قد لا تكون الأسبق بين أبناء أفريقيا، لكنها استطاعت في وقت قصير أن تسحبَ البساط من تحت أقدام زعماء القارّة، لتنفردَ بصدارة المشهد مغرّدة بين صفوف الكبار، فمنذ استقلالها عام 1960 وحتى اليوم، استطاعت نيجيريا تدشين ما لا يقلّ عن 139 محطة تلفزيونية، و56 دار سينما، وإنتاج هو الأكبر داخل القارّة السمراء.
“نوليوود”، كما يطلقون على صناعة السينما في نيجيريا، ذلك البلد الذي استطاع أن يسجّلَ نجاحات غير مسبوقة في خارطة صناعة وإنتاج الفن السابع، متخطّيًا كافة العقبات والحواجز التي عرقلت طريقه لعقود طويلة قبل الاستقلال، منذ أول فيلم روائي تمَّ إنتاجه عام 1970 تحت عنوان Kongi’s Harvest، وحتى آخر المهرجانات التي شارك بها العام الماضي.
وتعدّ السينما النيجيرية ثاني أكبر سينما في العالم بعد السينما الهندية من حيث الكمّ، بحسب منظمة اليونسكو، إذ تجاوز عدد الأفلام المنتَجة عام 2009 أكثر من 1800 فيلم، فيما شكّلت تلك الصناعة ضلعًا أساسيًّا في معدل نمو الاقتصاد الأفريقي بعائدات بلغت 11 مليار دولار عام 2013.. فما أبرز محطات نوليوود؟
الاستعمار والسينما
مرّت السينما النيجيرية بعدة محطات هامة في مسيرتها، البعض قسّمها إلى 4 مراحل: العصر الاستعماري، العصر الذهبي، عصر أفلام الفيديو، ثم السينما الناشئة الجديدة؛ فيما ذهب آخرون إلى قسمَين: عصر ما قبل الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، وعصر ما بعد الاستقلال.
يعود تاريخ السينما في نيجيريا إلى بدايات القرن العشرين، وبالتحديد عام 1902، بعد 6 سنوات فقط من تقديم الأخوين لوميير لعرضهما السينمائي في “الصالون الهندي” بالمقهى الكبير (الغراند كافيه) بشارع كابوسين بباريس في 28 ديسمبر/ كانون الأول 1895.
أنشأ المحتل “وحدة السينما النيجيرية” لإنتاج الأفلام، لتكون اللبنة الأولى في بناء تلك الصناعة التي فرضت نفسها بصورة غير مسبوقة.
ففي قاعة “غلوفر ميموريال” بمدينة لاغوس، تعرّف النيجيريون لأول مرة إلى السينما من خلال مجموعة من الأفلام الصامتة، التي استعان بها المحتل البريطاني، إدراكًا منه لأهمية هذا الفن الجديد في السيطرة على الشعوب وتكريس حكمه، مستندًا في ذلك إلى إحدى شركات الإنتاج السينمائي البريطانية.
ومع بدايات عام 1949، أنشأ المحتل “وحدة السينما النيجيرية” لإنتاج الأفلام، لتكون اللبنة الأولى في بناء تلك الصناعة التي فرضت نفسها بصورة غير مسبوقة، حتى احتلت شعبية وجاذبية تجاوزت كل التوقعات، وقد ركّزت الأعمال الفنية المنتَجة في تلك الفترة على إلهاء الشعوب عن فكرة المقاومة وتجميل صورة بريطانيا العظمى.
نقطة الانطلاق
وبعد رحيل الاستعمار وحصول نيجيريا على الاستقلال عام 1960، دخلت السينما مرحلة جديدة من التطور، وهي المرحلة التي يمكن أن يُطلق عليها مرحلة “تحسين الصورة” التي شوّهها المستعمر بتسييس وتسطيح الأعمال السينمائية خلال فترة الاحتلال، فكان الهدف الرئيسي لروّاد تلك الفترة تحسين الصورة النمطية عن الثقافة النيجيرية.
ويشيرُ النقّاد إلى أن السينما النيجيرية خلال السنوات الأولى بعد الاستقلال اتّسمت بعدد من السمات، أبرزها الأصالة والمعاصرة، حيث إنتاج أعمال تتماشى وتطورات العصر المتلاحقة بشتّى تفاصيلها، لكنها في الوقت ذاته تلتزم بالحدود الدنيا لأصالة المجتمع وسمته المحافظة، وهو ما كان له أثره في استمرار شعبية الأعمال السينمائية وحضورها رغم مرور سنوات طويلة على إنتاجها.
وأمام مذبحة موظفي التلفزيون الوطني النيجيري عام 1990، حيث تمَّ فصل العشرات من الموظفين على أيدي جنرالات الحكم العسكري الذي كان يهيمن على البلاد وقتها، خرجَ أحد المطرودين من عملهم للاحتجاج بطريقته الخاصة، وكان يُدعى كينيث نيبيو، فأنتج فيلمًا عنوانه “العيش في العبودية”، للتعبير عن الظلم الذي وقع عليه وزملائه.
