يحتشدُ العشرات من صحفيين وناشطين منذ الخامسة فجرًا أمام باب قاعه المحكمة العليا في مدينه كوبلنز الألمانية، منهم من قطع مسافة 600 كيلومتر، مثل مريم الحلاق وفدوى محمود، ويقفون في البرد، البعض يحمل الكاميرات ويصوِّر كل تفاصيل اليوم الأخير لما يُعرَف بمحكمة الخطيب.
فمن المقرَّر أن يصدر اليوم الحكم ضد عقيد المخابرات السابق أنور رسلان، وتنتهي أول محاكمة جنائية في العالم ضد عناصر من نظام الأسد بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، على حدّ وصف مكتب المدّعي العام الفيدرالي الألماني.
تُفتَح البوابة بعد ساعات من الانتظار في شتاء ألمانيا المظلم، يتدفق الجميع مسرعين باتجاه البوابة، للحصول على مكان في القاعة التي ربما لن تتّسع للجميع ويضطر بعضهم للبقاء خارجًا، فلن يُسمَح لعدد كبير بدخول القاعة بسبب إجراءات الوقاية من فيروس كورونا.
تمتلئ الصفوف الأمامية منذ اللحظة الأولى، حتى الذين لا يريدون الجلوس فورًا حجزوا أماكنهم بوضع أغراضهم عليها. تغصُّ القاعة بالناس على غير العادة، حيث كان يحضر بضعة أشخاص فقط، لا يتجاوز عددهم أحيانًا أصابع اليد الواحدة، لكن هذا اليوم هو يوم تحقيق العدالة كما تقول فدوى محمود.
كان من المتوقع أن يواجه أنور رسلان مدة طويلة بالسجن، أو الحكم المؤبَّد، ليس بسبب مشاركته بتعذيب وقتل الناس فقط، إنما لأنه كان مسؤولًا في أحد أفرع المخابرات السورية، أي أن “مساهمته في الجريمة ناتجة عن منصبه في التسلسل الهرمي للإدارة فرع 251” كما نصَّ الاتهام الموجَّه له، وعليه طالبَ الادّعاء العام الألماني بسجنه مدى الحياة.
بينما ينفي رسلان من جهته كل التُّهم الموجَّهة له، ويؤكد أنه جُرِّد من صلاحياته عام 2011 بسبب مساعدته لبعض المعتقلين، ما جعله تحت دائرة الشك بالنسبة إلى رئيس الفرع توفيق يونس ورئيس القسم 40 الذي له صلة مباشره بفرع الخطيب حافظ مخلوف، ولهذا طالب محامو الدفاع تبرئته ودفع تعويض له عن المدة التي قضاها في الحجز الاحتياطي أثناء المحكمة.
يشرح رسلان ظروف انشقاقه، قائلًا إن وضعه تحت الشك أكثر من مرة كان الحافز الذي دفعه للانشقاق، لم يذكر في كلمته التي ألقاها محاميه بالنيابة عنه في 6 يناير/ كانون الثاني 2022، الجلسة التي سبقت جلسة النطق بالحكم، دوافع مثل المطالبة بالحرية للشعب السوري أو العمل ضد النظام.
ذكر رسلان في كلمته أنه كان يتعاطف سرًّا مع المعارضة، وأنه لم يعذِّب ولم يقتل أي شخص، وأنه ساعد بإطلاق سراح 170 شخصًا من المعتقلين، حينها اتصل حافظ مخلوف بتوفيق يونس وسأله: “لماذا يطلق أنور رسلان سراح الإرهابيين؟”، حيث برر رسلان التصرف أمام رئيس الفرع يونس بأن “هؤلاء ليس لديهم أي سجلّ جنائي وهم ليسوا مطلوبين”، فقال له يونس: “أنت في عين العاصفة، وحافظ مخلوف سوف يجري مساءلة وسوف نتعرض للمساءلة إذا وجدَ شخصًا واحدًا أُطلق سراحه له علاقة او متورِّط”.
