رغم خسارته جميع الانتخابات التي خاضها أمام أردوغان منذ قدومه عام 2010 إلى رأس حزب الشعب الجمهوري (CHP)، أكبر أحزاب المعارضة التركية، إلا أن كمال كليتشدار أوغلو نجحَ في تغيير استراتيجيته ابتداءً من عام 2018، وذلك بعد أن قامَ بخطوة استراتيجية تمكّن خلالها من إدخال حزب الجيد (İYİ Parti) القومي المعارض، الذي تتزعّمه ميرال أكشينار، الانتخابات العامة عام 2018.
تمَّ ذلك بعدما أمرَ نوّابًا من حزبه بالانضمام إلى الحزب وتشكيل مجموعة داخل البرلمان تخوّل الحزب دخول الانتخابات البرلمانية والرئاسية المبكرة، دون الحاجة إلى الانتظار من أجل اكتمال الشروط التي تتيح للأحزاب الجديدة دخول الانتخابات، كما كان يخطط أردوغان ودولت بهتشلي.
وبهذه الخطوة لم يقسم كليتشدار أوغلو حزب الحركة القومية (MHP)، حليف أردوغان داخل تحالف الجمهور (Cumhur Ittifaki)، ويخسره نصف أصواته وحسب، بل أسّسَ لتحالف الأمة (Millet İttifakı) الذي تمكّن من انتزاع المدن الكبرى، وعلى رأسها إسطنبول وأنقرة، في الانتخابات المحلية التي أُجريت عام 2019، وذلك بعد أن بقيت أكثر من ربع قرن تحت رئاسة حزب العدالة والتنمية، ليُلحق بذلك أولى الهزائم بأردوغان وحزبه، ويصبح عقبة ومصدر قلق حقيقي يهدِّد بنزع الحكم من أردوغان وحزب العدالة والتنمية، بعد مضيّ قرابة العقدين على بقائهما على رأس السلطة بتركيا. فهل ينجح كليتشدار أوغلو في حسم الانتخابات المقبلة التي قد تجري قبل موعدها لصالح المعارضة؟ وهل تسمح له شعبيته في أن يكون مرشَّح حزبه أو المعارضة مجتمعة لمنافسة أردوغان؟ وإذا حدث وترشح، فهل يكون لقمة سائغة أمام حزب العدالة والتنمية؟.
شعبية كليتشدار أوغلو
رغم خوض كليتشدار أوغلو جولتَين انتخابيتَين رئاسيتَين متتاليتَين في عامَي 2014 و2018 منذ ترؤّسه حزب الشعب الجمهوري عام 2010، إلا أن كليتشدار أوغلو لم يقدِّم نفسه كمنافس رئيسي لأردوغان في الانتخابات الرئاسية، واكتفى بالبحث عن منافسين يحظون بأصوات اليساريين والمحافظين على حد سواء، وذلك رغم الانتقادات الحادّة التي تعرّضَ لها من داخل حزبه وخارجه، ووصفه بأنه لا يصلح لأن يكون على رأس الحزب الذي أسّسه أتاتورك، كونه يخاف المواجهة وخسارة الانتخابات.
والحقيقة أن كليتشدار أوغلو قارئ جيّد لخريطة المجتمع التركي، المليئة بالكثير من التفاصيل العرقية والإثنية والمثخنة بالاحتقانات والتجاذبات السياسية بين أحزاب اليمين والوسط واليسار، ويدركُ أيضًا أن المجتمع السنّي وبالأخص المحافظ لم يصل بعد لمرحلة تخوّله لانتخاب شخص من أصول علوية لشغل منصب رئاسة الجمهورية.
ولهذا نجدُ أردوغان يطالب كليتشدار أوغلو على الدوام بالتحلّي بالشجاعة والترشح مقابله في الانتخابات، وذلك إيقانًا منه أنه قادر على هزيمته إذا ما لعبَ على وتر المذهبية، فيما يكتفي كليتشدار أوغلو في إيهام الجميع بأنه سيكون مرشّحًا للرئاسة، وذلك لشغل ماكينة أردوغان الإعلامية وصرفها عن مهاجمة مرشح الرئاسة الحقيقي واستنزافه قبل حلول موعد الانتخابات، وفقًا للصحفي المعارض جان اتاكلي.
