الصورة: فرحة العلماء العاملين بالمهمة رشيد في تولوز بفرنسا، بعد الهبوط الناجح لفيَلة
بعد سبع ساعات من الانتظار، جاءت لحظة الفرج باستقبال أول إشارة من المسبار الفضائي رشيد (Rosetta) في مركز التحكّم بالمدينة الألمانية دارمشتاد، مساء أمس. فبعد رحلة دامت عشر سنوات، هبط من رشيد المسبار الأصغر “فيَلة” (Philae) المخصص للهبوط على سطح المذنّب 67 بي (67P)، لتصبح وكالة الفضاء الأوربية أول من يصل إلى سطح مذّنب في تاريخ البشر.
ستعطي تلك المهمة الفضائية، والتي تكلفت أكثر من مليار ونصف دولار، فرصة نادرة للعلماء لدراسة سطح المذنب الجليدي والتغيّرات التي ستطرأ عليه حين يقترب أكثر من الشمس، ودراسة المذنّبات بشكل عام، والتي تتكون من مواد عتيقة تعود لما قبل تشكّل مجموعتنا الشمسية.
أظهرت الصور الأولى التي وصلت لنا من رشيد مناظر عجيبة لسطح مليء بالحُفَر والمنحدرات والشقوق، ويأمل الباحثون أن يحصلوا من فيَلة في المستقبل على تفاصيل تخص كيفية احتواء المذنّب على المياه والجزيئات العضوية المركّبة، والتي يُعتَقَد أن المذنبات نقلتها إلى الكواكب فيما بعد، لتُعطي الفرصة لنشأة الحياة، لا سيما على الأرض، الكوكب الوحيد المأهول طبقًا لما نعرفه حتى الآن.
صورة 1: صورة تُظهِر شكل المذنّب 67 بي، وموقع الهبوط أغيلكيا
كانت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا قد أرسلت، في عام 1986، مسبار “أيس” (Ice) الذي نجح في المرور عبر ذيل المذنّب هالي المعروف، كما قامت عام 2005، عبر المسبار “ديب إمباكت” (Deep Impact)، بقذف المذنب “تِمبل 1” (Temple 1) بقطعة ثقيلة من النحاس، غير أن هذه المهمات لم تطأ سطح مذنباتها مباشرة مثل فيَلة.
يمثل هذا الإنجاز نجاحًا كبيرًا لوكالة الفضاء الأوربية، والتي أطلقت رشيد عام 2004 من المطار الفضائي “كورو” الموجود في جويانا بشمال أمريكا الجنوبية (التابعة لفرنسا رسميًا)، فمنذ انطلاقه، هو ومسبار الهبوط المُلحَق به فيَلة، قطع رشيد 6 مليارات كيلومتر ليستطيع اللحاق بالمذنب 67 بي الذي يسير بسرعة تفوق 18 كيلومتر في الثانية.
تشير البيانات الأوّلية من المسبار أن الهبوط كان أفضل من المتوقع على سطح المذنب، غير أن باولو فيّري، مدير العمليات في وكالة الفضاء الأوربية، قال بأن زوج الحربون (آلة تشبه الحربة الموصّلة بحبل كتلك المستخدمة في صيد الحيتان)، والذي يضمن توازن المسبار في موقعه، لم ينطلق كما كان متوقعًا، وهو ما يثير القلق تجاه المسبار وقدرته على البقاء على سطح المذنّب لفترة طويلة.
يقع 67 بي حاليًا على بعد أكثر من 500 مليون كيلومتر من الأرض، بين مداريّ كوكبيّ المريخ والمشترى، وهو ما يعني أن الإشارات المنقولة من رشيد إلى هنا، والتي تسير بسرعة الضوء، تصل بعد حوالي نصف ساعة، ولذا فإن المعرفة المباشرة بما يدور، وقابلية التحكّم في المسبار من الأرض بشكل مباشر ولحظي، أمر مستحيل. لذلك، كانت تفاصيل الهبوط محسوبة سلفًا، ومُدمجة في المسبار عبر برنامج حاسوبي يعمل تلقائيًا.
قبل الأمس، تخوّف الكثيرون من فشل عملية الهبوط، نظرًا لطبيعة المذنّب الغريبة، والذي يشبه البطة في شكله، وكذلك لسطحه شديد الوعورة، حيث أن هبوط فيَلة كان ليفشل إن لم يحدث على سطح مستوٍ. في الواقع، لم تكن عملية اختيار موقع الهبوط صعبة لهذا السبب فقط، فقد ظل رشيد يدور حول المذنّب لفترة قبل أن يُطلِق فيَلة، راسمًا لنا خارطة تفصيلية للسطح ليتسنى للعلماء اختيار موقع يمكِّن المسبار من الرؤية الجيدة للمذنّب ككُل، ومن التمتّع بضوء الشمس لشحن بطارياته، وقد تم أخيرًا اختيار الموقع “أغيلكيا” على سطح المذنّب.
