظور تاريخي وميثولوجي، ينجح في خلق عالم موازٍ يعكسُ تخيُّلات وتصوُّرات الكثير من الجماهير بشكل مدهش، ويطرح أسئلة وجودية صادمة، يتورّط من خلالها المُشاهد مع القصة في أكثر من جانب، ويغوص في عدد من الطبقات التي تكشف نفسها مع الوقت للمشاهد، ليبدأ ببناء طبقة جديدة بأسئلة جديدة.
وهذا ما يميّز أنمي “الهجوم على العمالقة” عن باقي أقرانه، فهو يهدف من خلال عالمه المتخيَّل أن يشتبك مع الواقع لا أن ينفصل عنه.
يقع الأنمي في عالم متخيَّل، حيث يعيش البشر داخل أرض محاطة بـ 3 أسوار تحميهم من العمالقة، تدور القصة حول شخصية إيرين الذي يشاهد العمالقة وهي تلتهمُ أمه فيقسم على إبادتهم ومحوهم من الكون، فيتطوع في فيلق الاستكشاف العسكري، ومع مرور الوقت يكتشف إيرين امتلاكه لقوة تتيح له التحول إلى عملاق، وبعدها تبدأ الكثير من الأحداث بالانكشاف، تجعل من حياة إيرين أكثر تعقيدًا وأشد خطرًا.
الاشتباك مع الواقع وإعادة التاريخ
من اللحظة الأولى في الأنمي سنجدُ أنفسنا محاصرين بشيء ما، ليس مجرد أسوار، بل بحقيقة الخوف من المجهول التي تطوّقنا دائمًا، ومحاولات استكشافه الخجولة التي تقابَل بصيحات نقد وسخرية لا تفقدها أهميتها على المستوى المعرفي.
وجودك داخل محيط الأسوار يغذّي فيك الشعور بالأمان الجسدي وحتى المعنوي، لأنك تدرك مساحة نفوذك كإنسان، بيقين يوازي وجودك نفسه، ولكنه على الناحية الأخرى يأخذ منك، فتحت طبقة الأمان السطحية، توجد طبقات من القهر والمَحبَس والكبت الجغرافي والمعرفي، لمنظومة اجتماعية منغلقة على ذاتها، تواجه خطر الاستنفاد الداخلي قبل خطر الانمحاق الخارجي.
وهذا النمط من العوالم لا يمكن ربطه بالدول المحتلة فقط، بل العالم ككُلّ، فالكثير من سكان الدول نظرًا إلى الانحدار الثقافي، لا ينظرون إلّا تحت أقدامهم ويحتجزون أنفسهم في ثقافتهم وتقاليدهم، خوفًا من الدنس الأجنبي.
يتمُّ تمرير القصة في عالم موازٍ، ككون متخيَّل، يخضع لمنطق معيَّن وقوانين مختلفة، ولكننا نرصد محاولة لصناعة تاريخ بديل، في عالم بديل، يتيح خيارات أكثر وسيناريوهات مختلفة، بيد أننا بغرابة نصل تقريبًا للنقطة نفسها، نمرُّ على الأحداث الرئيسية ونصل إلى النتيجة نفسها التي حدثت في العالم الحقيقي، وهذا يحيلنا لنظرية العود الأبدي، كأن الكون استنفد كل الأنماط والتشكيلات الممكنة ولم تبقَ إلا السيرورة المعقدة ذاتها.
ونجد في نقطة متقدِّمة من السرد، عندما تنكشف ملامح العالم بشكل أكثر وضوحًا، الحروب الكبرى، والصراعات المضنية على القوة، والحكومات الفاشية موازية للحكومات النازية، وممارسة القهر والعنصرية واحتقار جنس معيَّن من البشر لأن تاريخهم مختلف، بالإضافة إلى ظهور الكثير من التحالفات والمخططات للسطو على قوى العمالقة، الأمر أشبه بالحرب العالمية الثانية في القرن الماضي، الكل يريد الانتصار لهدف معيّن يراه خيرًا مطلقًا، الجميع يرى المشكلة من منظوره الخاص، ولكنه في الحقيقة لا يرى الصورة كاملة.
