ترجمة وتحرير: نون بوست
إن التهديد الحالي الأكثر إلحاحًا للأمن العالمي لا يكمن في الأعمال الاستفزازية لكل من روسيا أو الصين، وإنما في هوس الولايات المتحدة الخاطئ بـ “مصداقيتها”.
إن دعوات التعبئة التي أطلقها المسؤولون في واشنطن – ورددتها وسائل الإعلام والحلفاء في لندن وعواصم أخرى – تسمح للولايات المتحدة بالتصرف مثل مجرم عالمي بينما تدعي أنها شرطي العالم. ويبدو أن “مصداقية” الولايات المتحدة أصبحت موضع تساؤل الصيف الماضي، خاصة عندما تمسّك الرئيس جو بايدن بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان الذي كان قد تعهّد به للأمريكيين.
اعترض أبرز النقاد، بما في ذلك أعضاء في البنتاغون، على انسحاب القوات لأن ذلك قد يوحي بأن الولايات المتحدة تتخلى عن التزامها بالحفاظ على ما يسمى بـ “النظام الدولي” ويشجّع “أعداء” الغرب على التمادي – بدءًا من طالبان وتنظيم الدولة وصولا إلى روسيا والصين.
خلال مناقشات انعقدت في شهر أيلول/ سبتمبر، ردّد الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأمريكية، وجهة نظر مشتركة في واشنطن بقوله: “أعتقد أن مصداقيتنا مع الحلفاء والشركاء في جميع أنحاء العالم ومع الخصوم تخضع لتدقيق مكثف من قبلهم لمعرفة ما آلت إليه – وأعتقد أن كلمة ضرر تلخص الوضع”.
في الوقت نفسه، وصف مسؤول دفاعي سابق في إدارة جورج دبليو بوش مصداقية الولايات المتحدة بعد الانسحاب من أفغانستان بأنها في “الحضيض“.
تتمثل الطريقة الوحيدة ليكون فهم “مصداقية” الولايات المتحدة من هذا المنظور منطقيًا في تجاهل العقدين الماضيين الكارثيين للدور الذي لعبته واشنطن في أفغانستان. خلال تلك السنوات، دعم الجيش الأمريكي مجموعةً من الفاسدين الذين لا يحظون بشعبية في كابول فنهبوا الخزائن العامة في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تشن حربا بعيدة باستخدام الطائرات المُسيّرة أسفرت عن مقتل أعداد كبيرة من المدنيين الأفغان.
من أجل تعزيز “مصداقيتها” المتضائلة على ما يبدو في أعقاب الانسحاب، فرضت الولايات المتحدة عقوبات ساحقةً على أفغانستان أدت إلى تعميق المجاعة التي تعصف بالسكان حاليًا. كما وردت تقارير حول جهود وكالة المخابرات المركزية لإدارة عمليات سريّة ضد طالبان بمساعدة معارضيها.
إرث الحرب الباردة
بدا أن “مصداقية” واشنطن مهددة عندما التقى مسؤولون أمريكيون وروس في جنيف هذا الأسبوع للتفاوض في خضم مواجهة دبلوماسية وعسكرية محتملة بشأن أوكرانيا.
طالبت موسكو من جهتها واشنطن بالتوقف عن تطويق روسيا بقواعد عسكرية وإنهاء الناتو تقدمه الدؤوب نحو حدود روسيا. يعتبر حلف شمال الأطلسي (الناتو) من مخلفات حقبة الحرب الباردة التي انتهت رسميًا بانهيار الاتحاد السوفيتي في أواخر سنة 1991. في المقابل، حلّت موسكو نسختها الخاصة من حلف الناتو، وهو حلف وارسو، منذ أكثر من ثلاثة عقود.
في سنة 1990، تلقت روسيا تأكيدات شفوية من قبل إدارة جورج بوش الأب بأن الناتو لن يتوسّع عسكريًا خارج حدود ما كان يعرف آنذاك بألمانيا الغربية. وبعد سبع سنوات من ذلك، وقّع الرئيس بيل كلينتون على القانون التأسيسي لحلف الناتو وروسيا بشأن العلاقات المتبادلة، الذي ألزم روسيا وحلف الناتو بعدم معاملة بعضهما البعض “كأعداء”، بينما كرر الناتو تأكيده على أنه لن يكون هناك “تمركز دائم إضافي لقوات قتالية كبيرة” في دول الكتلة الشرقية السابقة.