حين انطلقت المهمة، كان العاملون بوكالة الفضاء الأوربية يعتقدون بأن المذنب أشبه بثمرة البطاطس، وهو ما طمأنهم لأن تكون احتمالية نجاح الهبوط 75٪، ولكن حين اقترب المسبار أكثر، وأدرك العلماء شكل المذنب بدقة، هبطت تلك التوقعات إلى 50٪، قبل أن ترتفع مجددًا بعد دراسة العاملين بالمهمة لمزيد من التفاصيل، وبالتالي اختيار موقع هبوط مناسب.
بيد أن الثقة في هبوط ناجح تلاشت فجأة مساء الثلاثاء، قبل انفصال فيَلة عن رشيد بساعات، نظرًا لفشل دافع النيتروجين في الاستجابة للإشارات الصادرة من الأرض (الدافع هو الجزء الذي يزوّد المسبار بقوة دفع ليُقلِع عن سطح ما، مثل الصواريخ المنطلقة من الأرض، أو ليهبط تدريجيًا دون اصطدام بسطح آخر). كان مقررًا للدافع أن ينطلق قبل 60 ثانية من هبوط فيَلة كي يهبط المسبار دون أن يرتد بعد اصطدامه ويرتطم بشكل متكرر بسطح المذنّب، وهو أمر مؤكد الحدوث نظرًا لجاذبية المذنب الضعيفة (أضعف من جاذبية الأرض آلاف المرات) — يشبه ذلك الارتداد ما يحدث لكرة مطاطية تم إلقاؤها على سطح الأرض. حاول المهندسون لساعات إصلاح هذا العطل الحَرِج ولكن دون جدوى. صباح الأربعاء، قرر فريق التحكّم المضي قدمًا في عملية الهبوط بالرُغم من العُطل.
انفصل فيَلة عن رشيد في تمام الساعة 08:35 بتوقيت جرينيتش، وتلقى مركز التحكّم تأكيدًا بحدوث ذلك في الساعة 09:03، لتبدأ سبع ساعات من الانتظار والقلق. بعد انقطاع متوقع في الإشارة بين فيَلة ورشيد، تلقى رشيد في الساعة 11:00 إشارة من فيَلة، والذي بدأ بنشر أرجله والتقاط الصور، والتي كانت أولها بعد 50 ثانية فقط من الانفصال عن رشيد، ولم تكن سوى صورة لرشيد نفسه تُظهِر خلاياه شمسية بوضوح.
صورة 2: صورة للمسبار فيَلة بعد انفصاله التقطها المسبار الأم رشيد
قبل ساعة واحدة من نجاح الهبوط، أيقن الجميع أن فيَلة يسير بثقة نحو هبوط ناجح. يقول أولامِك، من مركز الفضاء الألماني، “بدا كل شيء مُذهلًِا.”
سيستمر رشيد في التقاط صور عالية الدقة من موقعه الدائر حول المذنّب، وسيجمع معلومات عن كثافة وحرارة المذنب وتكوينه الكيميائي، كما سيلتقط عيّنات من الغبار والغاز المتوقع انبعاثه حين يزداد عُنف نشاط نواة المذنب أثناء اقترابه من الشمس. أما فيَلة، فمن موقعه على السطح سيتسنى له الحفر بأعماق تصل لعشرين سنتيمتر، وجمع عينات من المواد الموجودة تحت السطح لإجراء الاختبارات عليها قبل إرسال نتائجها إلى الأرض.
توجد 10 معدات على متن فيَلة، منها جهاز بطليموس، وسيسخّن العينات ويحلل الغازات المنبعثة منها ليعطينا صورة عن العناصر المكوّنة للمذنب، وأيضًا جهاز “كونسِرت”، والذي سيمرر موجات راديو عبر سطح المذنّب الجليدي ليلتفطها رشيد على الناحية الأخرى، ويحلل تباعًا البنية الداخلية للمذنب (تمامًا كما عرفنا عن بنية الأرض عن طريق الموجات الزلزالية).
من المخطط أن تعمل مهمة رشيد حتى ديسمبر 2015، ولكن إذا بقي ما يكفي من وقود في المسبار، سيتمكن فريق التحكّم من تمديد عمر المهمة ستة أشهر إضافية، والقيام بتجارب أخرى، مثل دفع رشيد ليمر عبر السُحُب النفاثة المنبعثة من المذنب. أما بطاريات فيَلة فلا تدوم سوى 40 ساعة، وحين تنفذ ستبدأ بالاعتماد على بطاريات متجددة بضوء الشمس.
صورة 4: موقع رشيد والمذنّب من المجموعة الشمسية حاليًا
قد يظل فيَلة فاعلًا حتى مارس 2015، حين ستفقد الإلكترونيات الموجودة على متنه قدرتها على العمل بكفاءة نظرًا لارتفاع درجة الحرارة. حين يتوقف يموت تقنيًا مسبار فيَلة، قد يظل عالقًا بسطح لحوالي ست سنوات ونصف، قبل أن تتآكل الكثير من المادة الموجودة على سطح المذنّب، ليتهاوي فيَلة إلى الفضاء الفسيح.
المصدر: الغارديان