في سبتمبر/ أيلول 2012 نشر مركز “مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط” دراسة للباحثة ليندسي أورسولا تحت عنوان “الحرية والإصلاح في الجامعات المصرية”، استعرضت واقع الحريات الأكاديمية في مصر بعد عام ونصف من ثورة يناير/ كانون الأول 2011.
كشفت الدراسة أنه رغم حالة التضييق وعدم قفز الإصلاح الجامعي الخطوات المأمولة، إلا أن الساحة شهدت بعض المؤشرات التي زادت من منسوب التفاؤل بأنَّ القادم أفضل، مثل إجراء انتخابات حرّة للاتحادات الطلابية والمناصب الإدارية في الجامعات، بالإضافة إلى تقلُّص الوجود القمعي لقوات الشرطة وأجهزة المخابرات في الحرم الجامعي.
ومنذ فبراير/ شباط 2011، وعقب الإطاحة بمبارك، هزّت الاحتجاجات حرم الجامعات المصرية، شارك فيها أكاديميون وطلاب، دعوا من خلالها إلى التخلُّص من الفساد وفتح المجال أمام الحريات وإعادة النشاط الجامعي مرة أخرى، وتحرير الجامعات من القبضة الأمنية.
تواجه الجامعات المصرية واحدة من أسوأ مراحلها التاريخية على الإطلاق في مسارها الديمقراطي المفترض أن يعزِّز حرية البحث والتعبير ويمنح الباحثين والأكاديميين الأريحية الكاملة في تقديم إبداعاتهم دون خنق وتضييق.
وبعد 9 سنوات تقريبًا من نشر هذا التقرير، أصدرَ مؤشر الحرية الأكاديمية (نتاج جهد تعاوني من قبل باحثين بجامعة فريدرش-ألكسندر، إرلانغن-نورنبرغ في ألمانيا، ومعهد V-Dem في جامعة غوتنبرغ في السويد، والمعهد العالمي للسياسة العامة في برلين، وشبكة “باحثون في خطر” في جامعة نيويورك) تقريره السنوي في مارس/ آذار 2021، الذي صنّفَ مصر ضمن الفئة الأخيرة، أي الفئة الأسوأ والأدنى في مستوى أداء الحريات الأكاديمية.
التقرير الذي شارك في إعداده 2000 خبير وأكاديمي من مختلف دول العالم، من أجل تقييم منسوب الحرية الأكاديمية في 175 دولة حول العالم، وضعَ مصر في الفئة (E)، وهي الفئة الأقل مقارنة بالفئات الأعلى التي تبدأ من (A) التي تشير إلى تلك الدول التي تتمتّع بحرية أكاديمية جيدة جدًّا، وتنتهي عند الفئة الخامسة والأخيرة (E) التي تعني مستويات متدنية جدًّا من الحريات الأكاديمية بتلك الدول.
وتزامنًا مع الذكرى الـ 11 لثورة يناير، تلك الثورة التي أملَ المشاركون فيها بتحسين أوضاع التعليم والحريات، تواجه الجامعات المصرية واحدة من أسوأ مراحلها التاريخية على الإطلاق في مسارها الديمقراطي المفترض أن يعزِّز حرية البحث والتعبير، ويمنح الباحثين والأكاديميين الأريحية الكاملة في تقديم إبداعاتهم دون خنق وتضييق يصيب الحركة البحثية بالشلل، ويقود البلاد -وهي رائدة التعليم في المنطقة- إلى ذيل الشعوب والأمم.
عدّة تعريفات ومعنى واحد
هناك عدة جهود للكيانات البحثية والحقوقية لوضع تعريف جامع مانع لمفهوم “الحريات الأكاديمية”، كونه مصطلحًا مرنًا مطّاطًا ويحملُ الكثير من التأويلات، غير أن أشهر التعريفات المقدَّمة ذلك الصادر عن المؤتمر العالمي الأول لرؤساء الجامعات بجامعة كولومبيا، الذي عُقد عام 2005 وعُرف باسم “إعلان الحرية الأكاديمية“.
ويشير هذا التعريف، الذي يعتبره خبراء الأكثر دقة وموضوعية، إلى أن الحرية الأكاديمية تعني “حرية البحث والتدريس والتحدث والنشر مع الالتزام بمعايير وقواعد البحث العلمي دون تدخُّل أو فرض عقوبات، ودون تقويض لما يمكن أن يقود إليه هذا البحث أو الفهم”.
