ترجمة وتحرير: نون بوست
علا صوت قرع طبول الحرب أكثر من المعتاد هذا الأسبوع بعد فشل المحادثات الدبلوماسية ونشر روسيا للمزيد من القوات العسكرية على الحدود الأوكرانية والهجوم الإلكتروني الضخم الذي تعرّضت له مواقع الحكومة الأوكرانية وانتشار الشائعات بأن المخربين الروس يختبئون في شرق أوكرانيا في انتظار الأوامر من موسكو.
من بين الأسباب التي تجعل العديد من المحللين يتوقعون شنّ هجوم روسي هو أن الكرملين منذ فترة طويلة لا يعتبر أوكرانيا دولة ذات سيادة وإنما ينظر إليها على أنها تابعة للأراضي الروسية، ولعل ذلك ما أوضحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مقال من 5000 كلمة كتبه الصيف الماضي. ويُعتقد أن موسكو تخشى أن تصبح أوكرانيا عضوا في حلف شمال الأطلسي وتنجح في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وحينها ستتلقى المساعدة لحماية حدودها في مواجهة روسيا.
من المرجح أن هذه المخاوف هي الدافع أيضًا وراء ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في سنة 2014 وما نتج عنه من اضطرابات في شرق أوكرانيا، حيث يسيطر الانفصاليون المدعومون من روسيا اليوم على أجزاء من مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك. لكن هذه التحركات فشلت في إضعاف أوكرانيا بشكل كاف أو تقويض ديمقراطيتها، وقد تمكن الرئيس فولوديمير زيلينسكي من تقليص النفوذ الروسي في البلاد إلى حد كبير، بينما أظهر كل من الناتو والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وتركيا في الأشهر الأخيرة استعدادًا متزايدًا لدعم كييف.
ربما تجد روسيا نفسها مرة أخرى في حاجة ماسة للمساعدة. وقد تكون النتيجة المثالية التي تأمل موسكو تحقيقها في أوكرانيا، في حالة اندلاع الحرب، شبيهة بالوضع الحالي في جزيرة قبرص، التي تم تقسيمها منذ الغزو العسكري التركي في سعى إلى تفادي انقلاب مدعوم من أثينا في سنة 1974.
فشل احتلال تركيا للجزء الشمالي من الجزيرة، المعروف باسم جمهورية شمال قبرص التركية المعترف بها فقط من قبل تركيا، في منع جمهورية قبرص من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في سنة 2004، ولكن قد تنظر تركيا إلى الغزو على أنه نجاح من وجهات نظر أخرى.
مثلما كنت قد أوضحت في هذه الصفحات السنة الماضية، فشلت المحادثات لحل النزاع وإعادة توحيد الجزيرة مرارا وتكرارا لدرجة أن أنقرة ورئيس جمهورية شمال قبرص التركية، إرسين تتار، يدعوان اليوم لحل الدولتين. وبعد عقود من الضغط من أجل اتحاد فيدرالي ثنائي المناطق، يوافق على هذه الفكرة أكثر من أربعة من كل خمسة (أي 81 بالمئة) من القبارصة الأتراك، وفقا لاستطلاع أجري سنة 2020.
أنشأت تركيا قاعدة طائرات مسيّرة في الشمال تقول عنها نيقوسيا إنها تزيد التوترات وتسلط الضوء على أجندة أنقرة “التوسعية”
يرجع هذا إلى حد كبير إلى أن المستوطنين الأتراك يمثلون حاليا حوالي نصف سكان جمهورية شمال قبرص التركية، مما أدى إلى تغيير الديانة والموقف السياسي المهيمن. استطاعت القوات التركية المكونة من 40 ألف جنديا من تحويل شمال قبرص إلى دولة تابعة، حيث تستطيع أنقرة الآن إعادة تشكيل كل شيء من القوانين إلى المناهج الدراسية والعمل على الوصول إلى الموارد الطاقية في المياه المتنازع عليها المحيطة بالجزيرة.
خلال السنة الماضية، أنشأت تركيا قاعدة طائرات مسيّرة في الشمال تقول عنها نيقوسيا إنها تزيد التوترات وتسلط الضوء على أجندة أنقرة “التوسعية”. وصرّح الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في تقرير صدر مؤخرًا، بأنه في حال استمرار الزخم الحالي فإن إمكانية التفاوض على تسوية لصالح قبرص قد تصبح بعيدة المنال.
في الأسبوع الماضي فقط، انسحبت الولايات المتحدة من مشروع خط أنابيب مخطط له مع قبرص واليونان و”إسرائيل” لأن استثناء شمال قبرص من المرجح أن يأجّج التوترات مع تركيا. ودعونا لا ننسى أن كل هذه الخلافات تحركها التوترات المستمرة بين الخصمين الأبديين، تركيا واليونان، اللذان خاضا عدة حروب وكانا قاب قوسين أو أدنى من الدخول في حرب أخرى في صيف 2020.
مثلما هو الحال مع نهج موسكو المزعوم تجاه كييف، لطالما كانت سياسة حزب العدالة والتنمية الحاكم في قبرص متماشية مع جهوده المحلية لبناء هوية قومية قوية وتحقيق هدفه الإقليمي المتمثل في إعادة إحياء أمجاد تركيا، كما هو مفصل في نسخة السنة الماضية من مجلة “بريتش جورنال أوف ميدل إيسترن ستاديز”. ولا يمكن أيضا إنكار أوجه الشبه التاريخية، إذ حكمت الإمبراطورية العثمانية قبرص لأكثر من ثلاثة قرون، بينما كانت أوكرانيا جزءًا من الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفيتي فيما بعد.
