كثيرة هي الجيوش العربية التي كانت عصا للأنظمة الحاكمة الدكتاتورية على شعوبها، فتورّطت في القمع والظلم والدم، وأقحمت نفسها في السياسة والحكم لتؤسِّس لأنظمة شمولية عسكرية، لم تَزِدِ الأمة العربية غير تخلُّف وتقهقر على كافة المستويات، خاصة الاقتصادية والعلمية، ناهيك عن الاجتماعية والسياسية.
إلا أنّ الجيش التونسي يختلفُ كثيرًا عن معظم جيوش العالم العربي لعدة عوامل وأسباب، جعلت منه يتحوّز مكانة ومرتبة مهمّتَين لدى الشعب والرأي العام، رغم محاولات التوريط من هنا وهناك.
حُماة الحِمى
منذ ثورة 2011 وانطلاق شرارة الربيع العربي، كان للجيش التونسي دور مهم في حماية المتظاهرين والممتلكات العامة والخاصة، فكان إضافة نوعية إلى حماة الحمى والوطن كما وردَ في كلمات النشيد الرسمي التونسي، وإضفاء شحنة معنوية كبيرة على المعارضين للنظام القائم حينها، بسبب رفضه قمع المواطنين والتورُّط في الدم التونسي.
كانت بداية ذلك عندما رفض الجنرال رشيد عمّار، رئيس الأركان حينها، إقحام القوات العسكرية في الصراع السياسي وصدّ المحتجين في تالة من محافظة القصرين، ومؤازرة جهود القوات الأمنية التي أرهقتها التحركات الاجتماعية في عدة جهات ومناطق.
كما رفضَ عمّار قصف حي الزهور بالقصرين بعد تلقّيه أمر شفوي بذلك، مشترطًا وجود أمر كتابي في الطلب، ما جعلَ الرئيس يتراجع مع وزير دفاعه رضا قريرة عن تلك المغامرة.
أكثر من ذلك، رأينا الكثير من المحتجّين في المظاهرات يهربون إلى قوات الجيش للاحتماء من بطش “البوليس”، ويقوم الجنود بحمايتهم، بل التصدّي للقوات الأمنية في بعض الأحيان ونشوب خلافات بينهم، ومناوشات خفيفة أحيانًا أخرى.
وكان يوم 12 يناير/ كانون الثاني 2011 بمدينة صفاقس يومًا مشهودًا، عندما داست مدرّعات الجيش صور الرئيس ابن علي، التي كانت ملقاة في الطرقات، فكانت رسالة واضحة بأن الجيش التونسي لن يكون وقود حرب لأحد ضدّ الإرادة الشعبية، التي أفرزت الانتفاضة، ثم الثورة التي طالت كل الوطن العربي تقريبًا.
كان ذلك بعد تسريب عدة إشاعات في وسائل الإعلام المحلية والدولية، مفادها أن الجنرال رشيد عمّار وقف ضدّ ابن علي في قمعه للمتظاهرين، ورفضَ أوامره بتوريط الجيش، والاكتفاء فقط بحماية المنشآت العمومية الحساسة.
الجيش التونسي كان يعاني من تبعات النظام الدكتاتوري الفاسد إبّان حكم الرئيس الأسبق ابن علي، فقد تمَّ تجريده من أهم نقاط قوته منذ عهد بورقيبة، وهو جهاز الحرس الوطني، وإلحاقه بوزارة الداخلية خوفًا من الانقلابات
وبعد فرار الرئيس الأسبق ابن علي يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011، رفضَ رشيد عمّار، كما صرّح في عدة مناسبات، توريط الجيش التونسي والسياسة والاستيلاء على الحكم، بعد أن اُقترح عليه ذلك رسميًّا، بل قال بالحرف الواحد: “تعلمون معنى أن يحكم الجيش؟” في سؤال إنكاري يربط ذلك مباشرة بالدكتاتورية والاستبداد.