وفي ظلِّ عدم قبول أي دار عرض سينمائية في ذلك الوقت عرض هذا العمل المتواضع فنيًّا من جانب، والذي يحمل رسائل سلبية عن الحكم العسكري من جانب آخر، اضطرَّ الرجل لعرضه في الشارع أمام المارّة بأسعار زهيدة وأحيانًا بالمجّان، لكن المفاجأة كانت مع الإقبال الكبير لهذا العمل والشعبية الجارفة التي حقّقها، إذ رأى فيه النيجيريون لسان حالهم ومعبّرًا صادقًا عن آلامهم ومعاناتهم اليومية تحت حكم العسكر.
وحول تلك الواقعة، يحاول المنتج السينمائي النيجيري المعروف، محمود بالوغون، استعادة بعض ذكرياته معها خلال تصريحاته لـ”الجزيرة“، فيقول: “لم يفهم أصدقاء كينيث ما الذي يدور في رأسه، وحاولوا جاهدين إقناعه بأن التلفزيون ودور السينما لن تعرض فيلمه أبدًا، وأنه إن لم يخسر حريته فسيخسر من دون شكّ ماله. لكن كينيث قال لهم إذا خسرت وطني، فلن يبقى لدي ما أخسره، أما فيلمي فسأبيعه في الشارع كما يباع الموز. وكذلك فعل، وفاجأ الجميع، لأنه حقق ربحًا ماديًّا، كما حقق هدفه الأساسي وهو أن يوصل صوته للناس، وقد أحبَّ الناس فيلمه، لأنهم وجدوا فيه أنفسهم. لقد كان فيلمًا نيجيريًّا بالفعل”.
التطور الكبير في صناعة السينما كان في الكمّ فقط، حيث كان يتّسم الكيف بالتواضع وفقر السيناريو والحوار وضعف القصص والروايات.
وفتح هذا العمل المجال أمام طوفان كبير من الإنتاج السينمائي، فبعد 3 سنوات فقط من عرض “العيش في العبودية” أُنتجت 3 أفلام أخرى، ولاقت هي الأخرى نجاحًا كبيرًا، ومع قدوم عام 1996 بلغَ عدد الأفلام في البلد الأفريقي 177 فيلمًا، زادت إلى 447 في العام الذي يليه، ليصل عددها عام 2004 إلى أكثر من 1000 فيلم.
لكن من الملاحَظ أن هذا التطور الكبير في صناعة السينما كان في الكمّ فقط، حيث كان يتّسم الكيف بالتواضع وفقر السيناريو والحوار وضعف القصص والروايات، مع الافتقار لمعدّات وأجهزة التصوير المتطورة، وعليه ما كان بمستغرَب أن يكون هناك أفلام بميزانيات لا تتجاوز 5 آلاف دولار فقط، ويُنتهى من تصويرها في 3 أيام.
سينما الفيديو
تعرّضت صناعة السينما أواخر القرن الماضي لهجمات وانتقادات حادة خلال تلك المرحلة كثيفة الإنتاج، لما بدت عليه من مستويات ضعيفة، فضلًا عن الاتهامات الخاصة بإرهاق موازنة الدولة وتعريض العملات الأجنبية بها للخطر، بما قد يترتّب عليه من تداعيات اقتصادية سلبية في بلد يعاني من أوضاع معيشية صعبة.
وعليه اتخذ القائمون على تلك الصناعة مسارَين متوازيَين، الأول التركيز على الكيف أكثر من الكمّ في الأعمال المنتَجة، والثاني التوجُّه نحو صناعة الفيديو، حيث قفزَ الأخير قفزات كبيرة خلال بدايات القرن الحالي، وأفلام الفيديو بجودة عالية غزت كافة البيوت عبر أجهزة الفيديو المنزلية.
وعامًا تلو الآخر استطاعت تلك الأفلام تحقيق إيرادات وأرباح طائلة، تفوقت بها على تلك الأفلام المعروضة في دور السينما رغم التطوُّر الذي لمسته الأخيرة، ونتيجة لهذا النجاح بدأ التفكير باستبدال أشرطة الفيديو تدريجيًّا بالـ DVD فى حملة كبرى تحت شعار “صناعة قابلة لازدهار”.
وكان من مخرجات هذا التوجه ازدهار كافة الصناعات المتعلِّقة بالسينما، ومنها صناعة الملابس والمؤثرات الفنية والخدع السينمائية والديكور، وما ترتّب عن ذلك بالتبعية من طفرة كبيرة في أجور الممثلين والمخرجين، الأمر الذي كان له صداه على خارطة الاقتصاد بصفة عامة، وتوجُّه الدولة نحو دعم تلك الصناعة.