خرقت جميع الإدارات الأمريكية اللاحقة بشكل صارخ كل هذه التعهدات، حيث تنتشر قوات الناتو حاليا في جميع أنحاء أوروبا الشرقية. ومن المستغرب أن تشعر موسكو بالتهديد من المواقف العدوانية لحلف الناتو، لأنها تحيي مخاوفها من الحرب الباردة، وينطبق نفس الأمر على واشنطن لو أنشأت روسيا قواعد عسكرية في كوبا والمكسيك. ولا ينبغي لأحد أن ينسى أن الولايات المتحدة كانت مستعدة لدفع العالم إلى حافة هرمجدون في مواجهة نووية مع الاتحاد السوفيتي في سنة 1962 لمنع موسكو من نشر صواريخ نووية في كوبا.
تحالف تاريخي
رغم الصخب الحالي بشأن حاجة الولايات المتحدة للحفاظ على “مصداقيتها”، لم تطالب واشنطن في الواقع خلال محادثات جنيف إلا باحترام الالتزامات التي تعهدت بها منذ 30 سنة ولكنها انتهكتها مرارًا وتكرارًا.
آخر نقطة توتر هي أوكرانيا، التي عانت اضطرابات منذ الإطاحة بالرئيس المنتخب فيكتور يانوكوفيتش، حليف موسكو، في انقلاب سنة 2014. تعاني هذة الدولة انقساما عميقا بين الأطراف التي ترغب في إعطاء الأولوية لعلاقاتها التاريخية مع روسيا ومن يريدون دعم الاتحاد الأوروبي.
تعتقد موسكو ونسبة من الأوكرانيين أن واشنطن وأوروبا تستغلان الضغط من أجل توقيع اتفاقية اقتصادية لإخضاع أوكرانيا لسياسات الناتو الأمنية الموجهة ضد روسيا. وهذه المخاوف في محلها بالفعل، فقد تم تجنيد كل جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة لتنضم إلى الاتحاد الأوروبي ثم إلى حلف الناتو. ومنذ سنة 2009 كان هناك دعوة رسمية من خلال معاهدة لشبونة تطالب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بمواءمة سياساتها الأمنية مع الناتو. واليوم، يبدو أن “مصداقية” الولايات المتحدة تعتمد على تصميمها على دفع الناتو لمواجهة روسيا في عقر دارها، دفاعًا عن أوكرانيا.
الغدر الأمريكي
في سياق تقرير يتحدّث عن عشاء عمل مع دبلوماسيين روس يوم الأحد الماضي، قبل اجتماع جنيف، أعادت ويندي شيرمان، نائبة وزير الخارجية الأمريكي، صياغة مفهوم الغدر على أنه تأكيد من الولايات المتحدة على التزامها بـ “حرية الدول ذات السيادة في اختيار تحالفاتها”.
يُوصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على نطاق واسع بأنه المعتدي بعد أن نشر عشرات الآلاف من القوات على الحدود مع أوكرانيا. ويمكن للمرء أن يجادل فيما إذا كان هؤلاء الجنود قد حُشدوا بالفعل لغزو أوكرانيا، مثل الافتراض السائد في وسائل الإعلام الغربية، أم أن ذلك عرض للقوة الروسية ضد الناتو الذي تقوده الولايات المتحدة والذي يعتقد أن بإمكانه فعل ما يحلو له على الأراضي الروسية. في كلتا الحالتين، أي سوء تقدير من قبل أحد الجانبين قد ينتهي بكارثة.
وفقًا لصحيفة “نيويورك تايمز”، حذّر الجنرال ميلي الروس من أن أي قوة غزو ستواجه تمردًا طويل الأمد مدعومًا بالأسلحة الأمريكية، وهناك تقارير تفيد بأنه تمّ بالفعل تسليم صواريخ ستينغر المضادة للطائرات إلى أوكرانيا. وعلى نفس المنوال، هدّد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بأنه ستكون هناك “مواجهة وعواقب وخيمة لروسيا في حال جددت عدوانها تجاه أوكرانيا”.
