في ظلِّ انشغال المطبخ السياسي ووسائل الإعلام في تركيا بكشف خفايا الوصفة التي تحضّرها أحزاب المعارضة للإطاحة بالرئيس أردوغان في الانتخابات المقبلة، وبالتزامن مع كثرة الحديث عن إمكانية ترشُّح زعيم حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة التركية، كمال كليتشدار أوغلو، كمرشَّح مشترَك لقيادة المعارضة لمواجهة أردوغان في الانتخابات الرئاسية التي يتوقّع أن تجرى قبل موعدها، خرجَ نائب عن حزب الشعب الجمهوري بتصريح شغلَ الأوساط السياسية في اليومَين الماضيَين.
عجّت وسائل الإعلام التركية بتصريحات النائب عن ولاية أنقرة، يلدريم كايا، الذي تحدّث في مقابلة تلفزيونية على قناة Ankara Masası عن زعيم حزب الشعب الجمهوري، مدّعيًا أن كمال كليتشدار أوغلو من نسل الرسول محمد، لكنه لا يحب أن يخبر أحدًا بذلك. وأضاف: “هو لديه هذه العادة، لا يخبر أحدًا إذا ذهب للعمرة ولا يخبر أحدًا أنه من نسل النبي. لو كان لدى السيد رجب طيب أردوغان مثل هذا الماضي، لنشر كُتبًا وقامَ بتجهيز اللوحات الإعلانية”. فما حقيقة هذا الادّعاء؟ وما السرّ وراء إثارة هذا الموضوع في الوقت الذي تستعدّ به المعارضة للإعلان عن مرشّحها الرئاسي؟ وهل تفيد مثل هذه التصريحات في كسب ودّ المحافظين في الانتخابات المقبلة؟
أصل الحكاية
صحيح أن الكثيرين سمعوا لأول مرة عن الادّعاء الذي يعيدُ نسب كليتشدار أوغلو إلى النبي محمد، عقب تصريحات النائب عن حزب الشعب الجمهوري يلدريم كايا، الذي تحدّث في مقابلة تلفزيونية نهاية الأسبوع الماضي، لكن ما تجهله الأغلبية أن أصل هذا الادّعاء يعود لعام 2010، العام الذي تولّى فيه كليتشدار أوغلو رئاسة حزب الشعب الجمهوري، بعد استقالة زعيمه السابق دنيز بايكال من منصبه كرئيس للحزب بعد فضيحة الفيديو الشهيرة، وتحديدًا منتصف مايو/ أيار 2010، عندما كتبَ الصحفي والكاتب سونار يالتشين مقالًا بعنوان “الحقيقة الوحيدة غير المعروفة عن كليتشدار أوغلو” في عموده في صحيفة “حريات” التركية.
ففي بداية مقاله، ذكرَ يالتشين أن كليتشدار أوغلو سياسي مهتم بالأحداث التاريخية، وقال: “لطالما استمتعت بحقيقة أنه يشارك المعلومات الشيّقة التي قرأها في الكتب والوثائق معي. ذات يوم، بينما كنا نتحدث تطرّقنا إلى موضوع درسيم (مدينة تونجلي حاليًّا ومكان ولادة كليتشدار أوغلو)، قال لي كليتشدار أوغلو: “سأرسل لك مظروفًا؛ المعلومات الواردة فيه قد تكون ذات فائدة لك”، بعد يوم استلمت المظروف، وها أنا أخطُّ هذه السطور”.
تنتمي عائلة كمال كليتشدار أوغلو إلى قبيلة حيدران القرشية.
كان المظروف الذي أرسله كليتشدار أوغلو يحتوي على 15 صفحة، عبارة عن النسخة الورقية (المسجَّلة) من برنامج بُثّ على تلفزيون TRT Avrasya، تكلّمَ فيه البروفسيور ألمدار يالتشين عن عائلات قريش، وبالأخصّ الأشخاص المنحدرين من نسل النبي محمد، والذين فرّوا إلى خراسان بعد اندلاع الحرب بين الأمويين والعباسيين، ومن ثم جاؤوا إلى الأناضول، وكان من ضمنهم سيد محمود الحيراني، جدّ كليتشدار أوغلو، الذي لديه ضريح في منطقة أكشهير في قونية، وكان صديق مولانا جلال الدين الرومي.
