تشهد محافظة الرقة شمال شرقي سوريا، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، تحركات مثيرة للشكوك لنظام الأسد، وسط سعي متواصل من قبل موسكو لتشريع وجود النظام بالتنسيق مع “قسد”، التي تفرض سيطرتها على المناطق الواقعة شرقي نهر الفرات.
جاءت تحركات نظام الأسد العسكرية والأمنية على خلفية التهديدات التركية، التي تهدف إلى شنّ عملية عسكرية لطرد “قسد” من المناطق الحدودية مع تركيا، إلا أن روسيا استغلت تهديدات أنقرة في سبيل تعزيز وجود نظام الأسد في مناطق شرقي الفرات. وما أثار مخاوف أهالي المحافظة والوافدين إليها، هو عودة سلطة نظام الأسد إلى المحافظة، ووصولها إلى مرحلة تشبه مرحلة الجنوب السوري، الذي يعيش أوضاعًا أمنية متردّية رغم مرور أعوام على عمليات التسوية، فما الذي ينتظر المحافظة؟
تحركات أمنية وعسكرية للنظام
افتتح نظام الأسد في 12 يناير/ كانون الثاني مركزًا لعمليات التسوية في منطقة السبخة غربي الفرات التابعة لمحافظة الرقة، عقب اقتراب انتهاء التسويات في محافظة دير الزور، وتشمل التسويات كامل سكّان المحافظة سواء في المناطق الواقعة تحت سيطرة “قسد” أو المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، بحسب ما نقلت “وكالة سانا” الموالية.
بينما حضرَ افتتاح المركز في يوم عمله الأول مدير إدارة المخابرات العامة في سوريا، اللواء حسام لوقا، باعتباره إحدى الشخصيات الأمنية الفاعلة في ملفّ التسويات، التي امتدّت من الجنوب السوري إلى الشمال الشرقي من البلاد، برعاية روسية.
وأكّدت مصادر خاصة لـ”نون بوست” أن “النظام اتخذ مركز التسوية في منطقة قريبة من مناطق تسيطر عليها الإدارة الذاتية، بغية وصول صدى ترويجه للتسوية إلى الأهالي المقيمين في مناطق الإدارة الذاتية، حيث يستغلّ حضوره في المحافظة في الترويج لإجراء مصالحات، عبر شخصيات محلية تعمل على إعادة تدوير وجود النظام، وعلى رأسها افتتاح المؤسسات والدوائر الحكومية”.
وأوضحت المصادر: “إن المقبلين لإجراء عمليات التسوية أعدادهم قليلة، بينما تضطر بعض العائلات النازحة لإجراء التسوية بغية العودة إلى منازلها الواقعة تحت سيطرة نظام الأسد، وما تنقله عدسات الإعلام الموالي للنظام عن إقبال أعداد كبيرة هو محض افتراء، ومعظم الذين يجرون تسويات يعيشون في مناطق النظام حيث بجانبهم العشرات من الميليشيات”.
إلى جانب تلك التحركات الأمنية، يواصلُ نظام الأسد إرسال التعزيزات العسكرية إلى منطقة عين عيسى شمال محافظة الرقة، والتي تسيطر عليها “قسد” بالاشتراك مع عناصر من قوات النظام السوري، وتقع على مقربة من خطوط التماسّ مع قوات الجيش الوطني السوري المدعوم تركيًّا، والذي ينتشر في منطقة نبع السلام.
في هذا السياق، قال الصحفي همام عيسى، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “وصلَتْ تعزيزات عسكرية لقوات النظام إلى اللواء 93 بريف الرقة الشمالي، وتضمّنت التعزيزات 13 عربة عسكرية و6 ناقلات جند تقلُّ الواحدة منها أكثر من 10 عناصر”.
