قبل سنوات قليلة، كان حديث الساعة هو قضية اندماج اللاجئين في مجتمعاتهم الجديدة، وذلك بعد وفود ملايين اللاجئين – معظمهم من السوريين – إلى دول أوروبا والعالم هربًا من الحرب.
اليوم وبعد حصول نسبة كبيرة من هؤلاء اللاجئين على جنسيات بلدانهم المضيفة واندماجهم في المجتمع إلى حد كبير، من حيث العثور على عمل أو إتمام الدراسة الجامعية أو فهم نظام الحياة، تعود لذاكرتهم مخططاتهم القديمة عن العودة إلى الوطن لزيارة العائلة ومجتمعاتهم التي تركوها خلفهم عند رحيلهم، فكيف ستكون تجربة العودة بعد سنوات من الظروف غير الاعتيادية التي غيرت وجه الوطن إلى الأبد، كما أعادت رسم شخصية المغترب نفسه بطريقة أخرى.
الصدمة الثقافية العكسية
الصدمة الثقافية هي مزيج من مشاعر الإثارة والإحباط والاكتئاب والخوف من المجهول التي يواجهها الشخص عند الانتقال للعيش في بيئة جديدة، لكن في المقابل هناك ما يُعرف بالصدمة الثقافية العكسية، وهي الحالة التي تصيب المغترب العائد إلى الوطن بعد أن يكون قد تعود نمط حياة جديد في المكان الجديد.
وكما هو الحال مع الصدمة الثقافية ومحاولات الاندماج في الموطن الجديد، تختلف تجربة الصدمة الثقافية العكسية من شخص إلى آخر، لكن يمكننا القول إنه بصورة عامة وعند عودة المغترب إلى وطنه الأم، فإنه يراه بعين جديدة وناقدة، مع تفضيل الموطن الجديد والانحياز له، فالمغترب يعود ليجد بيئته الأصلية مختلفة عمّا كانت عليه عند المغادرة، ما يهدم توقعاته المرسومة في مخيلته قبل الوصول، لذلك، يمكن أن يكون للصدمة الثقافية العكسية تأثير أكبر بكثير مما نتصور.
راما خولي كانت إحدى النساء المهاجرات إلى السويد في بداية الأحداث السورية، في حديث لها مع “نون بوست” تتحدث عن تجربتها بالعودة إلى سوريا لزيارة عائلتها بعد أكثر من ثمانية سنوات، ولمدة تقارب الأسبوع، فتقول:
“بصراحة لم تكن زيارة ممتعة، كل شيء بدا لي كئيبًا ومنطفئًا، كنت قد توقعت أن يكون الوضع سيئًا في دمشق، لكن الواقع كان أسوأ بكثير. لم أجد أي شيء مألوف بالنسبة لي، كل شيء مختلف كليًا، حتى الزيارات الاجتماعية باتت أشبه بالمستحيلة في ظل الظروف الراهنة والأزمة الاقتصادية من جهة، وغياب معظم أفراد العائلات من جهة أخرى. أحسست أنني قادمة من كوكب مختلف، حيث لا يفكر الناس في بديهيات الحياة وكيفية تأمينها. مرت السبعة أيام ببطئ شديد بالنسبة لي، ولا أستطيع تخيل عودتي للإقامة في سوريا بأي شكل، ولا أعلم حتى كيف استطعت في السابق العيش فيها فترة طويلة من حياتي!”.
المرحلة التمهيدية الأولى للصدمة الثقافية العكسية في حالة العائدين بشكل نهائي إلى الوطن هي مرحلة فك الارتباط بالوطن المضيف
“ب. ج” توافق راما الرأي، وهي حالة أخرى من المهاجرين الحاصلين على جنسيات أجنبية والعائدين إلى الوطن لزيارة الأهل، في حديث لها مع “نون بوست” تصف تجربتها قائلةً: “كل شيء كان أسوأ مما توقعت، وكان عليّ تعلم مهارات جديدة حتى أستطيع عيش الحياة اليومية هناك، من أكثر الأشياء الصادمة التي شهدتها خلال زيارتي هي كثرة المتسولين في شوارع دمشق، بالإضافة إلى التفاوت الطبقي في المجتمع بشكل هائل. بعد إقامتي في كندا لسنوات لم أعد أتحمل حالة الفوضى الموجودة في البلاد التي قضيت بها 27 سنة من عمري”.
