وجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حكومته برفع الحد الأدنى للأجور إلى 2700 جنيه (173 دولارًا) وإقرار علاوتين لموظفي القطاع العام، وزيادة الحافز الإضافي لكل من المخاطبين وغير المخاطبين بقانون الخدمة المدنية، مع البدء في إجراءات تعيين 30 ألف مدرس سنويًا لمدة 5 سنوات، تلبيةً لاحتياجات تطوير قطاع التعليم.
القرارات وفق بيان للمتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية بسام راضي، شملت تخصيص مبلغ 1.5 مليار جنيه لتمويل حافز الجودة الإضافي لأعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم بالجامعات والمراكز والمعاهد والهيئات البحثية، إضافة إلى تمويل تنفيذ القانون الجديد الخاص بمرتبات الأساتذة المتفرغين، مع ضم تخصصات طب الأسنان والعلاج الطبيعي والتمريض إلى القرار السابق برفع مكافأة أطباء الامتياز، التي تصرف لهم خلال فترة التدريب في سنة الامتياز.
جاء ذلك في أعقاب الاجتماع الذي عقده السيسي ورئيس الوزراء مصطفى مدبولي بحضور وزير المالية محمد معيط، لمناقشة مشروع موازنة العام المالي القادم 2022/2023، ومن المفترض تطبيق تلك القرارات مع بداية السنة المالية الجديدة في يوليو/تموز القادم.
القرارات رغم أنها خطوة جيدة – وإن جاءت متأخرة – في مسار تحسين أوضاع المهمشين في البلد، فإنها أثارت جدلًا داخل الشارع المصري وعلى منصات التواصل الاجتماعي، كونها تأتي قبل أقل من 6 أيام على الذكرى الـ11 لثورة يناير الخالدة، وتتزامن مع موجات الغلاء ورفع الدعم التي أثقلت كاهل متوسطي ومحدودي الدخل، ما تسبب في زيادة نسب الفقر والبطالة وتراجع مدخرات المصريين بصورة غير مسبوقة، ما زاد من حدة الاحتقان الشعبي إزاء السلطات الحاكمة التي لم تجد إلا جيوب الفقراء لدفع فاتورة الاستدانة الباهظة.
ما علاقة ذكرى يناير؟
توقيت الإعلان عن تلك القرارات رغم أن تطبيقها سيكون بعد 6 أشهر دفع البعض للربط بينها وبين ذكرى الثورة، خاصة أنها تأتي بعد أيام قليلة من تصريحات الرئيس المصري خلال منتدى الشباب العالمي الذي عقد بمدينة شرم الشيخ على ساحل البحر الأحمر، خلال الفترة من 10 إلى 13 يناير/كانون الثاني الحاليّ، بأنه مستعد لترك منصبه إذا قرر المصريون ذلك.
وبعد ساعات قليلة من تلك التصريحات تصدر وسم #ارحل_يا_سيسي مواقع التواصل الاجتماعي، إذ عبر المئات من المغردين عن رغبتهم في إزاحة الرئيس عن رأس السلطة بعدما فشل في تحقيق الوعود التي قطعها على نفسه بتحسين الأحوال المعيشية للمواطنين، ليزيد الوضع سوءًا ويلقي بالملايين من الشعب في أتون الفقر.
وجاءت معظم التغريدات في مضمونها تعليقًا على تلك القرارات بأنها مجرد “مسكنات” ومحاولة لتهدئة الشارع الغاضب، من أجل منحه بصيصًا من الأمل، وتخديرهم عن واقعهم المؤلم، وهي السياسة التي يلجأ إليها النظام كلما اشتد الخناق على الشعب جراء برنامج الإصلاح الاقتصادي الصعب الذي يطبقه السيسي منذ 2016 وحتى اليوم.
وتشهد مواقع السوشيال ميديا تفاعلًا كبيرًا مع الذكرى الـ11 للثورة التي رغم محاولات وأدها وإجهاضها وتشويه صورتها من الرئيس ونظامه، بجانب إعلامه ولجانه الإلكترونية دائمة العزف على وتر تحميل الثورة مسؤولية ما وصلت إليه البلاد، فإنها لا تزال حاضرة بقوة في نفوس الشباب المؤمن بها، وهو ما تترجمه مسارات التفاعل وردود الفعل مع تصريحات السيسي بين الحين والآخر بشأن الثورة.
السيسي ….رفع الحد الادنى للاجور حوافز وعلاوات للموظفين تعيين ٣٠ الف بوظايف حكومية ..
ويخلص يناير وباقي السنة مؤتمرات احنا فقرا اوي واجيب منين ولو معايا هديك وابيع نفسي وهتاكلوا مصر ولا ايه ويشخط فينا ويسرق اراضينا ويهد بيوتنا ويرفع الدعم ويزود ضرايب #ارحل_ياسيسي شبعنا كذب.
