لا وجود للفراغ لديهم، كلٌ يؤدي المهمة الموكولة إليه، هناك في قرى الأطلس المغربي المعلقة، حيث لجأ الإنسان الأطلسي منذ القدم إلى رؤوس الجبال وقمم التلال كمكان آمن لسكنه رغم الصعاب المترتبة على ذلك.
قرى تحتضن السحاب لوجودها على قمم الجبال، وتعانق أشجار الأرز الخضراء وتتربع على مجاري المياه المتدفقة من الصخور، ترسم لنفسها لوحةً طبيعيةً قل نظيرها، رغم التهميش الذي تمارسه ضدها سلطات المملكة المغربية.
سنحط الرحال هذه المرة، ضمن ملف “قرى معلقة” لنون بوست، في جبال الأطلس المغربي للتعرف معًا على جمال المنطقة وطبيعة أهلها وبعض عاداتهم وتقاليدهم، فضلًا عن المعاناة التي يعيشون على وقعها خاصة في فصل الشتاء.
لوحة طبيعية خلابة
تنتشر في جبال الأطلس العديد من القرى والمدن المعلّقة، مشكلة لوحة فنية خلابة، فما إن تصل هناك حتى تأخذك عينك إلى المنازل التي تنتشر في البناء صاعدة نحو الجبال، تُطَوِّقُها طبيعة روعة فيما يكن الجنة على الأرض، جبال سامقة شامخة ذات ارتفاعات جد شاهقة ومنحدرات وعرة.
في تلك القرى المتناثرة، على غرار “تاحفشانت” و”تادرت” و”تيمحضيت” و”إنمل”، تستهويك المناظر الجبلية الخلابة الفاتنة التي تبهر الناظرين: عيون وأنهار ووديان، شلاّلات تتدفق بقوة نحو الوديان، لك أن تشاهد على ضفافها قوس قزح يعكس امتزاج رذاذ مياهها مع أشعة الشمس، هضاب تلحفت بلون الأشجار الخضراء وتزينت بألوان الزهور الفاقعة، تعلوها طيور تشعّ على المكان جمالًا خاصًا.
تتزين قرى جبال الأطلس أيضًا بغابات الأرز والبلوط الأخضر وأشجار السيكامور والكستناء والزيزفون النادرة، فاتحة ذراعيها تستقبل عشاقها، حيث تطيب لهم الأوقات هناك وترق لهم النسمات العليلة، وتسكن رحابها أنواع من الحيوانات النادرة، منحت القرى هالة من الجمال والشموخ، وزادتها جمالًا على جمالها وروعة قل مثيلها.
يُسمى السجاد الأمازيغي في المغرب باسم “الزربيّة”، ويتميز بألوانه الزاهية وأشكاله الهندسية المتناسقة ورسومه التراثية
مشهد جميل ورهيب في الوقت نفسه، مدن وقرى حباها الله جمالًا وزادها الإنسان روعة، إذ تحتضن بيوتًا طينية تزيدها متعة إلى جانب سحر الطبيعة، في هذه المساكن البسيطة المتلاحمة والمتفرقة تقطن أسر أمازيغية تُعرف بطيب خُلقها وحسن استقبالها للضيف، حتى إنك تشعر بألفة وتصالح مع المكان، وإن لم تكن قد زرته من قبل.
طيلة أشهر الشتاء الباردة، تتزين قرى الأطلس برداء أبيض ناصع تلتحف بيوتها وأشجارها وأرصفتها وطرقها به، أما في فصلي الربيع والصيف فتتزين المنطقة بلون أخضر رائع، فحيثما وليت وجهك ثمة خضرة، على أغصان الأشجار الباسقة وعلى أرض الحدائق وجنبات الأحواض والشلالات المائية، وفي الساحات العامة وفي كل مكان.
إن أردت ممارسة رياضة التزلج عليك بمدن وقرى جبال الأطلسي، فخلال فصل الشتاء، تتحول المنطقة إلى منتجع سياحي، يستهوي محبي التزلج الذين يجدون في مرتفعات الأطلسي متنفسًا ومكانًا لقضاء وقت ممتع في ممارسة رياضة التزلج.