وتمر الصدمة الثقافية العكسية بعدة مراحل، كما يتم تشبيه مراحلها أحيانًا بحرف U الإنجليزي، الذي يمثل دورة التقلبات التي يمر بها المغتربون بعد عودتهم للوطن، ويجب التنويه إلى أن هذه المراحل هي وفقًا لدراسات أجريت على طلاب مغتربين عائدين إلى بلاد سالمة، أما في حالة العائدين إلى بلاد تعمّها الفوضى، فمن الوارد جدًا أن تختلف طبيعة الصدمة الثقافية العكسية، خصوصًا في حال العودة النهائية.
المرحلة التمهيدية الأولى للصدمة الثقافية العكسية في حالة العائدين بشكل نهائي إلى الوطن هي مرحلة فك الارتباط بالوطن المضيف، وتشمل توديع الأصدقاء والمعارف وإنهاء جميع الارتباطات والكثير من الوداعات، ما يسبب حزن وحالة من الشعور بالفقدان. من جهة أخرى تشمل هذه المرحلة وضع تصورات مثالية عن الوطن، وتوّقع إيجاد كل شيء فيه مألوف ومريح.
أما المرحلة الثانية فهي حالة النشوة الأولية التي يشعر بها العائدون عند وصولهم إلى الوطن، خصوصًا بعد السعادة بلقاء الأهل والأصدقاء، وسعادتهم برؤية العائد، لكن سرعان ما تنتهي هذه الفترة بعد إدراك العائدين أن قصصهم عن تجربة الاغتراب ليست مشوّقة أو مهمة بالنسبة لهؤلاء الأهل والأصدقاء، مع صعوبة وجود حديث مشترك يمكن الغوص به بسهولة، لتبدأ بذلك المرحلة الثالثة وهي مرحلة العداء أو الانزعاج، حيث يشعر العائدون أنهم وحيدون ومحبطون وعاجزون عن فهم السبب.
وأخيرًا، تأتي المرحلة الرابعة التي يصل لها معظم الناس، وهي مرحلة التكيّف، إذ تعود الأمور إلى طبيعتها ويسترجع العائدون رؤيتهم للحياة بصورة طبيعية ويبدأون روتينهم الخاص، لكن هذه المرحلة هي ما يصل لها العائدون إلى البلدان التي تعيش بسلام، أما بحالة العودة لدول تعيش أوضاعًا إنسانيةً حرجةً، فكثيرًا ما يتم استبدال هذه المرحلة بحالة دائمة من الندم على قرار العودة.
الاختلاف بين صدمة العائد للإقامة أو الزيارة
من البديهي هنا القول إن شعور الإحباط الذي يعتري العائد إلى وطنه المضطرب للزيارة، لا يمكن مقارنته بحالة الصدمة التي يعيشها العائد إلى وطنه للاستقرار بشكل نهائي، إذ يدخل بعض الراجعين إلى بلادهم للاستقرار بشكل نهائي بحالة من الوحدة والانعزال بعد عودتهم بمدة وجيزة، هربًا من واقع جديد لم يكن بالحسبان عندما تم التخطيط للعودة.
“أ. ك” مثال عن ذلك، فبعد استقراره في الولايات المتحدة لما يقارب العشر سنوات، اتخذ قرار العودة إلى دمشق في سوريا حيث وطنه الأم، بناءً على مشاعر الاشتياق والحنين، يذكر لنا نبذة عن واقعه حاليًًّا وشعوره بالندم على هذا القرار:
“كل شيء أصبح مختلفًا بالنسبة لي، لا شيء يشبه الوطن الذي كنت اشتاقه عندما كنت مغتربًا، قسم من هذا تتحمل الظروف الراهنة مسؤوليته وقسم آخر أنا مسؤول عنه بسبب تغير نظرتي للحياة بعد تجربة الاغتراب، لكن في جميع الأحوال هناك تغييرات كبيرة وجذرية في البيئة التي تركتها قبل سنوات عندما سافرت، حتى أقرب المقربين أصبحوا غرباءً بالنسبة لي. في السابق كنت أفضل نمط الحياة الاجتماعية ومخالطة الناس، أما الآن أفضل البقاء وحدي طوال الوقت، حتى إنني أفضل البقاء في غرفتي تحديدًا”.