أما الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان تشير في تعريفها إلى أنها “تلك المساحة التي تضمُّ الطلاب والدارسين وأعضاء هيئة التدريس على حد سواء، ويجب لتلك المساحة أن تكون حرة وآمنة وتسمح للأكاديميين بالتعبير عن آرائهم وأفكارهم واستعراضها بالطرق العلمية المتعارف عليها، أو مناقشتها شفهيًّا وكتابيًّا داخل وخارج الحرم الجامعي دون خوف أو رقابة، ودون خوف أو ترهيب من التعرض لأي شكل من أشكال العنف أو العقاب الإداري التعسُّفي أو الترصد الأمني أو إلقاء اتهامات جزافية أو محاولات تشكيك في نواياهم”.
وبحسب هذا التعريف، يجب على تلك الحرية الأكاديمية أن تحمي الحق في اختلاف الآراء بين الطلاب والأساتذة دون تضييق الخناق أو تهديدهم بتوقيع عقوبة عليهم جرّاء آرائهم، كما تعطي الباحثين كامل الحق في اختيار مواضيع بحوثهم ونشر نتائجها دون رقابة أو تعتيم.
الحريات الأكاديمية.. واقع متدنٍّ
في تقريرها الصادر في يوليو/ تموز 2020، والمعنوَن بـ”جامعات بلا حرية أكاديمية: تقرير حول واقع حرية التدريس والبحث في الجامعات الحكومية”، استعرضت مؤسسة “حرية الفكر والتغيير” (مستقلة معنية بالحريات) أشكال التضييقات والانتهاكات التي تعرّض لها الباحثون والأكاديميون في مصر خلال السنوات الماضية.
قسّم التقرير خارطة الانتهاكات التي واجهها الأكاديميون إلى 4 أقسام، حسب جهة الانتهاك ودوافعها، الأول يتعلق بوقائع شطب وإلغاء رسائل علمية لأسباب سياسية، فيما يتعرض الثاني إلى التدخُّلات التي قامت بها إدارات الجامعات والتي أثّرت على حرية البحث والتدريس، مرورًا بتدخُّلات وزارة التعليم العالي، وأخيرًا تلك القيود المفروضة لاعتبارات الدين والجنس والميول الاجتماعية.
شطب الرسائل لأهداف سياسية
عام 2014 أوقفت جامعة الأزهر منح درجة الدكتوراه لباحث بكلية الدعوة الإسلامية، بسبب وصفه أحداث 30 يونيو/ حزيران بـ”الانقلاب العسكري”، فيما أحيل أعضاء لجنة المناقشة إلى التحقيق، وبعد ذلك بعام واحد فقط قررت الجامعة ذاتها إلغاء مناقشة رسالة دكتوراه لباحثة بكلية الدراسات الإسلامية (فرع الزقازيق)، وقررت إلزامها بإعادة الرسالة مع تغيير موضوعها، بسبب تناولها التكييف الفقهي للثورات، فيما بررت الجامعة هذا القرار بأن الموضوع يحوي إثارة وغير ملائم للفترة الحالية.
وفي العام ذاته شطبت جامعة قناة السويس رسالتَين في مجال العلوم السياسية، الأولى كانت تحت عنوان “الديمقراطية بين الفكر والممارسة لدى الإخوان المسلمين والسلفيين: دراسة تحليلية لحزبي الحرية والعدالة والنور”، والثانية “الإخوان المسلمون وانتخابات مجلس الشعب المصري 2005″، وزعمت الجامعة أن قرار الوقف بسبب تعارض الرسالتَين مع “النظام العام للدولة” و”أحكام القضاء”، مع وقف المشرف الرئيسي على الرسالتَين عن التدريس وإحالته إلى التحقيق.
تدخُّلات إدارات الجامعات
ازدادت وتيرة تدخُّل إدارات الجامعات في العملية التعليمية، سواء عن طريق موضوعات البحوث المختارة أو الامتحانات السنوية، وفرض سياج من الرقابة والتشديد على الأكاديميين، ما كان له أثره الكارثي على حرية البحث العلمي، إذ سُلب الأكاديميون حريتهم في اختيار موضوعاتهم البحثية وإبداء آرائهم العلمية.
عام 2014 أحال رئيس جامعة سوهاج، نبيل نور الدين، أستاذ الصحافة والإعلام بالجامعة، الدكتور مرزوق عبد الحكيم العادلي، إلى التحقيق بسبب تناوله الانتخابات الرئاسية في امتحان المادة التي يدرِّسها للطلاب، حيث طالبهم بتقمُّص دور المرشحَين للرئاسة، عبد الفتاح السيسي وحمدين صباحي، وإقناع الشعب ببرامجهما الانتخابية ورؤيتهما للإصلاح السياسي والاقتصادي، وهو ما اعتبرته الجامعة خروجًا عن النصّ في ضوء الهيمنة السلطوية على الخارطة الجامعية.