لكن الأيام المقبلة قد تجلبُ الكثير من المفاجآت، خصوصًا أن خطابات كليتشدار أوغلو باتت تتحلّى بالشجاعة والتحدي لأردوغان مع دخول البلاد في أزمات اقتصادية وسياسية حادة، كلّفت أردوغان وحزبه خسارة كبرى البلديات لصالح تحالف المعارضة الذي يزداد قوة يومًا بعد يوم، تزامنًا مع اشتداد حدة الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد وترفع معدلات التضخُّم لمستويات قياسية، مهيِّئة للظروف نفسها التي جلبت حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم قبل عقدَين من الزمن.
معارض لا يملك خطة بديلة
لطالما اتّهمَ أعضاء حزب العدالة والتنمية، وعلى رأسهم الرئيس أردوغان، كليتشدار أوغلو بأنه لا يملكُ خطة أو أيّ برنامج عمل بديل أفضل من ذلك الذي يطبّقه الحزب الحاكم، ودائمًا يؤكّد أردوغان وحتى الصحفيين المقرّبين من المعارضة أن كليتشدار أوغلو وبقية زعماء المعارضة يكتفون بكيل الاتهامات ولوم الحكومة على أخطائها، دون تقديم أي بديل حقيقي قابل للتطبيق على أرض الواقع.
وهو الأمر الذي يحاول كليتشدار أوغلو كسره منذ الانتخابات المحلية التي عقدت عام 2019، والتي كانت شاهدة على أولى انتصارات المعارضة، وذلك من خلال الفيديوهات التي يصوِّرها من داخل مطبخ بيته المتواضع ويقوم بنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي ليلًا، والتي يقدِّم من خلالها حلولًا لبعض المشاكل التي تعاني منها البلاد، فضلًا عن استعراض برامج العمل التي سيتبعها وحزبه عند قدومهما للسلطة، وهي التي تلقى رواجًا كبيرًا بين فئة الشباب تحديدًا.
ويراهن كليتشدار أوغلو على أن التغيير القادم سيكون بأصوات الناخبين الشباب الذين سيصوِّتون لأول مرة في الانتخابات المقبلة، والتي تقدَّر أعدادهم بنحو 6.5 ملايين ناخب شاب، ولهذا السبب يصرُّ كليتشدار أوغلو على تقديم نفسه لهم بأنه “عمهم الديمقراطي” (Demokrat Amcası)، وهو ما لاقى استحسانًا كبيرًا من طرفهم، إذ تشير الإحصاءات الأخيرة أن نحو 75% من الناخبين الشباب لن يصوِّتوا لتحالف الشعب الذي يقوده أردوغان.
يُذكر أن أردوغان يحاول دومًا تصدير صورة سلبية عن كليتشدار أوغلو، واتّهامه بأنه تسبّب في إفلاس مؤسسة التأمين الاجتماعي (SSK) التي تولّى إدارتها 7 سنوات بين عامَي 1992-1996 وعامَي 1997-1999، إلا أن حزب الشعب الجمهوري يصفُ أردوغان بأنه هو من يقف وراء إفلاس المؤسسة.
فبينما كان العجز قرابة 4.6 مليارات ليرة خلال فترة كليتشدار أوغلو، وصل العجز في السنوات الـ 19 التي تولّى فيها أردوغان قيادة الدولة أكثر من 449 مليار ليرة، أي 94 ضعف ما كان عليه العجز خلال فترة كليتشدار أوغلو.
جهود متواصلة لرفع حصة حزبه
عقب استقالة دنيز بايكال من منصبه كرئيس للحزب، بعد فضيحة الفيديو الشهيرة في عام 2010، تمَّ انتخاب كليتشدار أوغلو رئيسًا للحزب عقب حصوله على 1189 صوتًا في المؤتمر الـ 33 لحزب الشعب الجمهوري، وفي الانتخابات العامة التركية 2011 نجح في رفع أصوات حزبه بنسبة 5.11%.
لكن خسارة مرشح المعارضة الذي كان مدعومًا من حزب الحركة القومية (حليف أردوغان حاليًّا)، أكمل الدين إحسان أوغلو، في الانتخابات الرئاسية لعام 2014، زادت من حدة الأصوات المطالبة برحيله داخل الحزب، إلا أنه رجع وفاز في الانتخابات الداخلية وحافظ على مقعد الرئاسة في المؤتمر الـ 34 لحزب الشعب الجمهوري الذي عُقد في العام نفسه.
وفي منتصف عام 2017 سارَ كليتشدار أوغلو من العاصمة أنقرة إلى مدينة إسطنبول مطالبًا بالعدالة لنائبه أنيس بربير أوغلو الذي كان يواجه عقوبة السجن لمدة 25 عامًا، وامتدّت مسيرته 25 يومًا قطع خلالها 420 كيلومترًا سيرًا على الأقدام، شارك خلالها الكثير من السياسيين والنشطاء الحقوقيين وأفراد من جميع أطياف الشعب.
