في شمال غرب ليبيا، حيث جبل نفوسة أو ما يُطلق عليه أيضًا الجبل الغربي، تتناثر العديد من القرى حول مصادر المياه، خاصة الوديان، قرى جبلية معلّقة، وادعة ضاربة في أعماق التاريخ، شاهدة على حضارة قوية، تكسر حاجز الزمن وتحلق بزائريها في أعماق الماضي العريق، لترسم لوحة فنية تسحر كل ناظر إليها وتأسر كل عقل سمع عنها.
ستحط رحلة “نون بوست” ضمن ملف “قرى معلقة” هذه المرة في جبل نفوسة وقراه الجميلة، للتعرف على تاريخ المنطقة وبعض عاداتها وتقاليدها المتوارثة منذ قرون طويلة، فضلًا عن بعض شواهدها التاريخية.
الارتباط بمجاري المياه
يعود اسم جبل نفوسة بالأصل إلى اسم قبيلة نفوسة التي استوطنت الجبل فعُرف بها. تتشابه أنماط الحياة في مدن وقرى الجبل وتتماثل أساليب العمارة فيها من الغيران إلى بيوت الحفر إلى البيوت المبنية والقصور والمساجد، وتتمثل مواد البناء التي تم الاعتماد عليها أساسًا في الحجارة والجبس وجذوع النخل وأغصان الزيتون.
بُنيت هذه القرى على القمم والتلال، تتراص المباني فوق بعضها البعض على شكل هرم، فتبدو للناظر من بعيد كأنها تتسلق التل، وغالبًا ما يفصل الكتل البنائية طرقات متعرجة يمكن الوصول منها إلى قمة الجبل حتى تشاهد لوحة فسيفسائية شكلتها قرى متناثرة هنا وهناك، بعضها أصبح مهجورًا، فيما ما زال عدد قليل منها معمّرًا إلى الآن.
تتميز معظم البيوت في الجبل بأن أسطحها مسطحة استغلها الأهالي في تجفيف التمور والتين، بينما بعضها على شكل كاموري (نصف برميلية)، في حين أن أغلب المداخل والأبواب على شكل عقود، وقد كان للحروب التي تعرضت لها مدن وقرى نفوسة الأثر البين في عمارة المنطقة، إذ لم يغفل الأهالي جانب الحماية والأمن ليتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم وصد الغارات المفاجئة.
يُحبّذ أهالي نفوسة التزين بالفضة، وحتى في الأواني التي يأكلون فيها فهم يحبّذون معدن الفضة على باقي المعادن
أعطت طبيعة جبل نفوسة سكانه نمطًا معينًا من الحياة، فاختاروا السكن حول مصادر المياه خاصة الوديان، فعلى ضفة وادي “لالوت” تقع مدينة “تيغيت” التي تعرف حاليًّا باسم “أولاد محمود”، وإلى الشمال من “لالوت” تقع بلدة “تاغرويت” المشهورة بعيونها وغزارة مياهها.
وتقع على وادي “أمسين” ووادي “جلازن”، مجموعة من القرى منها “فسّاطو”، أما “وادي إكرّاين” فتقع على ضفافه مجموعة من القرى مثل “إبناين” و”القلعة” و”تلات”، وعلى ضفاف وادي الزرقاء تقع “الجمارى” و”تيندباس” و”مزغورة” و”ويفات” و”توكيت”.
أما على ضفاف وادي شروس تقع مدينة “شروس” التي تسمّى الوادي باسمها، وتقع على الضفة الشرقية لهذا الوادي بلدة “الجزيرة”، وإلى الغرب منها نجد مجموعة من القرى مثل “دركل” و”بغطورة” و”دجي” و”تنزغت” و”جريجن” و”ويغو” و”تمنكرت” و”زعرارة”.
اختار أهالي جبل نفوسة السكن حول مجاري المياه كي يعتمدوها في زراعة المحاصيل التي تشتهر بها المنطقة كالقمح والشعير، فضلًا عن زراعة أشجار التين والزيتون والنخيل التي تناثرت حول المنطقة، إلى جانب تربية الحيوانات.