هناك أيضًا، لك أن تمارس رياضة الفروسية وركوب الخيل، وبالتوازي مع ذلك تتمتع بجمال الطبيعة، وتكتشف تراث المنطقة الثقافي ورصيدها المعماري فوق ظهور الخيل، كما أن مناخها الصحي يستهوي الكثيرين من سكان المغرب والسياح الأجانب من أجل الاستجمام والعلاج من العديد من الأمراض البدنية كالربو وغيره.
سجاد الأطلس
لك أن تتعرف في تلك الربوع، كما قلنا على العديد من التقاليد المتوارثة منذ زمن، من بينها حياكة السجاد، فقد استطاعت حياكة السجاد بالطريقة التقليدية بكل ألوانها وتفاصيلها الدقيقة الصمود في وجه كل التطورات الصناعية، حتى أصبحت رمزًا للمنطقة.
يُسمى السجاد الأمازيغي في المغرب باسم الزربيّة، ويتميز بألوانه الزاهية وأشكاله الهندسية المتناسقة ورسومه التراثية، فضلًا عن استعمال النساء للمواد المحلية فقط لصناعته، إذ تحرص النساء القرويات على حياكته باستعمال أدوات تقليدية توارثتها الأجيال.
في البداية يتم جزّ صوف الغنم وغسله وتنظيفه في مياه وديان المنطقة الرائقة، ثم تنشيفه وتمشيطه، ثم تحول نساء قرى الأطلس الصوف يدويًا بواسطة المغزل إلى خيوط، ويضعنه في الآلة الخشبية التي تسمى المنسج، ويعملن عليه لأيام وأسابيع وأحيانًا شهور، ليخرج بعد ذلك السجاد عالي الجودة والمتانة.
يجمع السجاد الأطلسي بين الجودة والقيمة الفنية والتاريخية العريقة، فهو صناعة ضاربة في عمق التاريخ
تسرّ المرأة للنول المعد لحياكة السجاد بكل ما يعتمل في صدرها، راسمة أحلامها ومعبرة بكل حرية عن ذائقتها الفنية الخاصة، فيتحول النول إلى ورقة بيضاء ترسم عليها لوحات فنية ساحرة، وتتحول الخيوط الصوفية في يديها إلى ريشة مطواعة تنقل على المنسج لحظات فرحها وحزنها وأحلامها.
تعتمد القرويات عادة على ثلاثة ألوان رئيسية في نسج الزرابي وهي الأحمر والأصفر والأزرق، لكن ذلك لا يمنع من إضافة ألوان أخرى، وتستعمل نساء المنطقة في تلوين السجاد موادًا طبيعيةً مستخلصةً من الأعشاب المحلية كالحناء وقشور الرمان والفوة وغيرها.
عند انتهاء النساء المبدعات من عملهن، نجد زربية خشنة وسميكة، مزخرفة بأرضية بيضاء ورموز غالبًا ما نجدها موشومة على أيادي وأوجه نساء المنطقة في القديم، وأشكالًا متناسقة تنم عن مهارة خاصة ومعرفة وخبرة لدى هؤلاء النسوة.
يجمع السجاد الأطلسي بين الجودة والقيمة الفنية والتاريخية العريقة، فهو صناعة ضاربة في عمق التاريخ، استغلها المغرب كجواز سفر لثقافته وموروثه الحضاري، فلا يكاد بيت في قرى جبال الأطلس المعلقة يخلو من منسج خاص به.
تحمل الزربية الأمازيغية في ثناياها تاريخًا وإرثًا متجذرًا منذ القدم، فيعتبر هذا النوع من الصناعات التقليدية في جبال الأطلس المغربي لوحات فنية تنسج عليها حكايات وقصص شعبية من تاريخ المملكة الضارب في القدم.
معاناة من الثلوج والتهميش
لكن ما يشد الانتباه أيضًا أن النساء القرويات يستغلن حياكة السجاد لنقل معاناتهن من خلال رسوماته وألوانه، فتنعكس الظروف المعيشية القاسية في جبال الأطلس التي تمتد وسط المغرب، على طبيعة السجاد الذي يميز هذه المنطقة.