وأضاف: “إن التعزيزات من قوات الفرقة 17 المدعومة من قبل روسيا، دخلت إلى المنطقة بالتنسيق مع “قسد”، بهدف تعزيز وجود قوات نظام الأسد على الخطوط الأمامية مع الجيش الوطني”، مؤكّدًا “وجود عناصر من ميليشيات مختلفة تقاتل إلى جانب النظام، يرتدون زي جيش نظام الأسد”.
وتنتشر قوات نظام الأسد في مناطق متفرِّقة من المحافظة، أبرزها خطوط التماسّ مع الجيش الوطني وتركيا في منطقة نبع السلام، وأيضًا في منطقة عين عيسى شمال الرقة، ومنطقة الطبقة، ومركز المدينة، بعدما سمحت “قسد” بدخولها إلى مناطق سيطرتها جرّاء التهديد التركي بعملية عسكرية تستهدفُ مناطقها.
اجتماع برعاية روسية
أجرت القوات الروسية المتواجدة شرقي الفرات، الثلاثاء 11 يناير/ كانون الثاني، اجتماعًا ضمَّ ممثلين عن مجلس سوريا الديمقراطية “مسد” وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” ونظام الأسد، في مدرسة العروبة في مدينة عين عيسى، بهدف إنشاء حوار كردي مع نظام الأسد.
وقال الناشط موسى الخلف لـ”نون بوست”: “طلبَ نظام الأسد من “قسد” منحه إمكانية تفعيل الدوائر الحكومية، وإنشاء مربّع أمني له داخل مدينة الرقة، بالإضافة إلى التباحُث في مجالات الثروات الباطنية والزراعة والكهرباء والتعليم”، وأضاف: “لم تردَّ “قسد” على مطالب النظام وبقيت متمسّكة بشروطها، وعلى رأسها الاعتراف بالإدارة اللامركزية وشرعية وجودها العسكري في المنطقة”.
من جانبها، طلبت روسيا من “قسد” إنشاء حوار كردي مع نظام الأسد، عبر زيارة العاصمة السورية دمشق، بغية إنهاء الخلاف، إلا أن تمسُّك نظام الأسد بشروطه عبر تسليم المطلوبين له في مناطق سيطرة “قسد”، وعدم الاعتراف بقوات سوريا الديمقراطية، ساهمَ في عرقلة عملية الحوار مع النظام، حيث تطالبُ “قسد” ببقاء وجودها وقبولها في الدستور السوري.
ويرى الخلف أن النظام يسعى إلى السيطرة على كامل المحافظة، وحلّ الإدارة الذاتية بالكامل، كون المناطق التي تسيطر عليها تمتازُ بثرواتها الباطنية والزراعية، ولا يريد أي وجود لـ”قسد” سواء كان عسكريًّا أو مدنيًّا، لأن لديها مشروعًا انفصاليًّا.
في هذا الخصوص، قال قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، خلال حديثه لـ”معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى”، الخميس 6 يناير/ كانون الثاني: “إن علاقاتنا مع النظام متواصلة ولم تنقطع، ونحن نريد أن نصل إلى حلٍّ للخلافات بيننا، والذي استنبطناه هو أن نظام الأسد غير جاهز حاليًّا للتوصُّل لحلول، ويتحدث من موقع المنتصر، ومن وجهة نظره يحقّ له فرض قراراته والعودة إلى ما يشبه عام 2011”.
يبدو أن نظام الأسد و”قسد” لن يتوصّلا لاتفاق طالما أن لكُلٍّ منهما شروط تتعلق بمصالح مشروعه في سوريا، ما يعني أن المنطقة مقبلة على تغييرات جديدة تنهي الوضع الحالي في ظلّ استمرار تعنُّت “قسد”، عبر الضغوط الدولية التي ستلعب دورًا رئيسيًّا في هذا المحور.
احتجاجات ومخاوف من عودة النظام
شهدت مدينة الطبقة غربي محافظة الرقة شمالي سوريا، الجمعة 14 يناير/ كانون الثاني، احتجاجات واسعة رفضًا لعمليات التسوية والمصالحة التي يروِّج لها نظام الأسد، حيث طالبَ المحتجّون بإخراج المعتقلين ومنع النظام من دخول محافظة الرقة.
