يحب روفين ريفلين الذي نصب مؤخراً رئيساً لإسرائيل أن يتحدث عن عائلته، وبشكل خاص عن والده الراحل البرفسور يوسف يوئيل ريفلين، أستاذ اللغات السامية وأول من ترجم القرآن إلى اللغة العبرية. أثناء حياته في القدس تحت الانتداب البريطاني كان للبرفسور ريفلين العديد من الأصدقاء الفلسطينيين. كان يجلس في أحد أيام عام ١٩٤٢ مع أحدهم في شرفة داخل مدينة بيت لحم يتحدثان سوية حول تقدم القوات النازية في الصحراء المصرية.
قال صديقه الفلسطيني: “قريباً سيكسب الألمان الحرب وسيغادر البريطانيون فلسطين. لكن لا تخش شيئاً، فنحن الفلسطينيين سندافع عن عائلة ريفلين.” يقول روفين ريفلين إن والده رد على صديقه الفلسطيني مباشرة بالقول: “سيكسب البريطانيون الحرب وستقام دولة يهودية. ولكن، بإمكانك الاعتماد علينا، فنحن عائلة ريفلين سندافع عن الفلسطينيين.”
حينما جرى هذا الحوار في صيف عام ١٩٤٢، كان روفين ريفلين في الثالثة من عمره، ومع ذلك تظل تفاصيلها مطبوعة في ذاكرته وكأن هذه القصة ليست مجرد حكاية وإنما إرث تركه له والده، فيما يشبه الوصية. ولذلك حينما قال ريفلين بعد انتخابه إن “اليهود والعرب قدرهم أن يعيشوا معاً” فقد كان يتكلم من أعماق قلبه.
بالنظر إلى التحول الحالي نحو اليمين في إسرائيل وتصاعد النزعات المناهضة للعرب وكذلك التشريعات التي تستهدفهم، وكذلك الفيضان الأخير من التصريحات العنصرية ضد العرب في مواقع التواصل الاجتماعي، فإن من المدهش حقاً أن يتم انتخاب شخص يحمل مثل هذه الرؤية ليصبح رئيساً لإسرائيل. والمحير فعلاً أن ريفلين كان ومايزال عضواً في حزب الليكود وأنه حصل على الأصوات التي بها فاز من الأعضاء اليمينيين في الكنيسيت (حيث أن الكنيسيت هو الذي ينتخب الرئيس).
فيما عدا إرث عائلته، لا يوجد ما يميز السجل السياسي المهني لريفلين. لقد كان واحداً ممن يسمون “أمراء” حزب الليكود، وهو أبناء وبنات المؤسسين لهذا الحزب التعديلي (أو التنقيحي)، المعارض اليميني لأحزاب الحركة الصهيونية ذات النزعات الاشتراكية. تشتمل هذه المجموعة على شخصيات من مثل رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت، ووزيرة العدل الحالية تسيبي ليفني، ووزير الاستخبارات السابق دان ميريدور وإلى درجة ما حتى رئيس الوزراء الحالي بنجامين نتنياهو، وهو المجموعة التي هيمنت على حزب الليكود لسنوات عديدة.
كان “الأب الروحي” للحزب التعديلي هو زئيف(فلاديمير) جابوتينسكي، الكاتب والسياسي اليهودي المولود في روسيا والذي عاش من ١٨٨٠ وحتى عام ١٩٤٠. كان من أهم أعماله على الإطلاق كتاب “الجدار الحديدي”، والذي دعا فيه الصهيانة إلى تشكيل أغلبية يهودية في فلسطين باستخدام القوة، مؤكداً على الحاجة إلى “جدار حديدي” يحيط بالدولة اليهودية القادمة نظراً لأن الفلسطينيين المحليين والعرب بشكل عام لن يقبلوا بتاتاً بالسيادة اليهودية على فلسطين. ورأي جابوتنسكي حينها أن كل الجهود للحصول على موافقتهم، كما حاول التيار الصهيوني الرئيس في ذلك الوقت، قد باءت بالفشل. ولا غرابة إذن أن يظل جابوتنسكي حتى اليوم هو النموذج الذي يحتذي به من قبل الداعين إلى العسكرة الإسرائيلية.
إلا أنه وعلى النقيض من التفكير الحالي السائد في إسرائيل، كان جابوتنسكي ديمقراطياً حتى النخاع. وفي هذا المجال يبين الدكتور ديمتري شومسكي، الخبير في التاريخ اليهودي والأستاذ في الجامعة العبرية في القدس، بأنه وبحسب رؤية جابوتنسكي بعد أن يقر العرب بوجود السيادة اليهودية على فلسطين، فإن الدولة اليهودية القادمة ستتشكل من دولة متعددة القوميات تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية فيها إلى جانب العبرية، وحيث تتمتع كل أقلية عرقية فيها باستقلال ذاتي ويكون لها برلمانها الخاص بها، وجهازها التنفيذي الخاص بها، وتكون لديها الصلاحية لجبي الضرائب. وبذلك، فقد كان جابوتنسكي حسبما يقول شومسكي ليبرالياً أصيلاً.