تقييد الحريات الشخصية وصل حدّ التدخل في مسيرة الأكاديميين والمعاقبة بسبب الحريات والمعتقدات الشخصية، حيث شهدت الجامعات المصرية عشرات المواقف لأساتذة أُوقفوا بسبب ميولهم العقدية والاجتماعية.
تكرّر الموقف بعد تلك الواقعة بعامَين، حين أحيل أستاذ مادة هندسة البيئة بجامعة الإسكندرية، الدكتور هيثم عوض، إلى التحقيق بسبب إشارته إلى مصرية جزيرة تيران -التي تنازلت عنها مصر للسعودية في إطار خارطة تقسيم الحدود البحرية بين البلدَين عام 2016- في سؤال أورده بامتحان مادته.
تدخُّلات وزارة التعليم العالي
الأمر تجاوز تدخُّل إدارات الجامعات إلى تدخل وزارة التعليم العالي بنفسها، وتنوّعت مظاهر هذا التدخل من الاعتراض على أسئلة الامتحانات كما حدث في أحد امتحانات كلية الحقوق بجامعة القاهرة، حين اعترض الوزير على سؤال حول بيان عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، مرورًا بتوجيه رسمي لكافة الكليات والمعاهد والأقسام بالجامعات الأهلية والخاصة بضرورة خلو المحتوى العلمي من أي إساءة، بالتصريح أو التلميح، بشأن المجتمعات أو الدول أو الأفراد في أيٍّ من الدول الصديقة، كما في الخطاب الذي بعثَ به وزير التعليم العالي إلى أمين مجلس الجامعات الخاصة والأهلية، في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2016.
استندت المؤسسة الحقوقية في تقريرها إلى شهادة بعض الأكاديميين حول تلك التدخُّلات، حيث أشارت أستاذة بجامعة القاهرة أنها وزملاءها تلقّوا أكثر من مرة خطابات توجيهية من الوزارة تطلبُ الابتعاد عن تناول موضوعات معيَّنة في التدريس أو البحث، أبرزها شرعية النظام الحالي وملف تيران وصنافير.
ومن الشواهد التي تضمّنها التقرير مطالبة وزير التعليم العالي أشرف الشيحي، في 5 يناير/ كانون الثاني 2016، رئيس جامعة القاهرة في ذلك الوقت، جابر نصار، بفتح تحقيق فوري وعاجل مع رئيس قسم القانون العام بكلية الحقوق، الدكتور رأفت فودة، بزعم إثارة الأخير للرأي العام على خلفية وضع سؤال عن مدى قانونية بيان القائد العام للقوات المسلحة بتاريخ 3 يوليو/ تموز 2013، الذي تمَّ من خلاله عزل الرئيس المنتخَب محمد مرسي.
تقييد الحريات الشخصية
وصل حدّ التدخل في مسيرة الأكاديميين والمعاقبة بسبب الحريات والمعتقدات الشخصية، حيث شهدت الجامعات المصرية عشرات المواقف لأساتذة أُوقفوا بسبب ميولهم العقدية والاجتماعية، أبرزها تعرُّض الأستاذ بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، يسري جعفر، للوقف عن العمل لمدة 3 أشهر، بقرار من جامعة الأزهر، لاتّهامه بالإلحاد، كما أوقفت الجامعة ذاتها أستاذًا جامعيًّا آخر عن العمل على خلفية اتهامه بـ”التشيُّع”، وذلك عام 2016.
وفي 13 مايو/ أيار 2018 أصدر رئيس جامعة السويس، السيد الشرقاوي، قرارًا بعزل المدرِّسة بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، الدكتورة منى البرنس، من الوظيفة مع احتفاظها بالمعاش والمكافأة، على خلفية نشرها مقطع مصور على حسابها الشخصي على السوشيال ميديا، اعتبرته الجامعة “مسيئًا للآداب ولا يليق بأستاذ الجامعة”.
خطر يؤدّي إلى السجن
تحولت كثير من الجامعات المصرية في السنوات الأخيرة إلى ثكنة أمنية، إذ إن كل شيء يدور تحت رقابة وإشراف الأمن، التعيينات والترقيات والمكافآت والجزاءات، وهو ما حوّل مسار التنافس بين الأكاديميين من التفوق العلمي إلى استرضاء السادة والمسؤولين والقيادات الأمنية، ما انعكسَ بطبيعة الحال على المنظومة العلمية ونتاجها وجودتها بالكلية.
