ترجمة وتحرير: نون بوست
لم يستعمل الفنان المصري عمر الفيومي الزهور ذات الألوان الزاهية في لوحاته كخيار جمالي فحسب، أو تحية لرائد المدرسة الانطباعية، الرسام الفرنسي كلود مونيه. كان ذلك إحياء لذكرى محل بيع الزهور الذي كان يملكه والده في شارع طلعت حرب في منطقة وسط البلد بالقاهرة. لمساعدة والده على إدارة المحل، كان الفيومي يسافر من الجيزة، حيث تعيش أسرته، إلى الحي الذي يضم المتحف المصري ويجاور منطقة الزمالك الراقية التي تقع على نهر النيل.
تعدّ منطقة وسط البلد من أبرز أحياء القاهرة بسبب طابع العمارة الباريسية الذي تتميز به، وهي إرث من التخطيط الحضري الفرنسي خلال فترة حكم الخديوي في مصر بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. خلال فترة شبابه، كان الفيومي يتجول في وسط البلد مع والده، مستمتعا بالشكل المعماري الفريد، ومازالت المنطقة تلعب دور محوريا في أعماله الفنية.
بالنسبة للفيومي، الذي يبلغ من العمر 64 عاما، ترتبط منطقة وسط البلد في ذاكرته بالجولات في الشوارع، والوقت الذي اعتاد أن يقضيه في صالات العرض مع زملائه في مدرسة الفنون، ومعرضه الأول الذي أقامه في التسعينيات، والمقاهي الشعبية التي تظهر كثيرا في لوحاته الفنية. يقول الفيومي مبتسما: “كانت مقاهي وسط البلد تبدو لي جذابة عندما كنت طفلا”. اليوم لم يعد الفيومي يزور وسط البلد إلا نادرا بسبب التحولات التي طرأت على المنطقة.
يوضح الفيومي قائلا: “لقد أصبحت المنطقة سياحية وباهظة الثمن بشكل مبالغ فيه”، معربا عن شوقه إلى منطقة وسط البلد كما عرفها في شبابه. بالنسبة للفنانين في المدن الكبرى في جميع أنحاء العالم، تمثل الأسعار المرتفعة مصدر قلق، لا سيما في مراكز المدن، حيث تكون تكاليف العقارات أعلى. رغم ذلك، يقول الباحث أحمد زعزع، إن وسط البلد في القاهرة فريد من نوعه لأنه “ليس المنطقة الأكثر غلاء في المدينة”.
بين القديم والجديد
يقول زعزع، المؤسس الشريك لشركة “10 طوبة” للدارسات والتطبيقات العمرانية، والتي تضمّ مجموعة من المتخصصين في البيئة الحضرية، إن القدرة النسبية على تحمل تكاليف المعيشة في وسط البلد قد لا تستمر لفترة طويلة. يضيف زعزع: “سميح ساويرس وكريم شافعي يريدان تغيير هذا الواقع”، في إشارة إلى مؤسسي شركة الإسماعيلية للاستثمار العقاري التي تسوق نفسها على أنها “أول شركة مصرية من نوعها تهتم بإحياء وسط القاهرة”.
وفقا لكريم شافعي، قامت شركة الإسماعيلية بتكوين ائتلاف لتطوير المنطقة يضم مستثمرين مصريين، إلى جانب شركة “أموال الخليج” السعودية، والمستثمر السعودي شريف سليمان.
ويؤكد زعزع أن الشركة العقارية تمكنت من المحافظة على 25 مبنى ذي أهمية تاريخية منذ تأسيسها سنة 2008، رغم أنه يُفترض أن تمتلك ضعف هذا الرقم.
ورغم أن هذه الاستثمارات يجب أن تركز بالأساس على الحفاظ على السلامة المعمارية للمباني التاريخية في المنطقة، فإن الهدف الحقيقي يبدو مختلفا، حيث يحاول المستثمرون استقطاب نوع جديد من السكان في النسخة الحديثة للمنطقة.
لطالما ارتبط وسط البلد بالمتسكّعين والثوريين، لكن الأمور تتغير شيئا فشيئا.
لعقود من الزمان، مثّلت المنطقة حاضنة لبعض الشخصيات السينمائية والأدبية المصرية الأكثر شهرة، مثل أبطال رواية “بيرة في نادي البلياردو”، الاشتراكي رام وصديقه فونت. يقول زعزع: “إنهم يهدفون إلى إعادة تشكيل المنطقة، ولن تكون منطقة بوهيمية بعد الآن”، مضيفا أن شركة الإسماعيلية “تنوي إعادة تأهيل المنطقة لاستقطاب الأثرياء”.