كان مناحيم بيغن، الذي جاء إلى السلطة عام ١٩٧٧ كأول رئيس وزراء يميني لإسرائيل، هو الوريث الحقيقي لفلسفة جابوتنسكي. فقد كان من جهة مؤيداً قوياً للقومية اليهودية لدرجة الشوفينية، ومن جهة أخرى شديد الحماسة للإجراءات القانونية مغالياً في التمسك بها. ولكن، لم يبق مع مرور الزمن الكثير من إرث جابوتنسكي الديمقراطي والليبرالي، فمن ظلوا على العهد يؤمنون بها أزيحوا جانباً، وهمشوا، أو خرجوا من الليكود. أما ريفلين، الذي لم يشكل يوماً تهديداً لقيادة الليكود، فبقي بشكل أو بآخر داخل الحزب. وإلى مدى ما، بات هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة.
ولكن، بينما كان جابوتنسكي صاحب هوى أوروبي ولم يعبأ كثيراً بالثقافة العربية المحلية، يعتبر ريفلين أكثر “رومانسية” تجاه العلاقات العربية اليهودية، ولعل السبب في ذلك هو تاريخ عائلته. ولذلك فلم ير تناقضاً على الإطلاق بين إيمانه العميق بدولة إسرائيل الكبرى ومعارضته لأي انسحاب إسرائيلي من أي من أراضيها وبين قناعته بأنه يتوجب تمكين المواطنين العرب من التمتع بالحقوق السياسية والثقافية كاملة غير منقوصة. ولعل ريفلين لا يضاهيه أحد من السياسيين الإسرائيليين البارزين في إيمانه العميق بحل الدولة الواحدة شريطة أن تكون هذه الدولة يهودية.
لقد ساعدته معارضته لاتفاقية أوسلو للسلام في الحصول على أصوات اليمين مما مكنه من الفوز بمنصب الرئاسة، إلا أن إيمانه بالحقوق المدنية للفلسطينيين – سواء في إسرائيل أو في الضفة الغربية – عرضه لسلسلة من أقذع الهجمات شنها عليه منتسبو اليمين المتطرف منذ وصوله إلى موقع الرئاسة. ويذكر أنه كان واحداً من القلة القليلة التي نددت بحملات التحريض ضد الفلسطينيين الإسرائيليين أثناء عملية الجرف الواقي، كما كان قد وقف إلى جانب زوجين أحدهما عربي والآخر يهودي كانا قد قررا عقد قرانهما بالرغم مما تعرضا له من حملات عنصرية ضدهما. وفي الأسبوع الماضي أصبح أول رئيس إسرائيلي يشارك في احتفال بالذكرى السنوية لمذبحة كفر قاسم التي قتل فيها ٤٣ قروياً فلسطينياً على أيدي شرطة الحدود الإسرائيلية عام ١٩٥٦.
لم يكن كل العرب في إسرائيل مسرورين بمشاركة ريفلين في الاحتفال حيث أنه لم يعتذر عن المجزرة وإنما اكتفى بوصفها بـ “عمليات القتل الإجرامية”. ومع ذلك فهي بلا شك تمثل تغيراً، الأمر الذي حفز سهيل كرم، مالك إذاعة شمس – أكثر المحطات الإذاعية العربية شعبية، على أن يكتب الأسبوع الماضي في صحيفة هآريتز قائلاً: “من خلال ريفلين أصبح للعرب في إسرائيل أخيراً رئيس.” خلال أقل من تسعين يوماً على تسلمه لموقع الرئاسة تحول ريفلين من يميني توسعي إلى محبوب اليسار.
من الواضح أن المقارنات تجري بين ريفلين وسلفه شمعون بيريز، ولعل في هذه المقارنات ما يضلل، فبيريز كان رجل الدولة المخضرم الأكثر قدماً في إسرائيل، والملتزم تماماً بعملية السلام، والذي كان خلال الأعوام السبعة التي قضاها رئيساً لإسرائيل يقوم من حين لآخر بمهام وزير خارجية الظل. أما ريفلين فلم يكن في يوم من الأيام رجل دولة، ولعله لم تتوفر لديه خطة عملية واضحة لكيفية حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
أكثر ما يهتم به ريفلين هو علاج المجتمع الإسرائيلي وليس التقدم باتفاق سلام، فإذا كان بيريز رئيساً للشؤون الخارجية فإن ريفلين فيما يبدو رئيس للشؤون الداخلية. ولكن في الوقت الذي تصبح فيه المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين شيئاً من الماضي البعيد ويتراجع حل الدولتين – الذي طالما ارتبط بييريز – يوماً بعد يوم، فإن تأكيد ريفلين على الحقوق المدنية يبدو نوعاً من الإصلاح المنعش.
قد لا يكون ريفلين مؤسس دولة ديمقراطية واحدة في أرض إسرائيل / فلسطين، وليس ثمة ما يشير إلى توفر الإرادة لديه أو القدرة على قيادة المجتمع الإسرائيلي في هذا الاتجاه، إلا أنه قد يساعد الإسرائيليين على فهم أن أولى أولوياتهم هي الاعتراف بحق الفلسطينيين بالعيش إلى جوارهم، وبحقهم في المساواة، أي باختصار الاعتراف بحقهم في الحياة. ولعل هذا يكون إنجازاً أعظم بكثير مما تحقق على يدي بيريز.
المصدر: ميدل إيست آي