تراجع اهتمام الكثير من الشركات الأمريكية بالسعودية كسوق استثماري واعد، في ظل الأخطاء والأزمات التي تصدرها السياسة التي يتبعها ولي العهد محمد بن سلمان لتطبيق رؤيته الهادفة إلى تعزيز الاقتصاد غير النفطي في أقصى سرعة، هذا ما قالته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، في تقرير نشرته للكاتبين ستيفن كالين وجستين شيك.
التقرير كشف أنه في الوقت الذي تتودد فيه الرياض لكبريات الشركات العالمية من أجل تعزيز اقتصادها ومنافسة المراكز الاقتصادية الإقليمية، تحولت إلى بيئة عدائية للأعمال والتجارة، وهو ما أفقد المستثمرين شغفهم بالمملكة الغنية بالنفط، ما يشكل ضربة موجعة لخطط ابن سلمان التنموية التي يحاول من خلالها الأمير الشاب تقديم أوراق اعتماده للغرب كخليفة لوالده على كرسي الحكم.
وشهدت الآونة الأخيرة حزمة من الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها المملكة كان لها ارتداداتها العكسية على خريطة الاستثمار بصفة عامة، هذا بخلاف حالة القلق التي بدأت تخيم على الاستثمار الأجنبي في أعقاب حملات الاعتقال والتنكيل المتتالية التي طالت رجال أعمال، بعضهم أجانب، وهو ما يمكن أن يكون له تأثيره على مستقبل الاقتصاد في البلد النفطي الأكبر في المنطقة.
تراجع الاهتمام بالسوق السعودي
الصحيفة الأمريكية استندت في تقريرها إلى بعض النماذج لشركات أجنبية قللت من فرص وجودها داخل السوق السعودي، أبرزها شركتي “أوبر تكنولوجيز” و”جنرال إليكتريك” وذلك جراء الضرائب الباهظة المفروضة عليها في الآونة الأخيرة، هذا بخلاف إعادة شركة الإنشاءات “بيكتال كورب” لبعض المقاولين العاملين لديها إلى ديارهم، بسبب عجزها عن سداد الفواتير المحصلة عليها.
الوضع ذاته تعاني منه شركتا “بريستول مايرز سكويب” و”جلعاد ساينسيز” وغيرهما من شركات الصناعات الدوائية، التي تعاني من تعرض ملكيتها الفكرية للسرقة دون تحركات عاجلة وإجراءات تأمينية ضامنة من السلطات السعودية، الأمر الذي دفع تلك الشركات إلى إعادة النظر في وجودها داخل المملكة.
تتصدر أسباب تراجع اهتمام الشركات الأجنبية بالسوق السعودي “الضرائب المضاعفة” التي أثقلت كاهل الشركات العاملة في السوق السعودي، لا سيما ضريبة القيمة المضافة التي تضاعفت 3 مرات خلال عام 2020
ومن المظاهر اللافتة لتراجع هذا الاهتمام أن كثيرًا من المشروعات التي كانت موكلة لشركات أجنبية لم تر النور، مثل مشروع فتح مخزن رئيسي في وسط الرياض الخاص بشركة “أبيل”، والمركز التجاري (مول أوف أمريكا) الممنوح لشركة “تريبل فايف جروب”، وهي المشروعات التي تتكلف مليارات الدولارات، بجانب تنازل شركة “إيه إم سي إنترتينمنت هولدنغر” عن الكثير من صلاحياتها للشريك السعودي.
ورصد التقرير التراجع الواضح في حجم الاستثمارات الأجنبية في السعودية خلال عام 2020، إذ بلغ 5.4 مليار دولار، وهي القيمة التي لا تتجاوز 50% مما كانت عليه قبل عشر سنوات تقريبًا، وأقل من المستهدف البالغ 19 مليار دولار وفق الخطة التي قدمتها المملكة لتعزيز الاستثمار الأجنبي.
وكانت التوقعات تشير إلى زيادة حجم تلك الاستثمارات خلال العام الماضي لتصل إلى 6 مليارات دولار، وفق البيانات المعلنة للربع الثالث من العام المالي الماضي، هذا بخلاف إيراد بيع حصة عملاق النفط العالمي “أرامكو” البالغة 12.4 مليار دولار، لكن هذا لم يتحقق.
أسباب التراجع
قائمة مطولة من الأسباب كانت وراء هذا التراجع، سواء تلك التي أوردها تقرير الصحيفة الأمريكية أم التي كشفتها وسائل الإعلام في معرض تغطيتها اليومية للتطورات داخل المملكة، التي لاقت امتعاضًا كبيرًا لدى بعض المستثمرين، السعوديين منهم والأجانب، ودفعت بالبعض منهم إلى مغادرة البلاد.
وتتصدر تلك القائمة “الضرائب المضاعفة” التي أثقلت كاهل الشركات العاملة في السوق السعودي، لا سيما ضريبة القيمة المضافة التي تضاعفت 3 مرات خلال عام 2020، وتتماشى مع موجة القفزات الجنونية في حزمة الضرائب التي فرضتها السلطة السعودية لسد عجز الموازنة العامة المستمر قرابة 6 سنوات.
كذلك خطاب التهديد والوعيد الذي تبنته المملكة مع الشركات الأجنبية العالمية وإجبارها على نقل مكاتبها الإقليمية إلى الرياض كشرط لاستمرار عقودها المبرمة مع الحكومة، وإلا فالانسحاب هو الرد على من لا يلتزم بتلك التعليمات الجديدة، الأمر الذي اعتبرته تلك الشركات “لي لذراعها وابتزاز رسمي لها” سيكون له تبعاته على المستوى البعيد حتى إن حقق أهدافه المرحلية مؤقتًا بنقل عشرات الشركات لمقارها إلى العاصمة السعودية حفاظًا على استثماراتها.