ويروي رسلان موقفًا آخر أن رئيس الفرع يونس قاله له إن “أهالي الحولة خونة”، وهو “تلميح لتخويني شخصيًّا” كما عبّر رسلان، وبعدها تمَّ تجريده من صلاحياته، لهذا يعتبره الدفاع أنه لم يشارك في قمع الثورة، وطالب بتبرئة المتهم وإطلاق سراحه.
واعتبر الدفاع أن الاهتمام الكبير بهذه المحكمة هي لأنها ضدّ شخص كان يعمل مع النظام السوري، وهذا الموضوع سياسي ولا يجوز على المحكمة أن تنظر إلى القضية من منظور سياسي، إنما أن تتعامل مع القضية بطريقة قانونية فقط، ولو كان ذلك محبِطًا للتوقعات السياسية للسوريين.
والدفاع يعتبر تبرئة رسلان هي تبرئة الرجل الذي اتُّهم بغرض سياسي، ولن تكون تبرئته هي تبرئة للنظام السوري.
يقول البرفيسور أور أميد أنغور، الذي قدّمَ العديد من الأبحاث عن سوريا، أمام جامعه أمستردام: “ماذا عن عمل رسلان لدى المخابرات قبل أن يجرَّد من صلاحياته؟ إذا عملت مع المخابرات ولم تجلب المعلومات ضد الناس وتعتقل الناس، سيتمّ طردك من المخابرات أو إحالتك إلى مكان آخر لا تملكُ فيه أي صلاحيات، هل يمسح التجريد من الصلاحية في آخر عام من عمل رسلان كل سنوات العمل لدى المخابرات السورية؟”، ويعتبرُ البرفيسور أنغور أنه لا بدَّ من عقاب الضبّاط من أجل العدالة لكل من لم يتمكّن من الكلام أمام المحكمة.
عندما هرب رسلان عام 2012 من سوريا، اعتبرته المعارضة انتصارًا سياسيًّا، من مبدأ كلّما زاد عدد الضباط المنشقين، كلّما تسارع انهيار النظام. هذه النظرة السياسية رشّحت رسلان مع غيره من الضباط المنشقين، الذين لم يحقَّق معهم كما حُقِّق مع رسلان في كوبلنز، ليمثّلوا المعارضه السورية في جنيف عام 2014، لإجراء محادثات مع مبعوث الأمم المتحدة الخاص بسوريا.
بعدها استطاع رسلان التعرُّف إلى شخصيات معارضة ساعدته في ظروف حياته الصعبة في الأردن، حتى سافر عام 2015 إلى برلين مع عائلته عبر برنامج خاص تابع للخارجية الألمانية، بعد أن رشّحَ اسمه المعارض المعروف رياض سيف.
بعد عام ذهب رسلان إلى الشرطة الألمانية، وأخبرهم أنه مراقب وهو خائف من انتقام النظام منه، وربما يتعرّض للخطف، وأعطى الشرطة سجلًّا بأوصاف أشخاص شاهدهم يلاحقونه مع التوقيت والمكان، لكن لم تلقى القضية أي اهتمام، حتى التقى أحد ضحايا التعذيب من فرع الخطيب أرسلان في برلين وتعرّف إليه، وتوجّه إلى الشرطة مباشرة وشرح عن معاناته داخل فرع الخطيب، وفي عام 2017 حُوِّلت القضية إلى مكتب الشرطة الجنائية الفيدرالي، الذي بدأ بالتحقيق مع رسلان.
لحظات ويدخل رسلان قاعة المحكمة، كل الأنظار تتجه إليه، فهو نجم القاعة اليوم، يبدو هادئًا بعض الشيء، تترصّده أنظار الجميع وعدسات الكاميرات عن قرب، يلتفت إلى محاميه، محاولًا إخفاء تعابير وجهه الذي يبدو عليه علامات تعب الشيخوخة.
يقطع دخول القضاة الضجيج في القاعة، يسود الصمت للحظة، يقف الجميع مترقّبين، يتكلّم القاضي بصوت عالٍ: “على المصورين مغادرة القاعه ستبدأ الجلسة”، يمشي المصورون إلى الخلف، موجهين كاميراتهم إلى رسلان، فهم لا يريدون تضييع آخر لقطة في آخر ثانية يُسمَح لهم فيها بالتصوير في القاعة، يُغلق الباب والكاميرات لا تزال تلمع أضواؤها حتى اللحظة الأخيرة قبل إغلاق الباب.