كتابة عمل مثل هذا شيء شديد التعقيد، لأن الأنمي لا يدور حول شخص مراهق، كما يصنّفه البعض Coming Of Age، ولكنه يدور حول عالم كامل، أشبه بفنتازيا بناء العوالم، عليك أن تتحكم بالإيقاع عبر استخدام تقنيات أدبية وفنية مختلفة، بحيث تدرك كمَّ المعلومات التي يمكن تقديمها للمتلقي لتبقيه متحمّسًا للفصل القادم، وهنا يحضر ميزان الكشف والحجب، الذي يلزمه معايير دقيقة للحفاظ على الرتم والإبقاء على القصة حتى الرمق الأخير بالزخم نفسه، بجانب ذلك عليه إبقاء سرديته متوازنة، فالأنمي فيه أكثر من شخصية رئيسية بجانب عدد كبير من الشخصيات الثانوية.
خيال إيساياما هو باب خلفي للواقع، استشعار للتاريخ ومحاكاة لأطروحات أخلاقية في سياق موازٍ، إذ الكتابة هي إسقاط على واقع معاش أو تاريخ مدوَّن، كل شيء في هذه المانغا يمكن ربطه بالواقع، سواء معضلة الخير والشر التي تلازم أغلب الشخصيات طوال المسلسل، ويتغيّر موقفهم اتجاهها جرّاء معرفة معلومات جديدة عن العالم، أو على مستوى موقفهم الأخلاقي اتجاه العمالقة، الذي يتبدّل مع مرور الزمن.
ولم يتوقف الأمر على محاولة إسقاط الخيال على الواقع، والتعرُّض للتاريخ من خلال الحكي، بل وصل إلى الاقتباس المباشر من الواقع لأشكال شخصياته، فالعملاق المدرَّع مقتبس عن شكل المصارع المحترف الشهير بروك ليزنر، وشخصية القائد دوت بيكسيس مقتبسة عن الجنرال الياباني أكياما يوشيفورو، الذي كان قائدًا لقوة احتلال عسكرية في كوريا خلال سنوات الإمبراطورية اليابانية، ويتمُّ تصنيفه كمجرم حرب.
التماسّ بين السردية الخيالية والأسطورية
في أغلب الأحيان، يستلهمُ مؤلِّفو المانغا قصصهم من الثقافة الشرقية اليابانية أو الشرق آسيوية بشكل عام، بما تحمله من فيض قصصي على مستوى الخرافة واللاهوت، فمن السهل ملاحظة تأثُّر بعض الشخصيات الشهيرة في عالم الأنمي بالثقافة البوذية والميثولوجيا اليابانية، وهذا التأثر لا يتوقف على الشخصيات الرئيسية، بل يتغلغل في تركيب القصة وبناء العالم ذاته (Structure).
فالميثولوجيا اليابانية على وجه الخصوص ميثولوجيا ذات طابع قاسٍ وعنيف، يمكن تسكينها في البنية السردية بشكل يضفي على العالم بُعدًا فنتازيًّا أصيلًا، ابن بيئته، وليس ساذجًا ودخيلًا على العالم، بيد أن الأمر مختلف حين نتحدث عن مانغا “الهجوم على العمالقة”، لأنها تستند على ميثولوجيا غربية في تكوين عالمها، وتطوِّر سرديتها من منظور ثقافي مختلف، يبتعدُ عن الجانب الخرافي الشرقي ويتّجه للأسطورة النوردية الغربية كنموذج يمكن دمجه مع طبيعة الحكاية من حيث البنية التأسيسية، ليخرج بمنتَجٍ إبداعي يوافق الواقع في تاريخه وأسطورته أيضًا.