وتوسّع البروفسيور يالتشين شارحًا بأنْ شغلَ حذر بيك، أحد أحفاد السيد محمود الحيراني، منصب أول قاضي في إسطنبول، ولهذا سُمّيت منطقة كاديكوي على اسمه؛ فيما كان سنان باشا، أحد أبناء حذر بيك الثلاثة، أحد كبار وزراء السلطان محمد الفاتح، ولتدعيم صحّة كلامه عرضَ البروفيسور يالتشين وثيقة من 6 أمتار تفصّل نَسَب الأشخاص الذين يعيشون في الأناضول، والذي يعود إلى أهل البيت.
وفيما تحتوي الوثيقة على 12 قبيلة أساسية، تنتمي عائلة كمال كليتشدار أوغلو إلى قبيلة حيدران القرشية، وأشار يالتشين إلى أن هذه الوثيقة كان يُصدَّق عليها من قبل مؤسسة كانت تُسمّى بـ Nakibü’l-Eşrâflık أيام الدولة العثمانية، وهي مؤسسة تحتفظ بسجلّات ذرية الرسول حتى لا يدّعي الجميع مثل هذا الادّعاء، وكانت تُعدّ وثيقتَين، إحداهما تُسلَّم للعائلة والأخرى توضع في أرشيف الدولة العثمانية، وهذه الوثائق الأرشيفية موجودة حاليًّا في مكتب مفتي إسطنبول.
من القرية إلى البرلمان
ولد كمال كليتشدار أوغلو يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 1948، في منطقة نازمية الواقعة في ولاية تونجلي (درسيم سابقًا) شرقي الأناضول، لعائلة علوية كان فيها الطفل الرابع من بين 7 أطفال، الأب كامر كان يعمل في مهنة كاتب صكوك، وكان من بين آلاف العلويين المنفيين بعد فشل تمرُّد درسيم الذي وقع بين عامَي 1937 و1939 ضد قانون إعادة التوطين ضمن سياسة التتريك آنذاك، وأمّا أمه يموش فكانت ربّة منزل.
وخلال خمسينيات القرن الماضي، غيّر والده اسم عائلته من كارابولوت إلى كليتشدار أوغلو، لأن جميع سكان القرية الذين كانوا يعيشون فيها يحملون اسم العائلة نفسه.
ولكثرة تنقُّل والده في الوظائف، واصلَ الطفل تعليمه الابتدائي والثانوي في أجزاء مختلفة من الأناضول، مثل إرجيش وتونجلي وإيلازيغ، وتخرّج من قسم العلوم الاقتصادية من أكاديمية أنقرة للاقتصاد والعلوم التجارية (كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بجامعة غازي حاليًّا) عام 1971.
بعد تخرُّجه عمل كمحاسب، وتدرّج في السلَّم الوظيفي حتى شغلَ منصب المدير العام لمؤسسة التأمين الاجتماعي (SSK) بين عامَي 1992-1996 وعامَي 1997-1999، كما شغلَ منصب وكيل وزارة مساعد في وزارة العمل والضمان الاجتماعي التركية لفترة قصيرة.
وعقب تقاعده، انضمَّ كليتشدار أوغلو إلى حزب الشعب الجمهوري، ودخل البرلمان لأول مرة كنائبٍ عن منطقة إسطنبول الثانية في الانتخابات العامة التركية التي أجريت عام 2002، ثم دخل البرلمان كنائب عن حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات العامة التركية لعام 2007، وكان مرشّحًا لمنصب عمدة بلدية إسطنبول الكبرى في الانتخابات المحلية التركية لعام 2009، لكنه حصلَ على 37% من الأصوات وظلَّ في المركز الثاني.
تبنّى كليتشدار أوغلو سياسة الباب المفتوح على الجميع، وبات يلتقي مع جميع أطياف وفئات المجتمع، وصبَّ جُلَّ تركيزه على الطبقة المحافظة التي نجح في كسب ودّ جزء منها بعد ترشيحه لأمام أوغلو.