قرع طبول الحرب
حاليا، تتجلى هذه الطريقة المتهورة لإبراز “المصداقية” – التي تزيد من احتمال حدوث مواجهات وحرب وليس استبعادها – مع قوة أخرى مسلحة نوويا وهي الصين. لعدة أشهر، كانت إدارة بايدن تمارس ما يشبه “لعبة الدجاجة” مع بكين لتأكيد الصين المستمر حقها في استخدام القوة ضد تايوان، وهي جزيرة تتمتع بالحكم الذاتي قبالة سواحل الصين تزعم بكين أنها تنتمي لأراضيها.
هناك عدد قليل من الدول التي تعترف رسميا بدولة تايوان، ولم يتم تسوية الخلافات في العلاقات بين تايبيه والصين التي يطغى عليها نزاع حول تقسيم المجال الجوي، حيث تزعم تايوان بدعم من الولايات المتحدة أن جزءا كاملا من جنوب شرق الصين يقع ضمن “منطقة الدفاع” الخاصة بها. وهذا يعني أنه يجب الاحتراز من العناوين الرئيسية التي تثير الرعب حول الأعداد القياسية من الطائرات الحربية الصينية التي تحلق فوق تايوان.
تنطبق النزاعات ذاتها على مطالبات كل من الصين وتايوان بالمياه الإقليمية، مع احتمال مماثل للاستفزاز. تمثّل وجهات النظر المتضاربة بين الطرفين حول ما يشكل أمنهما وسيادتهما نقطة انطلاق جاهزة لإندلاع الحرب، مع العلم أن أحد الطرفين يمتلك ترسانة نووية كبيرة.
مع ذلك، تدخلت إدارة بايدن في هذا الخلاف المستمر منذ فترة طويلة من خلال تغذية وسائل الإعلام بعناوين تثير القلق وبروز محللين أمنيين يناقشون احتمال اندلاع حرب أمريكية مع الصين بشأن تايوان. كما أثار كبار المسؤولين في البنتاغون مخاوف من تعرّض تايوان لغزو وشيك من قبل الصين.
من وجهة نظر دبلوماسية، أهان الرئيس بايدن بكين من خلال دعوة تايوان لحضور ما يسمى بـ “قمة الديمقراطية” الشهر الماضي. وقد زاد هذا الحدث من تأجيج السخط الصيني من خلال إظهار تايوان والصين بلونين منفصلين على خريطة إقليمية.
أعلنت وكالة المخابرات المركزية عن إنشاء مركز تجسس جديد يعنى حصريا بالصين. ووفقا لمدير وكالة المخابرات المركزية، وليام بيرنز، تعدّ هذه الخطوة ضرورية لأن الولايات المتحدة تواجه “حكومة صينية متزايدة العداء”. لكن لا يشكّل هذا “الخصم” أي تهديد مباشر لأمن الولايات المتحدة، إلا في حال اختارت واشنطن بشكل استفزازي فرض سيطرتها الأمنية على تايوان. وقد استمرت واشنطن في قرع طبول الحرب لدرجة أن استطلاعا حديثا للرأي كشف أن أكثر من نصف الأمريكيين يؤيدون إرسال قوات أمريكية للدفاع عن تايوان.
قوى نووية متشددة
ينطبق الأمر ذاته على إيران. لطالما استشهدت واشنطن بـ “مصداقية” الولايات المتحدة على أنها السبب الذي يجعلها بحاجة إلى اتخاذ موقف متشدد ضد طهران – بتحفيز من إسرائيل – بشأن طموحاتها المفترضة لبناء قنبلة نووية.
بطبيعة الحال، تمتلك إسرائيل ترسانتها الكبيرة من الأسلحة النووية منذ عقود – وهي لا تخضع لأي رقابة على الإطلاق مع أنها تنتهك معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. تخشى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل من سعي إيران إلى موازنة القوى النووية في الشرق الأوسط. في المقابل، تعد إسرائيل مصممة على التأكد من تفردها بامتلاك القدرة على إصدار تهديدات مدعومة بالأسلحة النووية، إما ضد الدول الأخرى في المنطقة أو كامتياز في واشنطن لتحقيق أهدافها.
في سنة 2015، وقّعت إدارة الرئيس باراك أوباما اتفاقية مع إيران تفرض قيودًا صارمة على تطوير طهران للتكنولوجيا النووية، وبذلك رفعت واشنطن بعض أكثر العقوبات شدة على البلاد. لكن بعد ثلاث سنوات، انسحب الرئيس دونالد ترامب عن الصفقة بشكل أحادي.