وتابع الخلف: “يتخوّف الأهالي من بسط نظام الأسد سيطرته على كامل المحافظة، لأن بعضهم مطلوبين ويمكن أن تعتقلهم قوات النظام في حال عودته، وانتشار نظام الأسد وارد لكن لن يستطيع سدّ الفراغ لذلك سيعتمد على شيوخ العشائر، من خلال تجنيد أبنائهم للمرحلة القادمة، وهو يسعى إلى سحب البساط من تحت “قسد” من خلال التأييد المحلي، وذلك عبر التسويات وعمليات المصالحة التي يروِّج لها النظام في المحافظة عبر وكلاء محليين، ما أثار هاجسًا جديدًا لدى الأهالي الذين يعيشون في المحافظة”.
ويرى سكان الرقة أن “قسد” غير قادرة على مجابهة التهديدات التركية، ما يعني أنها ستتخلّى عن المنطقة لصالح النظام، مع هروب عدد من قادة “قسد” إلى كردستان العراق، ويعيش الأهالي في مدينة الرقة هاجسًا جديدًا خشية سيطرة نظام الأسد وتوسُّع وجوده في ظلّ استمرار ضبابية موقف “قسد” من وجود النظام، بعدما تحولت محافظة الرقة إلى ملجأ هامّ وآمن للهاربين من مناطق نظام الأسد، حيث تحتوي على آلاف المطلوبين.
ماذا ينتظر الرقة؟
كانت وما زالت محافظة الرقة هدفًا استراتيجيًّا تعملُ روسيا ونظام الأسد على استعادة السيطرة عليه، عبر تعزيز وجود نظام الأسد فضلًا عن الضغوط التركية التي تستغلها لصالحها، لا سيما أن الرقة تعدّ هدفًا للعديد من الأطراف المقاتلة في سوريا.
ولذلك من الصعب تطبيق المصالحات على المدنيين في الرقة، كون النظام السوري لا يشكّل خطرًا مباشرًا على المدنيين في الوقت الحالي، لا سيما بعد خروج تظاهرات رافضة لإجراء التسويات الأمنية مع النظام السوري، ورفع المتظاهرين لافتات طالبت بإسقاط النظام في مناطق مشتركة السيطرة بين “قسد” ونظام الأسد، بحسب ما أوضح الصحفي همام عيسى خلال حديثه لـ”نون بوست”، مضيفًا أن: “الأسعد يسعى إلى السيطرة على محافظة الرقة برعاية روسية، بعيدًا عن التحالف الدولي الذي يدعم “قسد”، حيث تثير التحركات العسكرية والأمنية للنظام في المحافظة الشكوك عن المستقبل القريب الذي ينتظرها”.
ويرى أن استمرار سيطرة “قسد” على محافظة الرقة ذات الغالبية العربية يبدو أمرًا مستحيلًا، في ظلّ الفساد الإداري والتمييز العنصري، وإمكانية سيطرة نظام الأسد وحلفائه عليها أو تسليمها لفصائل عربية عشائرية قد تكون مسألة وقت، لكن لا بدَّ من ترتيب أولويات النظام وحلفائه العسكرية أو صفقة أمريكية روسية تركية تكون “قسد” ضحيتها.
ورغم كل التحركات التي تشهدها المحافظة سواء على الصعيد العسكري أو الأمني، وتعقيدات المشهد، فإن المعطيات تشير إلى تغيُّرات جذرية تشهدها خريطة السيطرة، طالما أن روسيا تسعى خلفها في إطار الوصول إلى حلٍّ ينهي خلاف نظام الأسد و”قسد”، كونهما وجهان لعملة واحدة، لذلك سيقع الاختيار لـ”قسد” بين الارتماء بحضن النظام وروسيا، أو خوض المعركة الخاسرة ضدّ تركيا.