مريم، سلوى والأميرة، عشرينيتان وقاصر، قتلن طعنًا في المنفى، وأُحرق وجه الثالثة بحمض النتريك داخل غرفة نومها. قصص تلخّص السلطة الذكورية في المجتمعات الشرقية، التي ترغمُ النساء، وليس لسببٍ إلا لتكوينهن البيولوجي، أن يتقنَّ تعلُّم قوائم خاصة بهن، تتضمّن المسموحات والممنوعات التي تنطبق عليهن وحدهن، بدءًا بالمظهر الخارجي وانتهاءً بالسلوك، مع التنبيه دومًا أنهن لا يمتلكن السلطة على أجسادهن وحياتهن وأحلامهن وقراراتهن، بل العائلة والمجتمع بأكمله هما من يمتلكانها.
تتكرر الجرائم ضد النساء بوتيرة أكبر تبعًا لعامل مشترَك بينها، هو هشاشة وضع النساء الضحايا إما لعوامل مرتبطة بالفقر الاقتصادي وإما لوجود سلطة ونفوذ لدى الجاني، فلم يعد غريبًا أن يصبح الدم ثمنًا وردًّا على النساء العربيات لقولهن “لا”، أو الاعتراض على تصرُّف لم يعد يخدم طموحاتهن.
وسط العاصمة الأردنية عمّان، قُتلت السورية مريم محمد (27 عامًا) بـ 15 طعنة في مناطق متفرِّقة في جسدها، على يد شابّ أردني، مطلع الشهر الماضي، تقدّمَ لخطبتها مرارًا إلا أنها رفضت، فأرداها جثة هامدة. المجرم (34 عامًا) لديه سجلّ جنائي وأدين سلفًا بـ”الإيذاء والذم والتهديد وحمل السلاح”، وهذا ما يسلِّط الضوء على أمر خطير هو عدم أخذ شكاوى النساء بجدّية، لأن الضحية أبلغت مرارًا عن مضايقات الجاني لها.
بعد أيام قليلة، في أحد شوارع ولاية شانلي أورفا (جنوب تركيا)، عُثر على الشابة السورية سلوى الهنيدي (22 عامًا) قتيلة، وعلى جثتها آثار طعنات عديدة في الصدر والظهر. اتضح لاحقًا أن القاتل هو إياد الحسن، شاب سوري، كانت الفتاة قد رفضت الزواج منه، وهدّدها بالقول: “إن لن تتزوجيني سأقتلك”، فاستغلَّ فرصة ذهابها إلى عملها، حيث كانت سلوى الهنيدي تعمل كمترجمة في مشفى بولاية شانلي أورفا، وتعيش مع طفلتها البالغة من العمر 4 سنوات بعد أن توفيَ زوجها خلال الأزمة السورية.
تقع جرائم القتل ضد النساء في مختلف المجتمعات، إلا أن وقوعها في بيئة حاضنة للعنف يجعلها مضاعفة، إذ تصبح البيئة مُشارِكة بالجريمة عبر محاولة إخفائها.
في أيلول/ سبتمبر الماضي، كانت الولاية التركية نفسها مسرحًا لجريمة أب سوري قتل طفلته، ابنة الـ 13 عامًا، بعد ضربها وحرقها بمادة “التنر” لرفضها الزواج كذلك. وقبل 7 أشهر، تسلّلَ شاب عراقي ملثّمًا إلى منزل مواطنته مريم الركابي (16 عامًا)، ودلف إلى غرفة نومها وسكب “التيزاب” (حمض النتريك) على وجهها لتشويهها، انتقامًا منها بعدما رفضت أسرتها زواجه بها لأنها “صغيرة السن والأولوية لدراستها”. أما الجاني، فلا يزال حرًّا طليقًا في حماية “معارف متنفّذين”، وفق أسرة مريم التي تأمل تسفير ابنتها للعلاج في الخارج، حتى تتمكّن من استئناف حياتها مرة أخرى، وتحريك العدالة لاعتقال الجاني ومعاقبته.