— ابن الاسلام.. (@Qis0_) January 18, 2022
عكس عقارب الساعة
مما عزز الشكوك بشأن تلك القرارات أنها تأتي عكس عقارب الساعة السيساوية، التي كانت تسير عقاربها طيلة الـ24 ساعة يوميًا في مسارات التقشف وتقليص الدعم حتى تصفيره في بعض المجالات، والحديث عن أن مصر “دولة فقيرة” ولا تملك ما تلبي به طموحات شعبها، وهو ما دفعها للاستدانة حتى وصلت إلى أرقام فلكية تضع حاضر ومستقبل الشعب المصري برمته في مأزق.
فقبل أيام تحدث الرئيس عن إزاحة الملايين من منظومة الدعم التمويني بحجة عدم وجود السيولة الكافية للوفاء بهذا الالتزام الذي لم يجرؤ نظام سابق على المساس به، هذا في الوقت الذي أكد فيه وزير المالية أن النصيب الأكبر من موازنة الدولة مخصص لسداد العجز وفوائد وأقساط الدين العام.
وزير التعليم نفسه، في 28 ديسمبر/كانون الأول 2021 خلال حضوره جلسة مجلس النواب (البرلمان) للرد على العجز في المعلمين الذي تعاني منه الوزارة، قال صراحة: “لا معانا فلوس ولا فيه تثبيت في التربية والتعليم ولا في أي مكان.. هذا قانون والجهاز الإداري للدولة يلتزم به”.
وكانت الأعوام السبع الماضية قد شهدت عشرات الوعود المقدمة من السيسي بتحسُّن الوضع الاقتصادي للبلاد، البداية بـ”عام الرخاء” في 2015 لكن لم يتحقق ما تعهد به، فانهالت المناشدات بالصبر، المرة الأولى كانت لمدة عامَين في عام 2016، تأجل هذا الوعد إلى عام 2017 والمطالبة بـ6 أشهر إضافية، وهكذا في عامَي 2018 و2019، حتى وصل إلى عام 2020 حين قال إن مصر ستصبح بنهاية يونيو/حزيران من هذا العام “حاجة تانية خالص”.
ونتيجة لتلك الوضعية الحرجة لم يجد النظام إلا جيوب المواطنين لسداد هذا العجز، وعليه ارتفعت حصيلة الضرائب من 305.9 مليار جنيه عام 2015 إلى 983 مليار جنيه في موازنة 2021-2022، وهو ما يعني زيادة في الإيرادات بنحو 678 مليار جنيه، تشكّل أكثر من 90% من موارد الدخل القومي للبلاد، هذا في الوقت الذي أظهرت فيه بيانات وزارة المالية أن فوائد الديون والأقساط المستحقة تلتهم أكثر من 80% من الإيرادات العامة للدولة خلال العام المالي الماضي.
تصاعد الاحتقان
البرنامج الإصلاحي الذي اعتمده السيسي قبل ست سنوات للتودد إلى المؤسسات الاقتصادية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي كان له الكثير من الضحايا، لا سيما من محدودي الدخل، فبلغ معدل الفقر في مصر 29.7% في السنة المالية 2019-2020، ورغم تراجُعه عن معدل السنة المالية 2018-2019 حين كان 32.5%، فإن هذا التحسُّن المزعوم لم يظهر بأي صورة من الصور على المستوى المعيشي، علمًا بأن تلك المعدلات حين تولّى السيسي الحكم عام 2014 لم تتجاوز 25%، مقارنة بما كانت عليه خلال عام 2000 حين لم تتجاوز 16.7%.
وعلى مستوى متوسطي الدخل، أصحاب الادخارات، فتشير التقديرات إلى وصول معدلات الادخار إلى 10% من إجمالي الناتج المحلي خلال ولايتي السيسي، مقارنة بما كانت عليه قبل الثورة، إذ لم تقل في عهد مبارك عن 12.6%، بل وصلت في بعض الأحيان إلى أكثر من 17%.
وبعيدًا عن لغة الأرقام المسيسية التي يلجأ إليها النظام المصري لتبييض صورته داخليًا وخارجيًا من خلال الإيهام بتزايد معدلات النمو، إذ حلَّت مصر في المركز الثالث في قائمة أكبر الاقتصادات العربية خلال عام 2021، بعد السعودية والإمارات، وفق تقديرات مجلة “فوربس الشرق الأوسط”، يبقى الواقع الشاهد الأكثر صدقًا وتعبيرًا عن الحقيقة المدفونة خلف المؤشرات الوردية البراقة لغسل السمعة.
ورغم حالة الاحتفاء المصاحبة لقرارات الرئيس التي وصفها البعض بـ”التاريخية” والمتوقع أن تكون حديث الإعلام والشارع حتى تطبيقها في يوليو/تموز المقبل، فإن الشكوك المثارة بشأنها والربط بينها وبين الثورة وتصاعد حالة الاحتقان الشعبي دفع بالشارع إلى التعاطي معها عبر مسارات أخرى، وسط إصرار على عدم السقوط في بئر التسكين والتخدير السلطوي، والتمسك بمكتسبات ثورة يناير رغم مخطط التشويه الممنهج.