والحقيقة أن الجيش التونسي كذلك كان يعاني من تبعات النظام الدكتاتوري الفاسد إبّان حكم الرئيس الأسبق ابن علي، فقد تمَّ تجريده من أهم نقاط قوته منذ عهد بورقيبة، وهو جهاز الحرس الوطني، وإلحاقه بوزارة الداخلية خوفًا من الانقلابات العسكرية، كما قامَ نظام ابن علي بإهانة العديد من رموز الجيش الوطني ومحاصرتهم وتهميشهم لصالح قوات الأمن ووزارة الداخلية، إلّا أن الجيش الوطني بقيَ قويًّا ومتماسِكًا، وخرّج كفاءات كبيرة ساهمت في حفظ الأمن الداخلي والخارجي.
حامي الديمقراطية
كما كان للجيش الوطني التونسي دور مهم في ترسيخ النظام الديمقراطي في البلاد على مدى العشرية الأخيرة، رغم التهديدات الإرهابية، والمؤامرات التي حيكت ضدّ تونس من الداخل والخارج، فقام بتأمين كل المحطات الانتخابية التشريعية والرئاسية عام 2014، والانتخابات البلدية عام 2018، ثم الانتخابات التشريعية والرئاسية عام 2019، والسهر على سلامة إجراءاتها وإتمامها بكل شفافية ونزاهة، حيث كانت عربات الجيش تنتقل بين المحافظات ليلًا لتجميع الصناديق بالمراكز الانتخابية، ورسّخ في ذهن التونسيين تلك المصداقية الكبيرة التي رسمها إبّان ثورة الحرية والكرامة.
كما كان للمؤسسة العسكرية دور مهم في مختلف المحطات الصعبة، على غرار بعض الكوارث الطبيعية كموجات الفيضانات والبرد والحرائق الصيفية، وكذلك خلال جائحة كورونا، حيث قام الجيش بتأمين سير دواليب الدولة خلال فترة الحجر الشامل وغيرها.
ورغم محاولة بعض الأطراف السياسية كل مرة توريط الجيش في التجاذبات الحزبية بين الفرقاء، إلّا أن مؤسسة الجيش كانت دائمًا حريصة على أخذ المسافة نفسها من الجميع والحرص على الحيادية التامة، وحفظ مصالح البلاد العليا، وترسيخ النظام الديمقراطي الذي يحفظ لكل الأطراف حقوقها وواجباتها.
الانقلاب ومحاولات توريط الجيش
غير أنّ الأمور بدأت تتّخذ منحى آخر سياسيًّا إثر انتخابات 2019، وصعود الرئيس قيس سعيّد إلى سدّة الحكم، حيث بدأ تدريجيًّا إقحام الجيش في الساحة السياسية، بسبب ما وصلت إليه الأمور من تعفّن وفساد واختطاف جميع المؤسسات والفاعلين.
وكانت جائحة كورونا مناسبة سانحة لإضفاء شرعية على تعيين أحد القيادات العسكرية في منصب وزير الصحة، بل إلحاق بعض المهام بإدارات عسكرية، ثم سرعان ما بدأ الرئيس بالتلميح كل مرة إلى أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة، وتعددت اجتماعاته بقيادات الجيش، رغم أنه أثار جدلًا واسعًا خلال صراعه السياسي مع رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي من أجل السيطرة على وزارة الداخلية، عندما أعلنَ نفسه قائدًا أعلى للقوات العسكرية والأمنية، في محاولة لافتكاك سلطة الحكومة على وزارة الداخلية.
دخول الجيش في عملية غلق البرلمان كان غير متوقع من مؤسسة عسكرية، كانت دائمًا على خطّ الحياد والاستقلالية عن كل التجاذبات السياسية، فماذا لو كانت خطوة وصفها أغلب الطيف السياسي بالبلاد أنها انقلابية، وتؤسِّس لعودة الحكم الفردي الدكتاتوري.
في الوقت نفسه بدأت بعض الوجوه العسكرية المحالة على التقاعد، الدخولَ للساحة السياسية والتعبير عن مواقفها السياسية كل مرة، وبلغ الأمر حدّ إصدار بيان مشترَك لعدد من الإطارات العسكرية السابقة، دعت فيه رئيس الدولة وضع حدٍّ لحالة التقهقر والتأزُّم السياسي التي وضع فيها قيس سعيّد البلاد.
