ترجمة وتحرير: نون بوست
يشرح المخرجان اللبنانيان جوانا هادجيثوماس وخليل جريج كيف شكّلت تجاربهما في الحرب فيلمهما الجديد وكيف حرّرهما الفن من القيود.
في الرابع من آب/ أغسطس 2020، وقع انفجار كارثي في مرفأ بيروت الرئيسي بلبنان أسفر عن مقتل 218 شخصًا. وفي ذلك الوقت، في حوالي الساعة السادسة مساءً، كانت الفنانة والمخرجة جوانا هادجيثوماس جالسة في أحد المقاهي مع صديقتها بالقرب من الاستوديو الذي تعيش فيه مع زوجها.
في البداية، سمعت جوانا صوتا غريبا قالت عنه: “نظرت أنا وصديقتي إلى بعضنا البعض. ودون تفكير، اختبنا تحت الطاولة. التففت على نفسي وحميت وجهي بيدي”. اندلعت الحرب الأهلية في لبنان عندما كانت جوانا في سن المراهقة، لذلك غريزة الاختباء مغروسة فيها، وهو رد فعل طبيعي للبقاء على قيد الحياة. وفجأة، حدث الانفجار الهائل.
بعد ذلك، عادت إلى شقتها ولم تكن لديها أدنى فكرة عما كان يحدث. هل كان هجوما أم انفجارا؟ لم تستطع فهم ما حدث. كان الناس ملطخين بالدماء، والغبار يملأ الجو والأنقاض في كل مكان. “كنت أرى الدمار أينما نظرت، لقد كان حجم الدمار مرعبا”. وفي حالة الذهول تركت هادجيثوماس هاتفها وراءها. وعندما اتصل زوجها، خليل جريج للاطمئنان عليها وأجاب على هاتفها ضابط شرطة، ظن أن مكروها قد أصابها. كان جريج يروي القصة بلَوْعة، وكان وجهه يتجهم بمجرد استحضار ذكريات الحادثة.
التقى الزوجان في سن المراهقة وظلا يعملان معًا منذ ذلك الحين. كانا يعيشان بين بيروت وباريس، يصنعان أفلاما روائية ووثائقية ومشاريع فيديو وتركيبات تصويرية (يُعرض فنّهما في المجموعات الدائمة لمتحف فيكتوريا وألبرت في لندن وغوغنهايم في مدينة نيويورك). يبدو خليل جادًا ومفكرا، بينما تبدو جوانا متحمسة وودودة، وكانا سعيدان بالتحدث عن الفن والأطفال وأي موضوع آخر. لديهما طفلان، علياء (21 سنة) ورمزي (11 سنة).
عندما التقينا، كانت قد مرت أكثر من سنة على الانفجار. كان الحي الإبداعي الصاخب حيث كانا يعيشان ويعملان “الجميزة” في مرمى الانفجار ومن أكثر الأماكن تضررًا.
لقد فقدا العديد من الأصدقاء والزملاء، وأُصيبت هادجيثوماس بجروح طفيفة. كان ظهرها مغطى بشظايا صغيرة من الزجاج. وأخبرني جريج أن “انتشال الأطباء لشظايا الزجاج من جسمها استغرق شهورًا”. وفي وقت لاحق، أوضح أن أبناء جيلهم اتخذوا وضع البقاء على قيد الحياة أثناء الانفجار – عن طريق الابتعاد عن النوافذ، والانحناء تحت الطاولات – وهو بالضبط ما تعلموه عندما كانوا أطفالا خلال الحرب الأهلية. في المقابل، توجه الشباب إلى النوافذ لتصوير الحادثة، وهو ما تسبب في إصابتهم. إنها تفاصيل مروعة.
حدثت معجزات أيضًا. فبعد ظهر ذلك اليوم، أراد جريج البقاء لوقت متأخر للعمل في الأستوديو المطل على المرفأ، ولكن الأطفال ألحوا عليه للذهاب للعب التنس في الجبال – “لأول مرة منذ 30 سنة”، على حد تعبيره بمزيج من التبسم والعبوس.
كانت علياء قد عادت مؤخرًا من إنجلترا، حيث تدرس في كلية لندن الجامعية. وكان من المفترض أن يكون ذلك اليوم آخر يوم لها في الحجر الصحي، لكنها تسللت من الشقة للعب التنس. ويقول جريج: “لقد كنا محظوظين”. لقد غادر قبل 30 دقيقة من الانفجار، ولو بقي في الاستوديو، أو بقيت علياء في المنزل، لكان مصيرهم الموت. “لما نجونا”.