تمسك القاضية بورقة، في وسط صمت مريب. حكمت المحكمة على أنور رسلان بالسجن مدى الحياة لارتكابه جرائم ضد الإنسانية. رسلان العقيد الذين كان يهابُ الناس ذكرَ اسمه في سوريا، أو يدفعون المال للوصول إليه من أجل مساعدتهم، يقف مذهولًا أمام القضاة، تبدو عليه الصدمة.
يركض بعض الصحفيين إلى الخارج لإخبار وكالتهم بالخبر العاجل، أصوات المشي وفتح الباب يشوِّشان على صوت القاضية التي تابعت القراءة على الملأ دون توقف.
اعتبرت المحكمة أن المتهم رسلان، البالغ من العمر 58 عامًا، مدان بارتكاب جرائم ضد الإنسانية: 27 جريمة قتل و25 جريمة إيذاء جسدي خطير، منها الاغتصاب والتحرُّش، وسلب الناس الحرية واعتقالهم؛ وهو جزء من منظومة إجرامية لا تتجزّأ، فالمحكمة لم تكن فقط عن أنور رسلان، إنما عن نظام القتل والقمع السوري كله الذي كان رسلان جزءًا منه لمدة 26 عامًا.
اعتبرت عضوة البرلمان الأوروبي المختصة بالشأن السوري، كاترين لانجينسيبين، أن “الحكم هو إشارة مهمة، وأن العدالة ممكنة في العالم. طبعًا هذا تحقق بمساعدة الشهود فقط، الذين شهدوا رغم خوفهم على أقاربهم في سوريا. وهذا أقدّره بكلّ احترام”، لذلك تطالب كاترين لانجينسيبين بمناسبة صدور الحكم، باتّخاذ إجراءات أكثر في أوروبا من شأنها حماية المعارضة السورية.
لاقت المحكمة اهتمامًا دوليًّا، لأنها استطاعت أن تحاكمَ ضابطَين من ضبّاط النظام السوري، بعد فشل مجلس الأمن والمحكمة الدولية، وهذا بفضل قرار البرلمان الألماني عام 2002، بأنه “يمكن للدولة أن تقاضي الجرائم الدولية رغم أنها لم تحدث في بلدها ولا تؤثر على مواطنيها من مبدأ القانون العالمي”.
هذا ما اعتبره الكثيرون ميزة عظيمة لهذا المحكمة، لكن من يحاكَم هنا هم فقط الذين هربوا من سوريا، وربما من النظام نفسه، حسب ما يدّعي المتّهمون أنفسهم. وهذه المحكمة وغيرها لم تجلب أحدًا ممن لا يزالون يرتكبون الجرائم في سوريا، أو أشخاصًا مثل العميد الركن خالد الحلبي، الذي كان رئيسًا لجهاز أمن الدولة في مدينة الرقة، وعلي مملوك الذي زارَ أيطاليا ولم يتعرّض لأي مساءلة رغم أنه على قائمة العقوبات الأوروبية والأمريكية.
انتهت اليوم محكمة الخطيب في كوبلنز التي بدأت في أبريل/ نيسان 2020، بعد أن عقدت 108 جلسات استماع، وقد حضر المحكمة أكثر من 80 شاهدًا، منهم ضحايا التعذيب، بصفتهم مدّعين مشاركين.
كانت المحكمة قد أصدرت في وقت سابق الحكم على المتهم الثاني في ألمانيا إياد الغريب، وفصلت قضيته عن رسلان، وحُكم الغريب بالسجن لمدة 4 سنوات ونصف من قبل محكمة كوبلنز الإقليمية العليا في فبراير/ شباط 2021، بتهمة المساعدة والتحريض على جرائم ضد الإنسانية، وقد طالب بالطعن ولم يبتّ فيه حتى اليوم.