في الوقت الراهن، تعاني إيران الأمرّين من العالمين. شددت الولايات المتحدة من جديد نظام العقوبات بينما طالبت طهران بتجديد الصفقة بشروط أسوأ – ودون إيفائها بأي تعهدات. وحسب وزير الخارجية الأمريكية بلنكين لن تتراجع الإدارة الأمريكية المقبلة عن الاتفاقية بأي حال. وبناء على ذلك، يبدو أن “مصداقية” الولايات المتحدة لا تعتمد على مطالبة واشنطن بالوفاء بوعودها.
كما هو الحال دائمًا، تواجه طهران تهديدات بتعرضها لرد عسكري انتقامي مشترك من إسرائيل والولايات المتحدة. في تشرين الأول/ أكتوبر، ورد أن بايدن طلب من مستشاره للأمن القومي دراسة خطط البنتاغون لتوجيه ضربة عسكرية إذا فشلت هذه “العملية الدبلوماسية” أحادية الجانب. بعد شهر، وافقت إسرائيل على تخصيص ميزانية بنحو 1.5 مليار دولار لاستخدامها في إعداد قواتها لضربة محتملة تستهدف منشآت تطوير البرنامج النووي الإيراني.
جنون العظمة
يُعتبر تأكيد واشنطن على “مصداقيتها” مجرّد قصة تسردها النخبة الأمريكية لنفسها والجمهور الغربي لإخفاء الحقيقة. تتمثل الأولوية المطلقة بالنسبة للولايات المتحدة في قدرتها على فرض مصالحها الاقتصادية وتفوقها العسكري دون منازع في جميع أنحاء العالم.
بعد حربي كوريا وفيتنام، وإسقاط الولايات المتحدة لحكومة إيران المنتخبة لإعادة تنصيب ديكتاتورها الملكي، بالكاد يوجد ركن من الكوكب لم تتدخل فيه الولايات المتحدة. في لبنان ويوغوسلافيا السابقة والعراق وليبيا وسوريا وما يسمى بـ “الفناء الخلفي” لأمريكا اللاتينية، تطلبت “مصداقية” الولايات المتحدة التدخل واللجوء لخيار الحرب كبديل للدبلوماسية.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، اقترح ترامب انسحاب القوات الأمريكية من سوريا – بغياب تصريح من الأمم المتحدة للتدخل. ويعتقد ليون بانيتا، وزير الدفاع السابق والرئيس السابق لوكالة المخابرات المركزية، أن هذا القرار أدى إلى “إضعاف الولايات المتحدة” و“تقويض مصداقيتنا في العالم”. وأضاف “حلفاءنا في جميع أنحاء العالم لا يثقون بنا الآن ويشعرون بالقلق بشأن ما إذا كنا سنلتزم بوعودنا أم ننكثها”.
لكن هذا النوع من المصداقية لا يُبنى على المبدأ أو على احترام السيادة الوطنية للآخرين، أو على إرساء السلام وإنما على مبدأ حروب العصابات وجنون العظمة الذي يجعل الولايات المتحدة تستخدم قوتها ونفوذها من أجل ترهيب وسحق خصومها.
لا تفي واشنطن بعهودها إلا عندما تكون المسألة متعلقة بروسيا وإيران. وقد كان للأساليب التي اعتمدتها لفرض “مصداقيتها” – مثل نقض تعهداتها والتهديد بالحرب – تأثير متوقع: أجبرت “أعداءها” على الانضمام إلى المعسكر المعارض لها بدافع الضرورة.
خلقت الولايات المتحدة خصمًا أكثر خطورة، حيث بات لكل من روسيا والصين – القوتان النوويتان – هدف مشترك في ترسيخ ضغط موازي على واشنطن. ومنذ أواخر الصيف، أجرى الاثنان سلسلة من المناورات الحربية والتدريبات العسكرية المشتركة.
يدخل العالم ما يبدو أنه حرب باردة جديدة أكثر تعقيدًا، حيث يمكن لأي سوء فهم أو حادث مؤسف أو تحرك خاطئ أن يتصاعد بسرعة إلى مواجهة نووية. وفي حال تحقق أحد تلك السيناريوهات، ستلعب جهود الولايات المتحدة لتأكيد مصداقيتها دورًا رئيسيًا في الكارثة المرتقبة.
المصدر: ميدل إيست آي