ومن المعوقات التي ألقت بظلاها القاتمة على خريطة الاستثمار الأجنبي في المملكة إجبار الشركات على توظيف السعوديين في إطار سياسة “سعودة الوظائف”، وهو التوجه الذي رغم ما يمثله من دعم وتعزيز لأبناء الدولة، فإنه يمثل إرهاقًا كبيرًا لميزانيات الشركات، خاصة تلك التي يكون تضمينها لسعوديين من باب “تستيف الورق”، إذ إنها ليست بحاجة لهم في معظم الوقت، هذا بجانب الثغرات الموجودة في النظام القانوني اللائحي للاستثمارات الأجنبية والبيروقراطية الشديدة، التي رغم محاربتها قدر الإمكان لكنها حاضرة بقوة ونافذة التأثير في المشهد.
لغة الأرقام وحدها ليست كافية للوقوف على الواقع الفعلي، فتلك اللغة سقطت في مستنقعات التسييس لأغراض أخرى تخدم الأنظمة الحاكمة وتروج لصورتها خارجيًا، بعيدًا عن تقييم المشهد عمليًا
قلق المستثمرين على سلامتهم
السجل الحقوقي المشين كان هو الآخر على رأس قائمة أسباب هذا التراجع، إذ شكلت حادثة اغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي، في أكتوبر/تشرين الأول 2018 في مقر قنصلية بلاده بإسطنبول، صدمة كبيرة للمستثمرين الأجانب، كونها مؤشرًا خطيرًا على سلامتهم الشخصية حال حدوث اختلاف – وهذا وارد – بينهم وبين حكومة المملكة.
كانت وتيرة القلق قد بدأت في التصاعد منذ حملة الاعتقالات التي شنها ولي العهد في 2017 ضد العشرات من أبناء عمومته وكبار رجالات الدولة، بعضهم من المستثمرين ورجال الأعمال، وهو ما كان له أثره على سمعة المملكة وثقة أصحاب رؤوس الأموال بهذا السوق الذي يفقدون فيه شعورهم بالأمان.
العديد من الشهادات وثقتها وسائل الإعلام الأجنبية لمستثمرين أجانب وقعوا في قبضة السلطات السعودية التي انتقمت منهم بسبب التعبير عن عدم رضاهم عن قوانين التجارة والأعمال السعودية، بعضهم (أمريكي الجنسية) اضطر لتفويض وزارة خارجية بلاده بالتحرك حال اعتقاله داخل المملكة، هذا بخلاف اعتقال مستثمر أمريكي آخر عند وصوله الرياض واحتجازه ثلاثة أيام داخل زنزانة بالمطار قبل ترحيله لموطنه دون إبداء أسباب.
ومن النماذج الفجة على تهديد سلامة المستثمرين الأجانب في المملكة تلك الشهادة التي نقلتها صحيفة “ووال ستريت جورنال” عن المستثمر الفلسطيني، سليمان صالحية (67 عامًا) الذي تعرض للاعتقال والتنكيل هو وأسرته بسبب مطالبته بحقه في التعويض جراء تعرض شركته للخسارة بسبب السياسات التي فرضتها الحكومة السعودية.
وتلقى المستثمر الفلسطيني الذي يملك شركةً صغيرةً تقوم بتجميل ساحات الجامعات والقصور الملكية، العديد من الضربات الموجعة، قضائيًا وإنسانيًا، ومنع من مغادرة البلاد وتقطعت به السبل وبزوجته وأولاده الذين لم يتمكنوا من إتمام تعليمهم داخل المملكة.
واقتيد صالحية مقيد اليد والقدم ورأسه داخل كيس أسود، إلى زنزانة صغيرة، بعد مداهمة الشرطة لمنزله فجرًا، ليمكث داخل محبسه 18 يومًا، عانى فيها من صور عدة من الانتهاكات، وكان ذلك بسبب لقاء أجراه معه مراسل صحيفة “ذي ووال ستريت جورنال”، الأمر الذي اعتبرته سلطات المملكة تهديدًا لأمنها، وعن ذلك يقول الرجل: “صرخوا في وجهي، وخبطوا على الطاولة، وعذبوني صعقًا بالكهرباء، وكانت جريمتي هي أنني أحترم القانون وألتزم به”.
ربما تشير الأرقام والمؤشرات الرسمية إلى واقع مغاير تمامًا لما تم تناوله، فبحسب البنك الدولي قفزت المملكة 30 مركزًا منذ 2019 في قائمة سهولة أداء الأعمال لتصبح الآن في المركز الـ62، هذا بخلاف الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الرياض لتعزيز الاستثمار الأجنبي، أبرزها السماح بالملكية الأجنبية بنسبة 100% في عدد من القطاعات، التي تهدف إلى جذب 500 شركة أجنبية بحلول 2030 بحسب الهيئة الملكية لمدينة الرياض لوسائل الإعلام السعودية.
لكن في الوقت ذاته فإن لغة الأرقام وحدها ليست كافية للوقوف على الواقع الفعلي، فتلك اللغة سقطت في مستنقعات التسييس لأغراض أخرى تخدم الأنظمة الحاكمة وتروج لصورتها خارجيًا، بعيدًا عن تقييم المشهد عمليًا، وهي الخطيئة التي وُصمت بها بعض الدول في المنطقة التي تربطها علاقات ومصالح قوية مع الهيئات والمؤسسات الاقتصادية العالمية التي تكتفي بما يرد إليها من أرقام وإحصاءات رسمية بعيدًا عن إخضاعها للتقييم الفعلي.