يواصلُ مجلس محافظة الرقة التابع لنظام الأسد الترويج لعمليات المصالحة والتسوية، التي أطلقتها اللجنة الأمنية والعسكرية بالتعاون مع إدارة المخابرات العامة في المحافظة، انطلاقًا من بلدة السبخة في الريف الجنوبي الشرقي، شمال شرقي سوريا، في 12 يناير/ كانون الثاني الجاري، وذلك بعدما شارفت عمليات المصالحة في ريف محافظة دير الزور على الانتهاء، ووصلت في محطتها الأخيرة إلى بلدة الشميطية في الريف الغربي، ويتحدّث مجلس محافظة دير الزور التابع للنظام عن انضمام أكثر من 26 ألف شخص للعمليات المستمرة منذ شهرين ونصف تقريبًا.
وفي المقابل، يتحدث مجلس محافظة الرقة عن أعداد كبيرة من المقبلين على المصالحة التي انطلقت قبل أسبوع، وبالأخصّ الرقاويين من أبناء العشائر القادمين من مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، في مركز مدينة الرقة وريفها الشمالي وباقي ريف المحافظة الواقع في الضفة اليسرى لنهر الفرات، في حين يكذّب نشطاء محليون ووجهاء عشائريون مزاعم النظام، ويواصل الرافضون للمصالحة حراكهم المناهض حيث دعوا لمظاهرات جديدة يوم 19 يناير/ كانون الثاني في مدينتَي الرقة والطبقة.
إطلاق العملية
سبقَ إعلانَ النظام إطلاق عمليات التسوية في مناطق سيطرته بريف الرقة، وصولُ وزيرَين من حكومة النظام إلى المنطقة في 9 يناير/ كانون الثاني، هما وزير التربية دارم الطباع، ووزير الزراعة محمد حسان قطنا، ورافقهما في الزيارة محافظ حلب حسين دياب وعدد من قادة الفروع الأمنية بحلب وقادة من الميليشيات الإيرانية، وكان في استقبالهم في بلدة السبخة في الريف الجنوبي محافظ الرقة عبد الرزاق خليفة وأمين فرع الرقة لحزب البعث عبد العزيز العيسى، وزار الوفد أيضًا بلدة دبسي عفنان.
واجتمع الوفد الوزاري ووفد محافظة حلب والميليشيات في دبسي عفنان والسبخة بعدد من شيوخ العشائر في المنطقة، بهدف التنسيق لعمليات المصالحة وتكثيف الجهود في إطار التواصل مع المكونات العشائرية المتواجدة في مناطق سيطرة “قسد”، والتعهُّد بتقديم مجموعة من الضمانات الأمنية التي من المفترض أن تسهّلَ تدفقًا أكبر للراغبين بالمصالحة.
في 12 يناير/ كانون الثاني وصلَ مدير المخابرات العامة حسام لوقا إلى بلدة السبخة، التي تحتضن المركز الرئيسي لعمليات المصالحة في محافظة الرقة، واتخذت المخابرات العامة من مجلس المحافظة، الذي هو عبارة عن مدرسة ثانوية أُعيد ترميمها في الفترة ما بعد عام 2017، أي بعد استعادة النظام السيطرة على المنطقة وانسحاب تنظيم “داعش” منها، مقرًّا لعمليات المصالحة، ووعد لوقا شيوخ العشائر الذين حضروا احتفالية إطلاق العملية بدعم قطاعات الري والزراعة وإنعاش المنطقة، في حال نجحت عمليات المصالحة واستقطبت أعدادًا كبيرة من المطلوبين والفارّين من الخدمة الإلزامية.
وفي نفس اليوم، قال مجلس محافظة الرقة على صفحته الرسمية في فيسبوك: “انطلاق عملية التسوية الشاملة لأبناء محافظة الرقة ممّن لم تتلطخ أيديهم بدماء الأبرياء في مدينة السبخة بريف الرقة الشرقي المحرر بإقبال كبير”، وفي اليوم الثاني قال محافظ الرقة عبد الرزاق خليفة لـ”شام إف إم” التابعة للنظام: “تمّت تسوية أوضاع 300 شخص في اليوم الثاني لعمل مركز السبخة، ليرتفع بذلك عدد من قاموا بتسوية أوضاعهم إلى 700 شخص خلال يومين”.