برعت النساء القرويات في حياكة السجاد وبرعت أناملهن أيضًا في نقل معاناتهن اليومية الصعبة، إذ يعاني الأهالي هناك من أوضاع مزرية بسبب التهميش منذ عقود، فالدولة المغربية لم تؤد واجباتها تجاه المنطقة وسكانها، واكتفت بالاهتمام ببعض المدن فقط.
نسب الفقر كبيرة ونسب البطالة مرتفعة، ما دفع الرجال إلى مغادرة القرى نحو المدن، بحثًا عن العمل، تاركين خلفهم أبناءهم ونساءهم دون عائل، فمعظم القرى تعيش على الزراعة وتربية الماشية دون أي مشاريع استثمارية تضمن توفير فرص عمل للشباب.
دفعت حاجة البنات إلى توفير النقود لمساعدة العائلة في مجابهة مصاعب الحياة إلى عدم الاهتمام بالدراسة، فالغالبية هناك يدرسن الصفوف الأولى فقط، ثم يجلسن في البيت يتعلمن شؤون تدبيره، فيقتصر دور النساء على العمل في الزراعة أو أعمال المنزل أو حياكة السجاد.
قرى جبلية معلقة تمنح زائريها ودًا وهدوءًا، وتغمرهم بالسعادة والفرح، إلا أنها بالنسبة لسكانها القرويين فهي مصدر تعب ومعاناة وعزلة
تظهر المعاناة في البيوت أيضًا، فهي عبارة عن بيوت طينية متناثرة غالبًا تكون غير مجهزة لا بالماء ولا بالكهرباء، ولا حتى بشبكات الصرف الصحي، ويكون الوصول إليها أمرًا صعبًا لا يتم إلا عبر مسالك جبلية وعرة، وعادة ما يتم استعمال البغال والحمير للتنقل.
حتى الثلوج التي ترسم عند سقوطها في تلك الربوع مشهدًا جميلًا يسرّ قلوب الزائرين، تأتي بالمعاناة لسكان المنطقة، فما إن تبدأ الثلوج في التساقط، حتى تبدأ المعاناة، ذلك أن الزائر الأبيض يشكل طبقةً ثلجيةً على الأرض ارتفاعها يناهز المترين، ما يؤدي إلى غلق الطرق بين المنازل وتلك المؤدية إلى المدارس أو الأسواق، ويضطر الأهالي لشراء المؤنة مبكرًا.
تعزل الثلوج سكان قرى جبال الأطلس فترة طويلة عن العالم الخارجي، خلالها لا يفارقون بيوتهم ويقضون يومهم قرب موقد النار الذي لا ينطفئ طيلة فصل الشتاء ولا يخرجون إلا لإطعام الماشية التي يضطرون لشراء العلف لها طيلة مدة تساقط الثلوج، إذ تبقى في تلك الفترة حبيسة الحظائر.
يبدأ تساقط الثلوج بجبال الأطلس في شهر نوفمبر/تشرين الثاني ويستمر إلى شهر مايو/أيار من السنة الموالية، وفي غياب وسائل التدفئة العصرية، يضطر السكان إلى الاعتماد على خشب أشجار البلوط والأرز ما يهدّد الثروة الغابية في المنطقة.
بعض القرى يحالفها الحظ، لقربها من الغابات وتوافر الأشجار التي يجمعون منها الحطب لمواجهة البرد القارس، لكن هناك قرى أخرى تضطر لشراء حطب التدفئة، وتحتاج الأسرة الواحدة لطنين من الحطب بقيمة ألفي درهم (نحو 112 دولارًا).
قرى جبلية معلقة تمنح زائريها ودًا وهدوءًا، وتغمرهم بالسعادة والفرح، إلا أنها بالنسبة لسكانها القرويين فهي مصدر تعب ومعاناة وعزلة، ما جعلهم يحتجون ويطالبون بنصيبهم من التنمية إلا أن صوتهم لم يصل سلطات المملكة المغربية بعد.