وبعد استقالة دنيز بايكال من منصبه كرئيس للحزب بعد فضيحة الفيديو الشهيرة في عام 2010، تمَّ انتخاب كليتشدار أوغلو رئيسًا للحزب، عقب حصوله على 1189 صوتًا في المؤتمر الـ 33 لحزب الشعب الجمهوري.
محاولة كسب شرائح جديدة
تزامنًا مع قدوم كمال كليتشدار أوغلو إلى رأس حزب الشعب الجمهوري المعارض، شهدَ الحزب تغيُّرات جذرية في سياساته الداخلية وخطابه الداخلي، فضلًا عن طُرُق تعاطيه مع القضايا التاريخية الحساسة، ومن أبرزها قضية الحجاب التي صرّح كليتشدار أوغلو في أكثر من مناسبة أن حزبه أخطأ جدًّا، وكان غير ديمقراطي عندما وافق على قانون حظر الحجاب.
ولم يكتفِ بالنقد الذاتي وحسب، بل فتح الباب أمام المحجّبات في شغل مناصب مهمة في البرلمان وداخل الحزب نفسه، وهو الأمر الذي رافقه غضب كبير بين اللوبيات العلمانية المتعصّبة داخل الحزب نفسه، لكنه نجحَ في إخماد هذه المعارضة وبدأ في كسب ودّ بعض المحافظين، وبالأخصّ من فئة الشباب.
ومنذ “مسيرة العدالة” التي مشى خلالها سيرًا على الأقدام من العاصمة أنقرة إلى مدينة إسطنبول منتصف عام 2017، مطالبًا بالعدالة لللنائب المعارض من حزب الشعب الجمهوري المعارض، أنيس بربير أوغلو الذي كان يواجه عقوبة السجن لمدة 25 عامًا، تبنّى كليتشدار أوغلو سياسة الباب المفتوح على الجميع، وباتَ يلتقي مع جميع أطياف وفئات المجتمع.
كما صبَّ جُلَّ تركيزه على الطبقة المحافظة التي نجح في كسب ودّ جزء منها بعد ترشيحه لأمام أوغلو، عمدة إسطنبول حاليًّا، الذي كان يزور المساجد باستمرار ويتعمّد قراءة القرآن، لكسر الحاجز الذي يصرُّ على حشر حزب الشعب الجمهوري في خانة العلمانية المعادية للدين الإسلامي وتعاليمه، والذي لطالما استخدمه أردوغان كأداة لحشد صفوف المحافظين خلفه.
ولهذا، ربما لم تكن تصريحات القيادي في حزب الشعب الجمهوري الأخيرة مجرد حديث عابر وحسب، بل قد تكون حركة سياسية ضمن خطة موضوعة مسبقًا لاستقطاب أصوات الجماعات الدينية والمحافظين بعد عقود من القطيعة.
لكن بلا شك أن هذه الخطوة سلاح ذو حدَّين، قد تصلُ لحدّ خسارة الحزب لمناصريه العلمانيين، الذين لن يقبلوا بطبيعة الحال بتحول حزبهم إلى حزب وسطي أقرب إلى اليمين من كونه يساريًّا، وهو الأمر الذي دفع الصحفي المقرَّب من حزب العدالة والتنمية ورئيس تحرير صحيفة “حريات” التركية، أحمد حقان، إلى الردّ كاتبًا: “يحاول (كليتشدار أوغلو) بوحشية ابتلاع أصوات المحافظين من خلال هذه التصريحات”.
وأضافَ متسائلًا: “لماذا نصوِّت لأردوغان في حين أن كليتشدار أوغلو من سلالة الرسول ويبكي في العمرة؟”، ليجيب قائلًا: “البكاء في العمرة هو موقف فردي بحت وليس له نظير اجتماعي. أما ما يخصّ كونه سليل أهل البيت، فإن جميع الناس الذين يعيشون على الأرض قد انحدروا من الأنبياء”، في إشارة إلى النبي آدم.