قصر كاباو
تتميز قرى ومدن جبل نفّوسة، بالعديد من المعالم التاريخية التي يعود تاريخها إلى مئات السنين، من أجمل هذه المعالم التي ما زالت شاهدة على حضارة نفوسة، قصر كاباو الذي يزيد عمره على 2000 سنة تقريبًا وهو عبارة عن مبنى دائري قطره من الداخل نحو 20 مترًا وارتفاعه 18 مترًا تقريبًا، يتخلله فناء فسيح.
جاء تشكل مدينة كاباو الأثرية نتيجة لهجرات السكان الأمازيغ الذين نزحوا من المدن المتناثرة على سفوح جبال المنطقة المحيطة بها خلال القرنين الخامس والسادس بسبب التهديدات الأمنية التي شهدتها تلك المناطق، فسَعي الناس وراء إيجاد مكان أكثر أمانًا جعلهم يتكتلون داخل مدينة واحدة.
اشتهر القصر الذي يتربع على أحد قمم جبل نفوسة بالغرب الليبي بروعة تصاميمه وجمال معماره، ما جعله واحدًا من أجمل الكنوز الأثرية في ليبيا وليس في نفوسة فقط، إذ زاوج بين البساطة والحرفية، مشكّلًا لوحة فنية جميلة.
يتكون القصر من 6 طوابق علوية، إضافة إلى طابقين تحت الأرض ويضم نحو 360 غرفةً لتخزين المنتجات الزراعية من زيت وتمر وتين وقمح وشعير، ولغرف القصر هندسة خاصة تراعي شروط حفظ المحاصيل الزراعية والحيوانية لمدة طويلة كما تفضي الغرف إلى بعضها بواسطة سلسلة من الأعمدة الخشبية المغروسة في الحائط الذي يمثل الجبس أحد أهم موارده.
كان هذا القصر عبارة عن سوق كبير يجتمع فيه الأهالي لبيع البضائع المحلية والقادمة من الخارج خاصة من جنوب الصحراء، كما كان له دور مهم في الدفاع عن المدينة والتصدي للهجمات سواء القادمة من الشرق أم الغرب.
لصعود الطوابق العليا من القصر والتنقل بين الحجرات، يتم وضع أغصان أشجار صغيرة وهي الطريقة الوحيدة لوضع البضائع هناك، أي أن الأهالي كانوا يعتمدون على التسلق ولا وجود لسلالم تربط بين طوابق المبنى.
لم يتم بناء القصر خلال فترة واحدة، فقد تم الأمر على مراحل عدة، في البداية تم الاقتصار على الطوابق السفلية، ومع الوقت وازدياد حاجة أهالي الجبل لأماكن أكثر لتخزين الأغذية تم زيادة عدد الطوابق لتصل في النهاية إلى ستة.
لكل عائلة من سكان كاباو غرفة خاصة بها، وتعود فكرة بناء القصر إلى كون الأهالي قديمًا كانوا يخرجون في مواسم الزراعة وحراثة الأرض خارج البلاد، لذلك كانوا في حاجة إلى أماكن آمنة لحفظ ممتلكاتهم الثمينة فيها، وتكفي البضائع الموجودة في الغرفة مؤونة سنة كاملة للعائلة.
يتوسط القصر، مسجد صغير وهو عبارة عن مصلى يتم استخدامه عند وجود الأهالي في القصر للتجارة، ويثبت هذا المسجد مدى تعلق سكان جبل نفوسة بالدين الإسلامي، إذ عُرف عنهم تدينهم وتعلقهم الشديد بتعاليم الإسلام.
كما كانت ساحة القصر أيضًا بمثابة منتدى ثقافي واجتماعي، حيث تُقام فيها أمسيات لتداول الشعر والقصص، أما الجانب الاجتماعي، ففي باب القصر كان هناك طبل له نغمتين واحدة للحرب وواحدة للسلم، عندما يسمع الأهالي نغمة الحرب يتوجهون مباشرة للقصر، أما نغمة السلم فتكون عادة للاحتفال.