كانت هادجيثوماس وجريج في لندن لعرض فيلم صندوق الذاكرة، وهو أول فيلم روائي طويل لهما منذ تسع سنوات وقع تصويره قبل انفجار مرفأ بيروت. تدور أحداث هذا الفيلم – الذي يستحق المشاهدة ويحفز على التفكير العميق في معنى الفن وأهميته – حول ثلاثة أجيال من النساء يعشن في كندا. غادرت مايا (التي لعبت دورها بشكل جميل ريم تركي) وهي محللة نفسية لبنان في نهاية الثمانينيات ولم تعد إليه أبدًا، وعاشت في مونتريال مع والدتها (التي تجسد دورها كليمنس صباغ) وابنتها المراهقة أليكس (التي تجسد دورها بالوما فوتييه).
يبدأ الفيلم عشية عيد الميلاد، عندما يصل صندوق كبير من باريس مليء بالدفاتر التي كتبها مايا، خلال الحرب الأهلية، إلى صديق توفي خلال الفترة الأخيرة. قرأت ابنتها هذه الدفاتر سرًا على الرغم من أن أمها كانت تشعر بالذعر من كشفها سرا عائليا خطيرا. تطرق الفيلم إلى بعض ذكريات الماضي خلال فترة عيشهم في لبنان خلال فترة الثمانينيات، حيث كانت مايا (التي لعبت دورها في سن المراهقة منال عيسى) تتمرد على والديها وتعيش كل يوم كما لو كان آخر يوم لها.
يروي الفيلم قصة شخصية. ففي سنة 1982، أثناء الحرب الأهلية، عندما كانت هادجيثوماس في الثالثة عشرة من عمرها، انتقلت صديقتها المقربة إلى باريس. حيال هذا الشأن، تقول هادجيثوماس مبتمسّمة: “لقد كنا مكسورتي الخاطر لقد وعدنا بعضنا أن نرسل رسائل لبعضنا كل يوم. لقد كان وعدًا صبيانيا”. لكنهما بقيتا وفيتين له. لمدة ست سنوات، كانت تكتب يوميًا، وتملأ دفاتر الملاحظات أحيانًا 40 صفحة في جلسة واحدة، وتسجل المذكرات الصوتية على أشرطة الكاسيت. “كنت أكتب لها يومياتي وأعتقد أن هذا جعلني أبقى على قيد الحياة عاطفيًا”، على حد تعبيرها.
بعد الحرب، فقدت الاتصال بصديقتها. وفي سنة 2013، التقت الصديقتان لتناول القهوة في باريس وتبادلتا الدفاتر. مرّت هادجيثوماس بتجربة مثيرة للقلق لأن ذلك اللقاء مثّل بالنسبة لها مقابلة مع ذاتها عندما كانت مراهقة. وعندما رأت نفسها صرخت مخفية وجهها بين يديها: “هذه أنا هذا ما كنت عليه؟” في الواقع، لم تتمكن من التعرف على نفسها. ويسلط فيلم “صندوق الذاكرة” الضوء على هذه الفجوة بين الذاكرة والتاريخ.
يكتسي هذا الفيلم طابعا جميلا نفتقده اليوم وينعكس من خلال الصور والفنون التي تعود لأرشيف الزوجين. وتقول هادجيثوماس: “لم تعد معظم هذه الأعمال الفنية موجودة”. ورد زوجها وهو يومئ برأسه: “لقد دُمِرت تمامًا”. لأسابيع بعد الانفجار، كانوا يصادفون صورهم التي طارت في سماء الحي والشوارع، وقد عثرا ذات مرة على إحدى صورهما في موقف للسيارات.
كانت علياء تبلغ من العمر 13 عامًا عندما وصلت الدفاتر، وهو بالضبط عمر والدتها عندما بدأت بالكتابة. وقد توسلت للسماح لها بقراءتها. لكن الزوجين كانا مُصرين على عدم تمكينها من قراءتها. لا سيما الأجزاء التي تتحدث عن فترة تعرفهما عن بعض في سن 19.
لكن هذه المحادثات ألهمتهما لصنع حبكة فيلم يتحدث عن ابنة تكتشف جوانب من شخصية والدتها لطالما كانت بعيدة عنها. وفي الفيلم، كانت مايا بمثابة الأم الحاضرة والغائبة في نفس الوقت على حد تعبير هادجيثوماس التي أكدت أنها التقت بالعديد من الأشخاص مثل مايا، الذين يعيشون مع صدمة نفسية.
بصفتهما أما وأبا، يشعر كل من هادجيثوماس وجريج بالاستياء والحسرة عندما كان يحاولان مشاركة تجربتهما العاطفية التي نشأت في زمن الحرب مع طفليهما. لكن هادجيثوماس تصر على أنهما لم يتعرضا لصدمات نفسية على الإطلاق، فقد ساعدهما الفن والأفلام على تجاوز هذه المحنة: “لقد عشنا أيام عنيفة، لكن الفن أخرجنا منها. لم ندع أشباح الماضي تجتاح حياتنا”.
وتجدر الإشارة إلى أن فيلم صندوق الذاكرة سيعرض في دور السينما البريطانية والأيرلندية وسيكون متاحًا على منصات السينما الافتراضية اعتبارًا من 21 كانون الثاني/ يناير.
المصدر: الغارديان