وتجدر الإشارة إلى أنه خلال مسيرته السياسية تعرّض كليتشدار أوغلو لـ 3 محاولات اغتيال بائت جميعها بالفشل، الأولى عام 2016 عندما أطلقَ عليه أحد الأشخاص رصاصة خلال حضوره لجنازة بجامع الفاتح بإسطنبول، والثانية في أغسطس/ آب 2016 عندما تعرّض موكبه لهجوم من قبل تنظيم PKK الإرهابي في منطقة أرتفين وتوفي أحد حرّاسه.
أما المحاولة الأخيرة كانت عام 2017 أثناء مسيرة العدالة، عندما حاول تنظيم “داعش” اغتياله بأمر من أبو بكر البغدادي، إلى جانب الكثير من الاعتداءات التي كان آخرها عام 2019، والتي وقعت أحداثها في قرية جوبوك بالقرب من أنقرة، عندما تعرّض كليتشدار أوغلو للضرب وحوصر في بيت كان الناس يحاولون إحراقه لولا إنقاذه في الدقائق الأخيرة.
حظوظ كليتشدار أوغلو إذا ما ترشّح
رغم أن استطلاع الرأي الأخير الذي قامت به شركة “أفرو آسيا” (Avrasya) المقرَّبة من المعارضة، نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أشار إلى أن حظوظ كل من أكرم أمام أوغلو ومنصور يفاش أكبر من حظوظ كليتشدار أوغلو في هزيمة أردوغان في الانتخابات المقبلة، إلا أن أكثر من صحفي ومسؤول داخل حزب الشعب الجمهوري أكّدوا أن مرشح الحزب في الانتخابات المقبلة هو كمال كليتشدار أوغلو، وكان آخرهم النائب البرلماني عن حزب الشعب الجمهوري إيرين إيردام. لكن كليتشدار أوغلو نفسه لم يؤكد ولم ينفِ نيته للترشُّح، وما زال يكتفي بالإجابة التالية: “إذا ما قرر تحالف المعارضة ترشُّحي في الانتخابات المقبلة، فإن هذا الشيء سيشعرني بالفخر”.
فيما أشار الصحفي المقرَّب من الحزب الحاكم، عبد القادر سيلفي، إلى استطلاع الرأي الذي قامت به شركة “أوبتيمار” (Optimar) المقرَّبة من العدالة والتنمية، والتي أشارت بدورها إلى أن الرياح عادت لتهبَّ مجددًا في مصلحة حزب العدالة والتنمية، وذلك بعد أن كشفت أن نسبة أصوات الحزب قد رجعت لترتفع إلى نسبة 39.1% بعد هبوطها في وقت سابق، في حين أن نسبة أصوات حزب الشعب الجمهوري بلغت 24% فقط.
وبينما يرى الدكتور إيرول مترجملار أن على حزب الشعب الجمهوري ترشيح رئيس بلدية أنقرة، منصور يفاش، الذي يحظى بنسبة التصويت الأعلى أمام أردوغان، وألّا يخطئ بترشيح كليتشدار أوغلو الذي سيكسبه أردوغان بسهولة بنسبة تصلُ لأكثر من 55%، كشفَ الصحفي في جريدة “سوزجو”، دنيز زيريك، عام 2020 أن خطة كليتشدار أوغلو تهدف لفوز المعارضة بعدد كافٍ من مقاعد البرلمان تتيح لهم تغيير الدستور وتحويل النظام إلى برلماني مجددًا، ومن ثم تشكيل حكومة ائتلافية يرأسها كليتشدار أوغلو.
في النهاية، حسم ما إذا كان سيفوز مرشح المعارضة سواء كان كليتشدار أوغلو أو غيره في الانتخابات المقبلة أمر يصعب التنبؤ به، خصوصًا أن هناك الكثيرين ممن يشكّكون بصحّة استطلاعات الرأي، ومنهم رئيس حزب الديمقراطية والتقدم المعارض، علي باباجان، الذي تحدث إلى الصحفي جونيد أوزدمير عن أن السبب في تدنّي النسبة التي يحصل عليها حزبه في استطلاعات الرأي يرجع إلى خوف الناس من الإفصاح عن آرائهم الحقيقية، خوفًا من خسارة وظائفهم ومصالحهم اعتقادًا منهم بأنهم مراقبون.