ترجمة وتحرير: نون بوست
من بين النقاشات التي صاحبت إعداد تقرير نادي فالداي بعنوان “فضاء بلا حدود: روسيا وجيرانها”، كان السؤال الأكثر وضوحًا هو ما إذا كان ينبغي على روسيا تجنّب تكرار التجربة التاريخية في العلاقات مع الدول المجاورة لها. وتكمن هذه التجربة عمومًا في تعامل روسيا مع القضايا المتعلقة بجيرانها بعد ضمان مواءمة الوضع على حدودها الغربية مع سياستها الخارجية. هناك احتمال كبير لعودة روسيا إلى طرقها القديمة في حل مشاكلها مع الدول المجاورة، وذلك من خلال التوسع من أجل ضمان الأمن.
إن تخوم روسيا في الوقت الحالي محاطةٌ بمجموعة من الدول المستقلة التي لا تستطيع الحفاظ على أمنها واستقلاليتها بالاعتماد فقط على قواتها الخاصة، ناهيك عن أن استقرارها غير مضمون. من إستونيا غربًا إلى قرغيزستان شرقًا، وجود هذه الدول في بيئة دولية تنافسية يضمنه ارتباطها بإحدى القوى النووية العظمى. ولكن قدرة هذه الدول على أن تكمّل بعضها بعضا صعبةٌ جدًا. وحسب ما تظهره التطورات الأخيرة في كازاخستان، فإن التهديد الوجودي لهذه الدول لا يقتصر على الغزو الخارجي بل يشمل أيضًا إمكانية تدهور الظروف الداخلية.
يعزى تفاقم الأحداث الدراماتيكية في كازاخستان إلى التدخل الخارجي من قبل الجيوستراتيجيين المعارضين لروسيا بالاضافة إلى الإرهابيين الدوليين، ومن غير المنطقي القول إن الأسباب الكامنة وراء هذه الاضطرابات ليست داخلية وأن الأزمة مُفتعلة.
كانت فكرة “نهاية التاريخ” مقنعةً للغاية لدرجة قبولها كعامل هيكلي قوي جدًا يسمح لنا بالتغلب حتى على أكثر الظروف الموضوعية خطورةً.
لا يمكننا ولا ينبغي لنا الحكم على الترتيبات الداخلية للدول المجاورة ما دامنا لا نلمس نتائج إيجابية ونقدم نماذج مثالية في بلدنا. لكن عندما يتعلق الأمر بعواقب الاضطرابات، فإن المخاوف بشأن عدم قدرة هذه الدول على الصمود أو تحول وجودها إلى خطر لا تستطيع روسيا تجاهله، منطقية.
بالعودة إلى التاريخ، تشبه التطورات التي تشهدها العلاقات بين روسيا والغرب حاليًا حرب الشمال العظمى. اندلعت هذه الحرب في بداية القرن الثامن عشر نتيجة استعادة روسيا قدراتها القتالية، وزحف الغرب نحو قلب أراضي الإمبراطورية الروسية. وحسب هذا الإطار المنطقي، فإن الانتصار الحتمي أو حتى التكتيكي من شأنه أن يجبر روسيا على مراقبة حدودها مع الدول الغربية. والسبب وراء إيلاء المزيد من الاهتمام لهذه الحدود واضح، وكل ذلك سيجعل روسيا تمعن النظر بشأن مدى استعدادها للمشاركة في تنمية دول الجوار.
أظهرت التطورات في كازاخستان في بداية كانون الثاني/ يناير 2022 الحدود الموضوعية لإمكانيات بناء دولة ذات سيادة على النمط الأوروبي في سياق جيوسياسي جديد وتاريخي مختلف تمامًا. وجميع الدول المحيطة بروسيا تقريبًا، من بحر البلطيق إلى جبال بامير، تشكلت جراء الظروف الفريدة التي ولدتها نهاية الحرب الباردة. في تلك الحقبة التاريخية، ساد تصوّر عام بأن الهيمنة المطلقة لقوة واحدة مع مجموعة من الحلفاء من شأنها خلق ظروفًا ملائمة لضمان بقاء الدول الصغيرة ومتوسطة الحجم، حتى لو غابت الأسباب الموضوعية لذلك.
روسيا بحاجة إلى الحفاظ على استقلال الدول المحيطة بها وتوجيه كل جهودها لضمان أن تصبح تلك الدول قوى فاعلة قادرة على الصمود
كانت فكرة “نهاية التاريخ” مقنعةً للغاية لدرجة قبولها كعامل هيكلي قوي جدًا يسمح لنا بالتغلب حتى على أكثر الظروف الموضوعية خطورةً.