في عام 2018، قدّمت راتشل ترونج أطروحة بحثية تحت إشراف جامعة سان دييغو الأمريكية، بعنوان “Attack on Frost Giant: How Shingeki no Kyojin Examines the Nordic Cycle of Fate”، عرضت من خلالها مقاربة بين نظرية دورة الأقدار في الميثولوجيا النوردية وتطبيقها في أنمي “الهجوم على العمالقة”، بشكلٍ يحاكي ويسير بمحاذاة القصة الأصلية، واستشهدت بعدة ملاحظات تخلق أرضية مشترَكة بين الميثولوجيا والعالم المتخيَّل لهاجيمي إيساياما.
التشابه الكبير بين مستهلّ وأصل العملاق المؤسِّس يمير (Ymir) في المانغا وفي الأساطير النوردية، يوحي بتآلف شديد بين النظريتَين، حيث الاثنين يحملان الاسم نفسه، وكلاهما انبثق من جسده سلالة العمالقة، خرج جنس العمالقة من قطرة عرق يمير ومن أطرافه في الأساطير النوردية، وخرج جنس العمالقة في المانغا من موت يمير نفسه، فتحوّلَ إلى 9 عمالقة أشداء بقوى خاصة تميّزهم، وجسدا العملاقَين مهّدا العالم لجنس العمالقة ليعيشوا.
تضيف راتشل أن كلا العملاقَين تمَّت شيطنتهما وتصوّرهما تاريخيًّا في هيئة شرّ مطلق، وخطيئة حلّت على العالم لا يمكن غفرانها ولا تجاوزها بل يجب محقها من على الأرض، وتكمل الباحثة أطروحتها في حوالي 90 صفحة كاملة، وتبدأ في طرح نظرية دورة الأقدار والثلاث سيدات النورنيات، وغيرها من مقاربات للثيمات المرئية والمحكية ومدى تأثيرها على الحكاية، وكيفية التلاعب بمصير أولئك الذين يتشاركون الأسماء أو السمات مع شخصيات في الأساطير الاسكندنافية، من خلال تقديم نسخ خاصة بخيال الكاتب من المصائر الدورية وعجلة الأقدار التي تنتهي بالمصير نفسه.
يؤسِّس إيساياما لماضيه بأقصوصة أسطورية عن العمالقة، ويتعرّض للمثيولوجيا بطريقة تخدمُ النص الأصلي الذي يكتبه، بحيث يهوي بتوقعات الجمهور الذين يتوقّعون النهايات على أساس المقاربات بين الأساطير، ويقدّم اختيارات صادمة ومخيفة تفصل المتلقي عن نزعة المقارنة بين خطَّين متوازيَين.
ولا يمكننا الجزم أن إيساياما لم يصنع عالمه الأصلي، بل على العكس، يمكننا رؤية الكثير من الإشارات والأصوات السردية والبصرية الأصلية المصنوعة بشكل استثنائي، ولكن هذا ما يفعله الكاتب الجيد، يستغلّ العناصر الخارجية في الحكي، ويقتبسُ من الواقع والتاريخ والأساطير ما يفيد تأسيس أرضية صلبة يمكن البناء عليها، دون خوف من هشاشة التصور الإبداعي.
من الطبيعي التأثُّر بالثقافة التراكمية المخزونة، ولكن بأي حال هذا لا يمنع تصور عالم أصلي كما نشاهده في مانغا إيساياما، عالم يمكن الغوص في طبقاته السردية وتفاصيله حتى نصل إلى منطقة شديدة الظلمة.
في النهاية، سيبقى أنمي “الهجوم على العمالقة” واحدًا من أفضل وأنجح مسلسلات الأنمي على الإطلاق، بشخصياته المكتوبة بعمق واهتمام، وحبكته شديدة التعقيد، وعالمه المتفرِّد والمترامي، ومخلوقاته المشوَّهة العملاقة، وستظلُّ شخصية الكابتن ليفاي واحدة من أكثر الشخصيات حضورًا على الشاشة، بكاريزما متفجِّرة وحركات خاطفة واعتناء دقيق بالتفاصيل، ولا يمكن إغفال تطور شخصية إيرين الاستثنائية على كل الأصعدة، من طفل يسعى للانتقام إلى شابّ أكثر نضوجًا يسعى لتدمير العالم.