لا بد من التحضّر نفسيًا أولًا قبل اتخاذ قرار زيارة الوطن أو العودة إليه بعد غياب طويل
“ع.إ” عاش تجربةً مشابهةً إلى حد ما، بعد انتهاء منحته الدراسية في سراييفو وعودته إلى وطنه في إدلب شمال سوريا بشكل نهائي، يقول عن تجربته لنون بوست: “عند عودتي بدأت ملاحظة عدة أمور مثل تغير التركيبة السكانية في إدلب بسبب قدوم المهجّرين من مناطق النظام، وبالتالي تغير شكل الشارع بفعل افتتاح مطاعم ومحلات جديدة وسماع لكنات مختلفة فيه، فكانت هذه تجربة جديدة بالنسبة لي، ومن جهة أخرى عند مغادرتي للدراسة كان عمري 20 سنة، لكن عند عودتي بعد أربع سنوات كان معظم أصدقائي قد تزوجوا وأنجبوا عدة أطفال، بينما أنا الطالب الأعزب الوحيد بينهم، فكان تغييرًا آخر من ضمن التغييرات التي شهدتها، كما لفت انتباهي أيضًا حينها ارتفاع نسبة الاكتئاب بين الناس”.
أما عن تغير شخصيته، يتابع الحديث، قائلًا: “بعد احتكاكي بالثقافة البوسنية، وجدتها أقرب إليّ من ثقافتنا، هم مسلمون مثلنا ولكنهم منفتحون أكثر. بشكل عام، أصبحت قناعاتي علمانية أكثر، مع إحساسي بأن ذلك لا يخالف الإسلام، لذلك كانت من أكثر الأمور الصادمة لي عند عودتي هي اكتشاف أن الناس في منطقتي يفضلّون الحكم الإسلامي وينظرون للديمقراطية على أنها حرام”.
وبالعودة للحديث عن الصدمة الثقافية العكسية في حالات الزيارة المؤقتة، تكون الصدمة على شكل صعوبات في التأقلم مع طبيعة الحياة، حتى إن كانت أمرًا بديهيًا وسهلًا في السابق، بعد غياب الإنسان لفترات طويلة عن هذه النظم والعودة إليها، يواجه صعوبة في فك شفرتها أو التعامل معها.
تحدثنا راما عن بعض الأمثلة التي واجهتها خلال زيارتها إلى دمشق، قائلة: “من أبسط الأمثلة على الأمور التي أصبحت صادمةً لي الآن، هي كيفية عبور الشارع وسط السيارات، بدا الأمر لي خطيرًا جدًا وغير ممكن، فقد تعوّدت لسنين طويلة في السويد أن هناك إشارةً مروريةً مخصصةً لي ولبقية المشاة لعبور الطرقات، وفي حال عدم وجود إشارة، فالقانون يجبر السيارات على التوقف للمشاة، ومن المواقف المضحكة التي تعرضت لها، هي محاولة وقوفي في الدور بإحدى الدوائر الحكومية، لأكتشف بعد مرور وقت طويل أن المراجعين الذين أتوا بعدي انتهوا من معاملاتهم وأنا ما زلت في طابور غير موجود إلا في خيالي”.
في النهاية، وفقًا للخبراء، لا بد من التحضّر نفسيًا أولًا قبل اتخاذ قرار زيارة الوطن أو العودة إليه بعد غياب طويل، بالإضافة إلى رسم توقعات واقعية والاستعداد لخوض تجربة الاندماج مجددًا في المحيط القديم، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود تغييرات جذرية خلال فترة الغياب.
والجدير بالذكر أن بعض الحكومات الغربية مثل الدنمارك تجبر اللاجئين على العودة إلى سوريا باعتبارها بلدًا آمنًا حاليًّا، حيث يعيش هؤلاء العائدون نوعًا مختلفًا كليًا من الصدمة، بالإضافة إلى وجود خطر كبير على صحتهم النفسية وحتى على وقدرتهم على العودة إلى حياتهم القديمة من جديد، أو في أحيان كثيرة يكون الخطر الأكبر يقع على حياتهم بحد ذاتها.