تقع جرائم القتل ضد النساء في مختلف المجتمعات، إلا أن وقوعها في بيئة حاضنة للعنف يجعلها مضاعفة، إذ تصبح البيئة مُشارِكة بالجريمة عبر محاولة إخفائها وتهريب المرتكب من العقاب، والمشكلة تكمن في غياب قوانين رادعة ومحاكمات جدّية وسريعة للمجرم.
“يطفئ ناره”
من الجانبَين النفسي والاجتماعي، ترى الاختصاصية النفسية علياء الشمّاط أن الجريمة تكون محصّلة لعملية تفكير، وربما قد تستغرق لحظات أو فترة طويلة، وأن هناك “صراعًا” يدور في ذهن الجاني بين قوتَين: قوة الدافع لارتكاب الجريمة وتتعلق بالغرائز الأساسية كالرغبة في البقاء أو الانتقام، وقوة المانع للتراجُع عن الجريمة بما تبقّى من إحساس بالرحمة أو بعض المشاعر المتبقية تجاه الضحية إن وجدت.
وتقع الجريمة متى تغلّبت قوة الدافع على قوة المانع، تقول الأخصائية، مشددةً على أن “كلما كان سلوك الجريمة مبرَّرًا/ قابلًا للتبرير بالنسبة إلى الجاني، أضعفَ ذلك قوة المانع”، ضاربةً بذلك مثال ما يُعرَف بـ”جرائم الشرف” المبرَّرة بغسل العار، وتُرتكب بكثرة وسهولة لوجود مسوّغات تنفي عن المجرم الإحساس بالذنب أو لوم الذات، بل يسارع لارتكاب الجريمة لـ”يطفئ ناره” كما يُقال.
ومن ناحية أخرى، تنفي المعالجة النفسية ستيفاني غانم أن يكون “الحب” دافعًا لهذه الجريمة أو جرائم مماثلة، فهذه الحالات لا تعكس حبًّا وإنما رغبة في التملُّك أو تعلُّقًا مرضيًّا، إذ لا يقود الحب إلى القتل أو التعنيف، وهؤلاء الذين يقتلون فتاة لرفضها الزواج هم ببساطة لا يؤمنون بحقّ المرأة في اتخاذ القرار، ويتذرّعون بالحب لتبرير جريمتهم.
رفض فكرة الاستباحة
تقول المديرة المشاركة لدى مركز كواكبي للعدالة الانتقالية وحقوق الإنسان، فاطمة قرنفل، إن معدلات الجريمة ترتفع ويتّسع نطاقها الجغرافي في المجتمعات التي تتعرض لحالات صراع مسلَّح، حيث تنحسر سلطة الدولة ويضعف دور القضاء أكثر؛ ويساهم في ذلك انتشار السلاح والفوضى الأمنية، هذه العوامل تُضعف الروابط العائلية والمجتمعية بسبب حالة التشرذم وانتشار الفقر، وتسهّلُ ارتكاب الجريمة.
وتضيف قرنفل في حديث لـ”نون بوست”: “إن النساء هن الحلقة الأضعف، كما أن البيئة الاجتماعية والعادات منذ ما قبل الصراع هما بيئة محرِّضة على النساء، ومتكيّفة مع انتهاك حقوقهن وممارسة العنف عليهن، لذلك يكن الضحايا في الحالتَين، ويرتفع عدد الجرائم بحقهن في ظروف الانفلات والتفلُّت الأمني والمجتمعي”.
وترى أن أي جهد في ظل الظروف الحالية يبقى أثره محدود وأقل، مستدركةً: “مع ذلك لا بأس من العمل ومراكمة الجهد الحقوقي والمجتمعي لتعزيز حقوق النساء، ورفض ومواجهة التطبيع الاجتماعي مع فكرة الاستباحة، وهذا يوجب تضافر جهود كل الفاعلين من مؤسسات رسمية ومجتمع مدني وإعلام ومؤسسات تربوية لمواجهة ترسُّبات التقاليد والعادات البالية والأفكار الدينية الخاطئة، لخلق حالة رفض مجتمعي لفكرة أن تسدِّد النساء فاتورة العنف والجهل”.