طوّر الجانب الأوروبي من جزيرة قبرص، محدود التحركات بسبب جمهورية شمال قبرص التركية، ميلا إلى الأعمال غير المشروعة. ومثل العديد من الدول الصغيرة في جميع أنحاء العالم التي تحتاج إلى حلفاء كرماء، بنت قبرص اقتصادها حول قطاع مالي موجه نحو جذب الاستثمار الأجنبي.
وبفضل تدني الضرائب وقلّة القواعد التنظيمية ووجود الكنيسة الأرثوذكسية، أصبحت قبرص ملاذًا للمستثمرين الروس. وقبل عقد من الزمان، كانت الودائع الروسية في البنوك القبرصية تقدّر بقيمة 31 مليار دولار، أي أكثر من الناتج المحلي الإجمالي للجزيرة. ثم امتدت الأزمة المالية في اليونان سنة 2013 إلى قبرص، فعرضت الحكومة الجنسية على الأجانب الراغبين في استثمار مليوني يورو (2.2 مليون دولار) في العقارات.
بموجب هذه الخطّة، أصبح اثنين من الروس المفروضة عليهم عقوبات أمريكية وعدد من الشخصيات الماليزية والكمبودية المتورطين في جرائم مالية يحملون الجنسية القبرصيّة. ومنذ ذلك الحين، شددت نيقوسيا عملية المراجعة وبدأت تحقيقا لتجريد عشرات الأشخاص من الجنسية بسبب احتمال ارتكاب “جرائم”، لكن المشكلة أبعد ما تكون عن إمكانية إصلاحها. قال الصحفي الاستقصائي القبرصي ستيليوس أورفانيدس لصحيفة فاينانشيال تايمز: “لا يمكنك توقّع النفوذ الذي تمنحه لأشخاص مرتبطين بأنظمة غامضة عندما تقدّم لهم جوازات سفر ذهبية”.
قد يكون الاستقطاب السياسي والتوترات العسكرية والتدخل الغربي المتردد والمعاملات الاقتصادية المشبوهة التي توفر ملاذا للأوليغارشية، شبيهًا بتصوّر روسيا حول كيفية احتلال أوكرانيا جزئيا. في المقابل، هذا لا يعني أن قبرص دولة غير جذابة أو فاشلة.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يستعرض حرس الشرف مع زعيم القبارصة الأتراك، إرسين تتار، قبل مغادرته جمهورية شمال قبرص التركية، وهي دولة انفصالية لا تعترف بها سوى تركيا.
تجتذب شواطئ قبرص الرائعة حشودا من السياح في الصيف ويُنظر إليها عموما على أنها ديمقراطية مستقرة. لكن الوجود العسكري التركي يجعل الجزيرة أشبه بقنبلة موقوتة. (هناك تشابه آخر مثير للاهتمام: فمثلما تعدّ روسيا المصدر الرئيسي للاستثمار الأجنبي في قبرص، أصبحت تركيا اعتبارًا من السنة الماضية أكبر مستثمر أجنبي في أوكرانيا).
تصاعدت التوترات بشكل خاص في الشمال مؤخرًا، بسبب التأثير المدمر لتراجع قيمة الليرة التركية التي اعتمدتها جمهورية شمال قبرص التركية في سنة 1976، والإحباط تجاه النفوذ الذي تحظى به تركيا مع اقتراب الانتخابات البرلمانية الأسبوع المقبل. علاوة على ذلك، تواجه المنطقة حظرًا دوليًا طويل الأمد وتعتمد بشكل كبير على الاقتصاد التركي.
في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أفادت وسائل الإعلام المحلية بوجود قائمة تضم أكثر من 40 فردا من القبارصة الأتراك البارزين الممنوعين من دخول تركيا، بما في ذلك الرئيس السابق لجمهورية شمال قبرص التركية، مصطفى أكينجي، والعديد من كبار المحامين والنشطاء والصحفيين. ولم يتعامل القبارصة الأتراك بلطف مع من يفترض أنهم ممولوهم، خاصة بشأن إسكات أولئك الذين لا يوافقون على سياساتهم.
أدت القائمة السوداء، إلى جانب الصعوبات الاقتصادية المتزايدة، إلى نزول آلاف القبارصة الأتراك إلى الشوارع احتجاجًا على ما يعتبرونه تطاوًلا من طرف أنقرة. وقد دعا الكثيرون إلى مقاطعة الانتخابات، التي يعتقدون أن تركيا تسيطر عليها بشكل أساسي، كما أطلق البعض منظمات تعارض أنقرة وتدعو إلى إيجاد حل فيدرالي.
قال سينير إلسيل، الذي يرأس نقابة المعلمين القبارصة الأتراك وأحد الممنوعين من دخول تركيا، لصحيفة “الغارديان” الأسبوع الماضي: “تركيا هي مشكلتنا الأكبر، ويجب أن تفكّ سيطرتها عن قبرص وأن تأخذ ليرتها وتذهب بعيدا”. في المقابل، إذا استغرق الأوكرانيون، الذين تحتلهم روسيا، قرابة نصف قرن ليبدأوا في الاتحاد والانتفاض، فمن المرجح أن تكون موسكو راضية عن النتيجة.
المصدر: ذا ناشيونال