ينفي شافعي هذه المزاعم، ويقول في مقابلة مع موقع “مدى مصر” إنه لا ينبغي اعتبار قدوم الأثرياء إلى المنطقة تهديدا لوجود الطبقات الأخرى.
وسط البلد بين الماضي والحاضر
تقوم استراتيجية شركة الإسماعيلية على تطوير المنطقة بشكل يمزج بين طابعها التاريخي والشكل الحديث للأحياء الراقية التي تضم محلات فاخرة. لكن المنطقة لا تبدو على تلك الصورة حاليا، في ظل انتشار الباعة المتجولين، والمباني وأسطح المنازل المتداعية للسقوط.
تصف دليلة غضبان، الباحثة في مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية، ما تُطلق عليه “قصة الزمن الجميل”، وهي نظرة مليئة بالحنين إلى الماضي وأحلام اليقظة التاريخية، والتي يظهر الماضي والحاضر من خلالها كصورتين متناقضتين.
ليست شركات العقارات الخاصة وحدها من يتاجر بالحنين إلى الماضي. دون إثارة ذكريات ما يُعرف بالعصر الليبرالي في مصر (1922-1936)، كما تفعل النخب الليبرالية أحيانًا، تفضل الحكومة المصرية الحالية أن تعيد أجواء وسط البلد الصاخبة، مثلما كانت عليه في عشرينيات القرن الماضي، على الأجواء الثورية التي سيطرت على الشارع خلال السنوات الماضية.
يشجع النموذج الأول على الثقافة الاستهلاكية المطلوبة للحفاظ على اقتصاد الدولة، بينما يهدد النموذج الثاني الاستقرار الاقتصادي والإيرادات السياحية.
ومن أجل تحقيق هذه الغاية، تقوم الحكومة بتجديد المباني وتلميع الساحات وتعمل على تحويل وسط المدينة إلى منطقة سياحية بطابع أصيل ظاهريا، لكن لا يوجد فيه مكان لسكانه وتجاره الأصليين. يقول زعزع: “ليس غريبا أن تعطي الحكومة الضوء الأخضر لمشاريع شركة الإسماعيلية”، حيث يهدف كلاهما إلى تحقيق الأرباح.
أسعار مرتفعة
يرى إبراهيم إمام، المهندس المقيم في وسط البلد، أن مشاريع إعادة الإعمار والترميم التي تبنتها الحكومات السابقة، والتي كان معظمها في القاهرة القديمة، ركزت على جعل الأسعار في هذه المناطق بمتناول الجمهور. يقول إمام: “تستأجر الحكومة حاليا مواقع تاريخية لإقامة حفلات موسيقية ضخمة وعروض أزياء فاخرة“. كما تقوم الإسماعيلية بتأجير مساحاتها كمواقع لشركات الإنتاج الكبرى.
ويؤكد فنانون مستقلون -تدعي شركة الإسماعيلية أنها تدعمهم من خلال إقامة فعاليات مثل مهرجان الفن المعاصر- إنهم تضرروا من هذه الاستراتيجية الحضرية.
تقول الفنانة التشكيلية والمؤرخة هدى لطفي، إن “الإسماعيلية استحوذت على العديد من المواقع الفنية في وسط البلد، بما في ذلك مسرح روابط ومعرض تاون هاوس. إنها تقوم حاليا بتأجير المساحات للفنانين المصريين مما يزيد من الأعباء المالية على الفنانين”.
في تلخيص لاستراتيجية الشركة، كتبت الباحثة الحضرية هاجر عواطة: “يتم شراء العقارات بأقل من أسعار السوق بسبب حالتها، وتقديم مبالغ مالية للمستأجرين لإخلاء الوحدات السكنية، ثم تجديد المباني والوحدات لتصبح مساكن راقية”.
يرفض شافعي هذه الادعاءات، ويقول في مقابلة مع صحيفة “إيجيبت إندبندنت”: “نحن لا نركز على النماذج النخبوية ذات السبع نجوم”، مضيفا أنه “ينبغي لوسط البلد أن يحتضن جميع فئات المجتمع، ويجب ألا يكون حكرا على الأثرياء”.
يقول زعزع إن هذا النموذج بمثابة “عملية إحلال وتجديد”. بالنسبة له ولآخرين مثله، هناك مخاطر كبيرة، ويوضح قائلا: “يعد وسط البلد بمثابة قلب ورئتي الفئات ذات الدخل المنخفض في المنطقة، فضلا عن كونها شريان الحياة الاقتصادي للشركات. تتمثل أسوأ السيناريوهات في تحويل وسط المدينة إلى مساحة خاصة بالأثرياء”.
الموقع: ميدل إيست آي