وكثيرًا ما يُصدر عميد الكلية تعليمات مباشرة وواضحة لأعضاء هيئة التدريس، بالإبلاغ عن أي زميل يثير شكوكًا في ميوله السياسية أو العقدية، لتتحول منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحات للرقابة والتقييم، الأمر الذي كبّل أيدي الباحثين ودفعهم للانزواء خلف الجدران المغلقة، فكثير من الأكاديميين أُوقفوا عن العمل بسبب إبلاغات زملائهم.
السنوات الماضية شهدت تعديًا صارخًا على الأكاديميين، حيث زُجَّ بالعشرات منهم في السجون أو فُصلوا من وظائفهم بسبب آرائهم السياسية، وبلغَ عدد أساتذة الجامعة المعتقلين منذ عام 2013 وحتى فبراير/ شباط 2017 أكثر من 2018 أستاذًا قُتل منهم 8، بحسب الناشط الحقوقي سعيد النجار الذي كشفَ وآخرون أن من بين المعتقلين 1232 طبيبًا و2574 مهندسًا و5342 أزهريًّا و3879 طالبًا ونحو 704 امرأة و689 طفلًا.
ومن أشهر الأسماء التي سقطت في فخّ الاعتقال الدكتور يحيى القزاز، أستاذ الجيولوجيا بجامعة حلوان، في أغسطس/ آب 2018، وكان ذلك ضمن حملة اعتقالات تضمّنت الخبير الاقتصادي رائد سلامة، والدبلوماسي والسفير السابق معصوم مرزوق، وأستاذ علم الآثار عبد الفتاح البنا، وقد أُفرج عنه في مايو/ أيار 2019 بعد قضاء قرابة 9 أشهر في السجن.
تسير مصر وفق متوالية هندسية مخطَّطة بعناية لتقييد الحريات الأكاديمية وإفراغ الجامعات من كوادرها، واستئناس نشاطها الذي كان بالأمس نموذجًا يحتذى به.
كذلك الباحث باتريك جورج، طالب الماجستير بجامعة بولونيا بإيطاليا، والذي يعمل باحثًا بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ألقت قوات أمن مطار القاهرة القبض عليه في 7 فبراير/ شباط 2020 أثناء عودته من إيطاليا، وهو الموقف ذاته الذي تكرر مع الباحث الحقوقي أحمد سمير سنطاوي، طالب الماجستير في الأنثروبولجيا وعلم الاجتماع بالجامعة المركزية الأوروبية في النمسا، والذي تعرّض للاعتقال بمطار شرم الشيخ في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2020 أثناء عودته من فيينا.
ومن أحدث الحالات التي سبّبها التنكيل والتعسُّف من قبل إدارات الجامعات المصرية، رئيس قسم الإذاعة والتلفزيون بكلية الإعلام جامعة القاهرة، الدكتور أيمن منصور ندا، الذي قررت كليته إيقافه عن العمل في مارس/ آذار 2021، بدعوى نشره مقالات هاجم فيها الأداء الإعلامي لبعض الإعلاميين الموالين للنظام، أبرزهم أحمد موسى ونشأت الديهي.
استهداف الأكاديميين تجاوز حاجز مواقفهم السياسية أو آرائهم الشخصية إلى صلاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، فمن له صلة بسجناء رأي أو محبوسين لا يسلم هو الآخر من الاستهداف، كما حدث مع الدكتورة منار الطنطاوي، التي حُرمت من حقها في الترقّي لدرجة الأستاذية -رغم صدور قرار عن المجلس الأعلى للجامعات في فبراير/شباط 2020 بحصولها على الدرجة العلمية-، بسبب أنها زوجة سجين الرأي السابق الصحفي هشام جعفر الذي تعرّض للحبس الاحتياطي لمدة تزيد عن 3 سنوات.
وبعيدًا عن تراجُع ترتيب مصر في مؤشر الحرية الأكاديمية، تقبع الجامعات المصرية في مرتبة متأخِّرة في قائمة الجامعات الأفضل في مجال البحث العلمي، فوفق تصنيف الجامعات (QS) البريطاني (أحد أهم التصنيفات الدولية) الصادر عام 2019، جاءت جامعة القاهرة بالمركز 521، تلتها جامعة عين شمس في المركز 801، ثم جامعتا الإسكندرية وأسيوط، بين قائمة أفضل 1000 جامعة على مستوى العالم.
وهكذا تسير مصر وفق متوالية هندسية مخطَّطة بعناية لتقييد الحريات الأكاديمية وإفراغ الجامعات من كوادرها، واستئناس نشاطها الذي كان بالأمس نموذجًا يحتذى به، في محاولة لتقليم أظافر أركان العملية التعليمية الأربعة (الإدارة والأكاديميين والطلاب والمناهج)، بما يضمن الولاء التام ويُجهز على أي تهديد محتمَل لاستقرار النظام والاقتراب من كيانه.