ودعت قرنفل إلى تضافر الجهود الإعلامية، وتعديل المناهج التربوية، وتعديل التشريعات التمييزية وتجريم العنف القائم على النوع الاجتماعي، ومناصرة قضايا النساء العادلة والمحقّة، حيث كل ذلك يخلق أو يهيِّئ لخلق بيئة نابذة للعنف ضد النساء.
ونوّهت قرنفل إلى عدم وجود نصوص في قانون العقوبات السوري العام تخصّ العنف الأسري أو العنف ضد النساء، وإن كان يجرِّم الأذى الجسدي الواقع على شخص بصرف النظر عن جنسه، وهذا يوجب إمّا تعديل هذا القانون الذي مضى على صدوره أكثر من 70 عامًا، وإمّا إصدار قانون خاص يجرّم العنف الأسري بكل أشكاله ويتشدّد في كمِّ ونوع العقوبات المترتِّبة عليه.
وتشير إلى أن القانون ليس وحده يمكنه حماية النساء، بل أيضًا التعليم وتطوير المعارف والمهارات لديها، ودعم انخراطها بالشأن العام ومحاربة الزواج المبكر، وتطوير برامج وأدوات التعليم المدرسي، كلها عوامل تعزِّز لدى النساء فكرة التطبيع مع العنف بكل أشكاله النفسي والاقتصادي والقانوني والبدني والاجتماعي حتى.
وتستطرد في هذه النقطة: “يستلزم بناء نظرية قانونية-اجتماعية تجيب عن تساؤلات لماذا يمارَس العنف على النساء ولماذا يتطبّع المجتمع مع هذا العنف ويخلق حالة قبول له، وكيف نواجه هذا العنف وما هي أدوات ووسائل تلك المواجهة”، مردفةً أن هذا يساعد على توزيع الجهد الذي يجب أن يُبذَل ويتكامَل بين الجهات المنوط بها فعل ذلك.
وخلال ذلك، يجب ألا ننسى أن هناك مسؤولية على السلطة التي يجب أن توفِّر الكثير من الملاذات الآمنة للنساء المعنّفات، وتقديم كل أشكال الرعاية والدعم لهن، دون أن ننسى ما نوّهنا إليه آنفًا من مسؤوليات العمل المجتمعي العام لرفض التعايش مع العنف، وفقًا لحديث المديرة المشاركة لمركز كواكبي الحقوقي في تركيا.
اللاجئات أقل حظًّا
من جهتها، وصفت المديرة التنفيذية لـ”شبكة تقاطعات” النسوية، بنان أبو زين الدين، وضع النساء في الوطن العربي بالهشّ والسيّئ جدًّا، لافتة إلى أن اللاجئات منهن أقل حظًّا. وأرجعت ذلك إلى ما أسمته “تقاطعية القضايا” واحتياجاتهن والتمييز بحقهن، وعدم وجود قوانين واضحة ومحدِّدة تأمّن الحماية لهن، وتضمن العدالة المجتمعية والحقوقية لهن وللنساء بالمجمل.
وتضيف في حديثها لـ”نون بوست” أن، إلى جانب هشاشتها، القوانين تستثني اللاجئات ولا تعطيهن أولوية الحماية، وذلك على مستوى قوانين الدول العربية عامةً، وبشكل خاص الأردن، حيث يعدّ الأردن من الدول التي تضمّ عددًا كبيرًا من اللاجئين، وبالوقت نفسه غير موقِّع على اتفاقية اللجوء، ما قلل من الامتيازات والحقوق الممنوحة للاجئات بالأردن.
فـ”تراخي القوانين” في العالم العربي يسمح بتزايد هذا النوع من الجرائم، إذ “توحي الأحكام المخففة أنه بإمكان أي رجل أن يقتل ابنته أو أخته أو زوجته “دون عقوبة””، كما تقول الناشطة النسوية الأردنية.