ويعدّ فيلم Osuofia in London، الذي قام ببطولته نيكيم أواه وأخرجه كينجسلى أوجرو عام 2003، الانطلاقة الحقيقية نحو دخول السينما النيجيرية عصر العالمية، و تدور أحداثه حول الشاب القروي أوسوفيا الذى يسافر من نيجيريا إلي لندن ليأخذ نصيبه من الميراث الذى تركه له أحد أقاربه بعد وفاته، ورغم أن العمل يندرج تحت إطار الكوميديا لكنه وضعَ الدولة الأفريقية على خارطة أباطرة السينما العالمية.
“مشروع نوليوود”
في عام 2006 أطلقت الحكومة النيجيرية “مشروع نوليوود”، استجابةً للإقبال الكبير على الأعمال السينمائية في ذلك الوقت، حيث قدمت الدولة دعمها غير المتوقع والمسبوق لصنّاع السينما، من أجل إنعاش هذا القطاع وتطويره بأحدث الوسائل العصرية، بما يحقق العائد الاقتصادي المتوقع.
البداية كانت بـ 800 مليون دولار قدّمتها الحكومة كدعم مادي لمشاريع أفلام للمنتجين النيجيريين، وكانت باكورة إنتاج تلك المشاريع فيلم الرعب الشهير “الدمية الحجرية” عام 2009، وهو العمل الذي حقق أرباحًا هائلة، ما أغرى السلطات في البلاد لضخّ المزيد من الدعم، فكان صندوق دعم السينما الذي أطلقته الحكومة عام 2010 بقيمة 200 مليون دولار، وكان يهدف تطوير البنية التحتية السينمائية وتدريب العاملين، وإقراض المنتجين لتنفيذ أفلامهم.
بلغت الأعمال التي تمَّ إنتاجها حتى عام 2009 قرابة 1800 فيلم سينمائي، ما دفع منظمة اليونسكو لتصنيف السينما النيجيرية ثاني أكبر سينما بعد السينما الهندية “بوليوود” من حيث كمية الإنتاج، فيما ذهبت التقديرات والتوقعات إلى أن تلك الصناعة سيكون لها دور محوري في دعم الاقتصاد الوطني للبلاد مستقبلًا.
رغم ما تذهب إليه التقديرات بشأن حجم التعاملات السنوية لصناعة السينما في نيجيريا، والتي تبلغ نحو 250 مليون دولار فقط، لكنها تفتح الباب على مصراعَيه أمام العديد من الاستثمارات في شتّى المجالات.
وسريعًا ما لامست التوقعات حاجز الواقع، ففي عام 2014 خرج فيلم “30 يومًا في أطلنطا” للنور، الفيلم الذي يعدّ الأول أفريقيًّا الذي يحقق أرباحًا فاقت مليون دولار في ذلك الوقت، بخلاف عشرات الملايين في دور السينما الأوروبية والأمريكية، إلا أنه كان نقطة تحول في انفتاح العالم على السينما الأفريقية.
وصلت الطفرة في معدلات الإنتاج أن كان تبلغ شهريًّا 200 فيلم، بحسب المنتج بالوغون، الذي أشار إلى أن تلك الصناعة كانت توظِّف قرابة مليوني شخص في البلاد، لتكون ثاني قطاع يوفِّر الوظائف للناس بعد الزراعة، هذا بخلاف إنعاشها لعشرات المجالات المرتبطة بها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
ورغم ما تذهب إليه التقديرات بشأن حجم التعاملات السنوية لصناعة السينما في نيجيريا، والتي تبلغ نحو 250 مليون دولار فقط، لكنها تفتح الباب على مصراعَيه أمام العديد من الاستثمارات في شتّى المجالات، ما أغرى المستثمرين من كافة ربوع العالم، إذ يتمُّ استثمار نحو 500 مليون دولا أمريكي في صناعة السينما النيجيرية، ويعمل بها نحو 300 ألف شخص.
وواجهت تلك الصناعة العديد من العقبات، الفنية والسياسية والأمنية، لعلّ أبرزها تعرضها للتجريم والمنع من قبل جماعة “بوكو حرام”، التي حرّمت تصوير الأفلام في المناطق التي تسيطر عليها، ومنعت بيع الأقراص بها، ما كان له أثره على حجم ومستوى صناعة السينما، غير أن إيمان النيجيريين بها كان له الكلمة العليا في نهاية المطاف.
ويعود الفضل لنيجيريا في تسليط الضوء على السينما الأفريقية في المحافل السينمائية الدولية، فباتَت لأفلام القارّة السمراء أجنحة كاملة باسمها، تقديرًا لما تتمتّع به من مستوى جودة عالية ومراعاة للتطورات التي تشهدها تلك الصناعة، ما جعلها تنافس نظيرتها في الهند وهوليوود.
وبعيدًا عن جدلية الكيف والكمّ، والتي حسمتها السينما النيجيرية بمنهجية جديدة تراعي المضمون وجودته على كافة المسارات، تمثّل نيجيريا الدولة الأكثر حضورًا وتأثيرًا في خارطة السينما الأفريقية، لتبقى السينما، بجانب أنها رسالة ترتقي بالإنسان، رافدًا مهمًّا من روافد الفنون الاقتصادية ومورِدًا محوريًّا من أعظم وأهم موارد الدولة.