هل تدعم “قسد” العملية؟
لا تبدو “قسد” رافضة لتمدُّد عمليات المصالحة نحو مناطق سيطرتها، وهي عمليًّا تسهِّل مرور الراغبين بالانضمام للمصالحة عبر معبر الطبقة، ذهابًا وإيابًا، وسياستها على أرض الواقع تختلفُ عن موقفها المُعلن الذي جاء على لسان الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي في الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا، عبد حامد المهباش، الذي قال إن “التسويات والمصالحات التي تجريها حكومة النظام شمال شرقي سوريا لا تُفيد في حل الأزمة السورية، ولا تتناسب مع حجمها”.
وأضاف المهباش في تصريحات نقلتها صفحة الإدارة في موقع فيسبوك في 16 يناير/ كانون الثاني، أن “سلطة دمشق يجب ألا تتجاهل حقيقة الأزمة السورية وتضعها في نصابها الحقيقي، فهذه التسويات والمصالحات لا تعدو كونها تصويرًا خاطئًا للأزمة السورية، وهي عبارة عن مسكّنات ومهدّئات، ولا تعالج الأزمة”.
ورغم تعاون “قسد” غير المباشر مع النظام في عمليات المصالحة في الرقة وقبلها في دير الزور، إلا أن تصريحات مسؤولين في النظام تؤكّد دائمًا على أن “قسد” تضع العراقيل وتمنع التدفق السلس للراغبين بالتسوية من مناطق سيطرتها.
وقد قال محافظ الرقة عبد الرزاق خليفة في تصريحات لصحيفة “الوطن” المقرَّبة من النظام، في 17 يناير/ كانون الثاني، إن المعوقات التي تضعها ميليشيات “قسد” لمنع الناس من الوصول إلى مركز التسوية ما زالت قائمة ولم تخِفَّ، وأكّد أن التسوية في مركز مدينة السبخة ستبقى مفتوحة ما دام هناك توافد جماهيري من أجل الانضمام إليها.
قال الناشط السياسي عبد اللطيف محمد من الرقة لـ”نون بوست”، إن “موقف “قسد” من عملية المصالحة هو موقف الداعم من خلال تسهيل الحركة بالمعابر لمن يريد الذهاب إلى مناطق النظام، وهي بحالة توافق مع نظام الأسد، وهذا عكس ما تروِّج له في بياناتها ومواقفها المعلنة”.
أضاف محمد: “موقف “قسد” الداعم للمصالحة وتحركات النظام على تخوم مناطق شمالي الفرات أثارا الخوف في نفوس أعداد كبيرة من الرقاويين النازحين من مناطق سيطرة النظام في الريف الجنوبي، جنوبي الفرات، وهو ما دفع عددًا كبيرًا منهم للتوجُّه نحو السبخة وإجراء عملية مصالحة”.
يكمل محمد: “النظام يهدِّد بشكل مباشر من لا يأتي للمصالحة، ومن يتخلّف يتمُّ سلب ما بقيَ من أملاكه، من بيت أو أرض، ويضع النظام يده عليها، فأهالي المنطقة النازحين ويقيمون تحت سلطة “قسد” لديهم تخوّف من أن “قسد” بأي لحظة ستقوم بتسليم المنطقة للنظام، خصوصًا إذا شعرت بتهديد من طرف تركيا والجيش الوطني، ويمكن القول إن عملية المصالحة تتمّ شكليًّا ولم يبقَ أحد من المصالحين في مناطق النظام جنوب الرقة، حيث يعود الغالبية لعدم ثقتهم بتعهُّدات النظام لهم بعدم الملاحقة والسجن”.