كما دعت إلى حوار مع رئاستَي البرلمان والحكومة، مع العلم أنه تمَّ تعفين الوضع السياسي في البلاد عمدًا من قِبل بعض الجهات السياسية داخليًّا وخارجيًّا، من أجل بلوغ مرحلة الابتزاز، وقبول أية خطوات مناهضة للحالة الديمقراطية التي كانت تعيشها تونس قبل انقلاب 25 يوليو/ تموز الماضي.
كما أثارت زيارة فجائية لرئيس الجمهورية بعد منتصف يوليو/ تموز 2020 لمقرِّ القوات الخاصة للجيش، وحديثه الغريب عن دور الجيش في التصدّي لكل من يريد الاعتداء على الدولة والشرعية داخليًّا أو خارجيًّا؛ العديد من التساؤلات والتأويلات، منها أنه تمَّ إبلاغ الرئيس حينها بوجود مؤامرة للانقلاب عليه من قبل جهات خارجية.
ولعلّ تسريب بعض الإشاعات كل مرة حول مؤامرات لاغتيال رئيس الدولة، جعلت الرئيس يقرّب الجيش إليه ويعوّل على المؤسسة العسكرية أكثر من أجل حماية الدولة، كما كان يردِّد دائمًا، رغم أنَّ عديد تلك الروايات حول محاولات ومخططات اغتيال الرئيس لم تكن إلا من وحي خيال بعض الأطراف السياسية والإعلامية، للتحضير لسيناريوهات أخرى لاحقة على ما يبدو.
ولعلّ كل ذلك جعل بعض القيادات الأمنية تنحاز إلى رئيس الدولة في إجراءاته التي أعلنَ عنها ليلة 25 يوليو/ تموز الماضي، من أجل الحفاظ على الدولة وحمايتها من الوقوع في مستنقع الصراعات السياسية، والاحتراب الأهلي.
لكن دخول الجيش في عملية غلق البرلمان كان غير متوقع من مؤسسة عسكرية، كانت دائمًا على خطّ الحياد والاستقلالية عن كل التجاذبات السياسية، فماذا لو كانت خطوة وصفها أغلب الطيف السياسي بالبلاد أنها انقلابية، وتؤسِّس لعودة الحكم الفردي الدكتاتوري.
لكن على ما يبدو تمَّ توريط الجيش نسبيًّا، في ذلك السيناريو الذي استند فيه الرئيس إلى الفصل 80 من الدستور، في تأويل خاطئ ومُخرَج من سياقه ومدلول لفظه الواضح.
ويبدو أن الجيش التونسي اليوم قد شعرَ بجسامة تلك الخطوة والورطة التي أوقعه فيها الرئيس، فتأويل الفصل 80 كان في غير محله، ولم تكن النية تجميد البرلمان مؤقتًا، بل هي عرقلته بصفة دائمة إلى حين انتخابات جديدة.
ومما فاقم تلك الورطة، أن الانتقادات والضغوط الخارجية للمؤسسة العسكرية التونسية باتَ لها دور مهم في تشكيل الموقف العام من الأحداث الحالية الجارية في البلاد، لا سيما بعد لقاء قائد القوات الأمريكية بشمال أفريقيا “الأفريكوم” في سبتمبر/ أيلول الماضي، لقيادات الجيش في تونس دون لقاء قيس سعيّد، ومطالبتهم بسحب المدرّعات العسكرية من مقر البرلمان.
هذا أيضًا في ظلّ متابعة الكونغرس الأمريكي لدور بعض قيادات الجيش في عرقلة الانتقال الديمقراطي بالبلاد، وكذلك في ظلّ دعوات التجييش للذكرى السنوية الحادية عشرة للثورة، 14 يناير/ كانون الثاني، من قبل القوى المعارضة للرئيس سعيّد وانقلابه الدستوري المُعسَكر.