في أعقاب الحرب الباردة، ظهرت بلدان جديدة كانت حتى وقت قريب مستعمرات أوروبية. ورغم بعض قصص النجاح بين صفوف الدول التي ظهرت بعد سنة 1945، إلا أن القليل منها تمكن من الخروج من طور اللحاق بالركب التنوي. ومنذ 30 عامًا بالضبط، كان الاحتمال المطروح أن يساهم عالم أحادي القطب ومستقر في نجاح هذه التجربة. كانت النتائج المرئية لما يسمى بالدول الجديدة مثاليةً نظريًا، تمامًا مثل انجراف فيكتور فرانكشتاين وراء الرغبة في المثالية.
الفكرة الرئيسية لهذا التقرير هي أن روسيا بحاجة إلى الحفاظ على استقلال الدول المحيطة بها وتوجيه كل جهودها لضمان أن تصبح تلك الدول قوى فاعلة قادرة على الصمود. ويُنظر إلى هذه الرغبة في البقاء على أنها الشرط الرئيسي للسلوك العقلاني، أي صياغة سياسة خارجية تأخذ بعين الاعتبار الظروف الجيوسياسية وتكوين القوة في أوراسيا. بعبارة أخرى، نعتقد أن روسيا مهتمةٌ بالتجربة التي ظهرت في إطار النظام العالمي الليبرالي التي تُخاض في ظل ظروف جديدة، وأهدافها التنموية تملي عليها تجنب تكرار سيناريو السيطرة الكاملة على جيرانها، الذين تشترك معهم في مساحة جيوسياسية واحدة.
أثارت هذه الفكرة انتقادات مقنعةً تمامًا قائمة على القناعة بأن العالم الحديث لا يهيئ الظروف لظهور الدول التي تغيب فيها مثل هذه التجربة بأشكال مقنعة إلى حد ما. بالنسبة لروسيا، يتمثل التحدي في أنه حتى لو كانت قادرة تقنيًا على ضمان الأمن الفوري لأراضيها، فإن انتشار المنطقة الرمادية حول حدودها سيؤدي حتمًا إلى مشاكل لا تستطيع دول الجوار نفسها حلّها.
ستكون الدولة الروسية مجبرةً حتمًا على الاختيار بين الاستعداد لعقود من التفاعل مع “منطقة رمادية” شاسعة على طول حدودها وبذل جهود أكثر نشاطًا لمنع ظهورها
“رواق الجحيم” تشبيه لافت اقترحه أحد الزملاء في حديثه عما ستواجهه روسيا قريبًا على حدودها الجنوبية، وهو ما يحيل إلى أن غياب الحواجز الطبوغرافية داخل هذه الأراضي يجعل روسيا في حاجة إلى إنشاء حدود سياسية أو حتى حضارية مصطنعة توكل مهمة حمايتها إلى القوات الروسية، مهما كانت الظروف.
في كانون الثاني/ يناير، أتيحت لروسيا فرصة اختبار ما يسمى بـ “رواق الجحيم”. من غير الواضح ما إذا كان ممكنا اعتبار الانهيار الفوري لدولة قريبة من روسيا في أحلك فترات تاريخها السياسي فشلًا تنمويًا بدلا من كونه تداعيًا منهجيًا للمسار بأكمله لا مفر منه، لأنها تشكلت في ظل ظروف مختلفة تمامًا.
لا ينبغي لروسيا أن تحاول حاليًا معرفة ما ستبدو عليه استراتيجيتها المستقبلية، لأن سلوك أي دولة محكوم بما تمليه عليها الظروف. ومهمتنا استكشاف الأراضي المحيطة لتحديد متى يجب على روسيا التوقف إذا لم ترغب في اللجوء إلى النموذج القديم. إن التطورات في كازاخستان في شكلها الحديث لا تبعث على التفاؤل أو تخلق فرصةً فيها أمل العودة إلى مسار التنمية. وقد يكون مصير بقية دول الجوار مثل أوكرانيا وكازاخستان، حتى إن بدت واثقة من قدراتها الآن. ولا وجود لأي ضمانات ضد ما سيحدث – وسيكون على روسيا في أفضل الحالات تقبّل مثل هذا المصير.
في المقام الأول، ستكون الدولة الروسية مجبرةً حتمًا على الاختيار بين الاستعداد لعقود من التفاعل مع “منطقة رمادية” شاسعة على طول حدودها وبذل جهود أكثر نشاطًا لمنع ظهورها. ومن غير المحتمل أن تكتفي موسكو بمراقبة ما يجري في محيطها المباشر دون أن تتدخل. هذا ليس غزوًا افتراضيًا لقوة ثالثة ولا يشكل أي تهديد كبير لروسيا. قد يكون التحدي الحقيقي في غضون بضعة عقود أو قبل ذلك، اضطرار موسكو إلى تحمل مسؤولية أكبر وهي نفس المسؤولية التي أزيحت عن كاهلها سنة 1991. حتى الآن، يبدو أن هناك سببًا للاعتقاد بأن ثلاثين عامًا من الاستقلال جعلت بناء دولة قادرة على الصمود والتطور بمساعدة روسيا أمرا ممكنًا.
المصدر: مودرن ديبلوماسي