رفض عشائري
مع انطلاق عمليات المصالحة أعلنَت بعض العشائر في مدينة الرقة عن رفض المصالحة، وقالت في بيان أُعلن عنه في مضافة شيخ عشيرة العفادلة، هويدي شلاش المجحم، في حي المشلب في القسم الشرقي من المدينة، إن المصالحة تهديد مباشر للاستقرار الذي تعيشه المدينة وريفها، وتبرَّأَ بيان العشائر من أي شخص تسوِّل له نفسه التوجه نحو مناطق سيطرة النظام لإجراء المصالحة؛ وتبع بيان العشائر خروج تظاهرات ونظّمَ نشطاء وقفات احتجاجية في مركز مدينة الرقة وريفها تطالب برحيل النظام وترفض التسويات معه.
أثّر بيان العشائر في الرقة فعليًّا على دعاية النظام وترويجه للمصالحة، وهو ما دفع المحافظ مرة أخرى للخروج بتصريح جديد يردُّ من خلاله على بيان العشائر، نقلته صحيفة “الوطن” في 15 يناير/ كانون الثاني: “هذه البيانات غير مغطاة من شيوخ العشائر وشيوخ العشائر موقفهم معاكس لما ورد فيها، والأمر الطبيعي أنه يتواجد بعض الناس ممن تلطّخت أيديهم بالدماء يكونون مثبطين لعزائم كامل فعاليات المجتمع التي تريد التسوية واستثمار هذه المكرمة بالشكل الصحيح”.
أضاف خليفة: “المدعو محمد الجاسم الذي يدّعي أنه شيخ قبيلة البو مانع العربية، وتحدّث باسم العشائر، هارب من المناطق المحرَّرة، وهو ممّن يحملون السلاح ويقاتلون مع تنظيم “داعش” الإرهابي ضد الجيش العربي السوري، والأمر الطبيعي أن يكون رافضًا للتسوية”.
قال الباحث في الشأن السوري محمد السكري لـ”نون بوست”: “لا أعتقد أن الرفض العشائري والمظاهرات في الرقة مدفوعان من الإدارة الذاتية، ولكن على الأقل يمكن القول لا يوجد فيتو من قبل الذاتية حولها، وبالفعل حاولَ المتظاهرون أن يرفعوا أعلام “قسد” بجانب أعلام الثورة تجنُّبًا لأي أحداث عنف قد تحدث، وللتركيز على النظام وإيران بوصفهما العدو الأول لهم”.
أضاف السكري: “هذه المظاهرات أتت في وقت أعلنت به الإدارة الذاتية فشل مسار المفاوضات مع النظام، ورفضها للمصالحات التي هي مجرد دعاية لا صحة لها، لذلك خروجها يصبُّ في صالحها مع استمرار ترويج النظام للمصالحات، وفي حال نجاح نموذج المصالحات يكون النظام شكّل ضغطًا على حاضنة “قسد””.
ويكمل السكري: “بالتالي مظاهرات اليوم رغم أنّها تحمل عدة رسائل سياسية من قبل الإدارة الذاتية، إلا أنها تعكس في التوقيت ذاته موقف الأهالي من النظام السوري وإيران، بالتالي أي تقارُب مع النظام السوري سيعرّض الإدارة الذاتية لضغط شعبي قد يتطور ويشمل اضطرابًا في مناطقها”.
يتبع النظام في عمليات المصالحة في الرقة سياسة العصا والجزرة، فهو يغري أبناء العشائر بدعم القطاعات الإنتاجية وبالأخصّ القطاع الزراعي، ويعدهم بتوظيف أبنائهم إذا هم صالحوا وعادوا من مناطق سيطرة “قسد” إلى مناطقهم في ريف دبسي عفنان والسبخة وريف الطبقة الجنوبي، وفي الوقت ذاته يهدِّد عبر شيوخ عشائر موالين المكوّنات العشائرية المتواجدة في مناطق “قسد”، بأنه قادم قريبًا إلى المنطقة وسيكون الحساب عسيرًا لمن رفض وعارض المصالحة.