عادات وتقاليد
ترتدي نساء قرى جبل نفوسة ما يسمى بالحولي، وهو زي تقليدي يتكون من قطعة قماش مستطيلة تحيط بجسد المرأة، يُصنع الحولي يدويًا ويتأرجح لونه بين البنفسجي الداكن وتدرجاته، ويحمل في تفاصيله تراث المنطقة، فيما يلبس الرجال الوزرة الذي يلف على النصف السفلي من الجسم وهو شبيه بالفوطة، ويعتمد سكان المنطقة على صوف الحيوانات لحياكة ملابسهم، ويمكن أن تستعمل النساء أيضًا وبر الإبل لحياكة الحولي.
يصرّ سكان نفوسة على المحافظة على هذه العادات والتقاليد المتوارثة أبًا عن جد، اعتزازًا بها وتأكيدًا على قوة حضارتهم التي تناهز آلاف السنين
يُحبذ أهالي نفوسة التزين بالفضة، وحتى في الأواني التي يأكلون فيها فهم يحبذون معدن الفضة على باقي المعادن، ويحبذ الأمازيغ الفضة تيمنًا ومحاكاةً لشيشنق، وهو الملك الأمازيغي الملقب بـ”الفرعون الفضي” الذي هاجر في القرن 10 قبل الميلاد من ليبيا وأسس الأسرة الفرعونية الأمازيغية بمصر.
يتبرك أهالي نفوسة بمعدن الفضة لأنه يجلب لهم الطاقة الإيجابية ويرمز للصفاء والخير والحب، كما يتبركون بالخميسة الفضية، وهي على شكل اليد المفتوحة تُعلق للمرأة المتزوجة حديثًا وللمولود الجديد للتفاؤل وجلب الأمن لصاحبها، فهي – في اعتقادهم – تحميه من العين والحسد.
أما الأكلة الرئيسية لأهالي جبل نفوسة فهي الكسكسي، إذ لا تكاد تخلو مائدة في المنطقة منه، وغالبًا ما يتم تقديمه في آنية فخارية كبيرة تُسمّى “القصعة” أو “التبسي”، من أجل حفظ حرارته أطول فترة ممكنة، ويتم إعداده من طحين القمح أو الذرة في شكل حبيبات صغيرة، ويُتناول بالملاعق أو باليد (التغميس)، كما يُطبخ بالبخار ثم يضاف إليه الخضار والمرق واللحم أو الحليب حسب الأذواق.
كما تشتهر المنطقة بأكلة البازين أو العيش وهي وجبة ذات شكل مميز، مكونة من دقيق الشعير في معظم الأحيان والمرق واللحوم الحمراء، ويفضل تناولها في فصل الشتاء، لأنها تساعد على تدفئة الجسم، وكذلك في المناسبات الكبيرة وخاصة في الأعراس، حيث تخصص وجبة كاملة ورئيسية للبازين، وأغلب الرجال يطلبونها ويقبلون عليها في مثل هذه المناسبات.
ومن العادات المتوارثة إلى الآن في جبل نفوسة أن النساء يخرجن في يوم رأس السنة الأمازيغية من أجل جمع الأعشاب والنباتات وتعليقها على أسقف منازلهن أو رميها على الأسطح، ويعتقدون أن هذه العملية ستجلب للسكان عامًا وفيرًا بالمحاصيل الزراعية.
يصر سكان نفوسة على المحافظة على هذه العادات والتقاليد المتوارثة أبًا عن جد، اعتزازًا بها وتأكيدًا على قوة حضارتهم التي تناهز آلاف السنين، وخوفًا عليها من الاندثار خاصة في ظل التغييرات التي تشهدها ليبيا والتهميش الممارس ضدهم من السلطات المتعاقبة على حكم البلاد.