وبالعودة لقضية مقتل اللاجئة السورية مريم محمد، والتي أكّدت زين الدين أن مؤسستها أبدت تضامنًا مع قضيتها بكل قدرتها، قائلةً: “رفعنا الصوت باتجاه تحقيق العدالة بحقّ قاتلها، حتى لو طلبت الحماية فهي ستعيش حياة المرأة الأردنية، فالأخيرة في حال تعرضت للعنف أو تقدّمت بشكوى لا تؤخذ بعين الاعتبار بالشكل المطلوب قانونيًّا والمأمول من المتقدمة بالشكوى التي تواجه خطرًا على حياتها”، لافتة إلى أن المرأة تدفع أثمان كثيرة حينما تقرر مواجهة الظلم، كما دفعته مريم حين قالت “لا”.
وبيّنت أن تجاهل شكاوى النساء حال تعرضهن للخطر، يرجع إلى نظرة المجتمع للمرأة على أنها مواطن من الدرجة الثانية، لا يحقّ لها التمتُّع بكل الحقوق والمزايا كمواطن عادي، مع وجود دور نمطي للنساء من مجتمعاتنا لا يمكن الخروج عنه وتجاوزه، مع ربط شعور “العيب والعار” بالنساء وأجسادهن، كلها تحديات تعترض حياة النساء وتلاحقهن أينما كنّ.
كما لفتت الناشطة الأردنية إلى أن العائق اتجاه العمل للمؤسسات النسوية هي الصورة النمطية عن العمل النسوي بشكل عام، وأن المجتمع يعتبرها هدمًا له وتغييرًا في تفاصيله، وأن النظرة للنساء في المجتمع بشكل عام على أنهم هن الأقلّ، وأنهن مواطنات درجه ثانية وثالثة، بالإضافة إلى القوانين والأنظمة التي لا تدعم وجود النساء ولا تمنح المساحات الكافية لهن، ما يعدّ أكبر التحديات التي لا يمكن أن تتغير “في يوم وليلة”، لأنها تحتاج إلى الكثير من المجهودات لتغييرها.
حالة إرباك
من جانب ذي صلة، تقول الناشطة الحقوقية، رولا المصري، إن واقع المنظمات النسائية في عملها من أجل تحسين أوضاع النساء منذ عام 2011 مُربَكٌ، حيث منذ حينه ومعظم البلدان العربية تعيش على وقع نزاعات وحروب، في سوريا ومصر وليبيا واليمن والعراق ولبنان وغيرها من البلدان العربية.
وتضيف الناشطة، في مقالٍ لها، أن واقع النساء مأزوم وواقع منظمات المجتمع المدني النسائية في حالة إرباك. فبين ضرورة الاستجابة للحاجات الإغاثية واللاجئات وضحايا الحروب (والتي تعدّ أولوية)، والحاجة إلى التمسُّك بالمكتسبات السابقة والعمل بشكل استراتيجي لمناصرة قضايا النساء، تبرزُ حالة الإرباك.
وتخلص بالقول إن جذور الإرباك تبرز بسبب المنظومة السياسية العامة، وأنظمة الحكم الذكورية التي تعيد خلط الأولويات، حيث هي في المبدأ لا تدرج حقوق النساء ضمن سُلَّم الأولويات بشكل عام، فكيف بأوقات النزاعات والحروب؟ ويضيف ذلك عبئًا على المنظمات النسوية في العمل بشكل مضاعف من أجل تسليط الضوء وحشد الاهتمام السياسي والشعبي من أجل حقوق النساء الإنسانية.
ولأن السلطة الأبوية هي انعكاس للسلطة السياسية في البلاد التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية، نعلم أن رفض فتاة الزواج بشابّ قد يدفعه إلى قتلها، حيث باتت هذه الظاهرة رائجة واعتيادية، ففي فوضى انتشار السلاح تحوّل الموت إلى نكتة وقتل النساء إلى مزحة، وقد بات الكثير من النساء يعرفن أن كلمة “لا” واحدة قد تعني نهاية حياتهن، في ظل عدم تدخُّل الدولة بشكل جدّي، ويبقى السؤال الأهم عن العنف الكامن والجاهز للانفجار، لذلك لا بدَّ من تفكيك حلقات العنف المتأصِّلة في العقول، لتتعطّل الأيادي القاتلة عن زهق أرواح النساء دون استحياء.