على فلسطين التاريخية الممتدة على مساحة 27 ألف كيلومتر، يعيش أكثر من 6.8 ملايين فلسطيني، منهم 1.6 مليون ينحدرون من سلالة نحو 154 ألف فلسطيني لم يغادروا أراضيهم إبّان النكبة، ويعيشون في الداخل المحتل والعاصمة المقدسة، ويواجه هؤلاء الفلسطينيون مشاريع “الأسرلة” التي تنتهجها حكومة الاحتلال الإسرائيلي، لمحاولة محو الذاكرة والهوية الفلسطينية، وتهويد القدس والداخل المحتل بكل تفاصيله.
رغم هوية هؤلاء التاريخية، وفلسطينية حالهم وطباعهم، وصمودهم في أرضهم، وكونهم ركنًا لا يتجزّأ ولا يندثر من القضية الفلسطينية، إلا أنهم أُسقطوا من قواميس السلطة الفلسطينية في تعريفها الفلسطينيين، حتى باتت السلطة ومنذ قدومها عام 1994 تنظر إليهم وكأنهم “أبناء الدولة الأجنبية المجاورة”، وأصبحوا وحدهم يواجهون الاحتلال بمشاريع تهويدهم وتهجيرهم وهدم بيوتهم ومصادرة أراضيهم، كما يقاوم حاليًّا أهل القدس والشيخ جراح والنقب المنتفض.
اتفاقية أوسلو والتخلّي عن بدو القدس
ما زال العالم يذكر دموع الطفلة الصامدة في الخان الأحمر في محافظة القدس، وتشبُّث الأهالي بأرضهم وسكنهم في ظلّ محاولة الاحتلال -المستمرة حتى اللحظة- بتهجير سكّان الخان، التجمُّع البدوي التابع للعاصمة المقدَّسة.
وبينما كان مسؤولو السلطة الفلسطينية يرفعون إشارات الصمود، ويدّعون إعلاميًّا نصرة الخان الأحمر وسكّانه، كشفت إذاعة جيش الاحتلال حينها عن “وعود من جهات فلسطينية مسؤولة قد تكون من مستويات رفيعة في السلطة الفلسطينية، بإجلاء المكان طوعًا وانتقال سكّانه إلى أرض فلسطينية بمُلكية”.
وإذا أردنا عدم تصديق الرواية الإسرائيلية، فإننا وبلا شكّ سنقف قليلًا أمام ما نصّت عليه اتفاقية أوسلو 2 عام 1995، بأن جميع التجمُّعات البدوية المحيطة بالقدس توجد ضمن المنطقة “ج”، التي تتولّى “إسرائيل” المسؤولية الإدارية والأمنية الكاملة فيها، حيث جرى تحويل الأراضي التي كانوا يقيمون فيها إلى السيطرة العسكرية والمدنية الإسرائيلية الكاملة بموجب الاتفاق.
وهذا الاتفاق، الذي وقّعته السلطة الفلسطينية وحكومة الاحتلال، فاقمَ من معاناة بدو القدس المحتلة، خاصةً أنهم لم يملكوا أي إثباتات لملكية الأرض التي يقيمون عليها، بسبب إمّا إعلان هذه الأرض من أراضي دولة، وإمّا بسبب عدم اعتراف السلطات الإسرائيلية بأوراق الملكية التي بحوزتهم.
العاصمة المقدسة.. خارج الحسابات
نصّت اتفاقية أوسلو 1، والتي وقّعتها منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بحركة فتح عام 1993، على تأجيل البتّ في قضية القدس إلى مفاوضات الحلّ النهائي دون أية ضوابط أو ضمانات، ما تركَ الباب مشرعًا أمام الاحتلال لخوض حرب تهويد ممنهَجة بحقّ المدينة على المعالم، وحرب ديموغرافية على السكّان، دون أي رقيب أو حسيب رسمي فلسطيني، فقط عبارات استنكار وشجب.
في عام 2020 هدمَت سلطات الاحتلال 121 منشأة في القدس، وشرّدت 379 فلسطينيًّا مقدسيًّا، وبحسب مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة “بتسيلم”، فإنه و”منذ بداية عام 2004 وحتى نهاية عام 2019 هدمت بلدية القدس 978 منزلًا في شرقي المدينة وشرّدت بذلك 3177 شخصًا ضمنهم 1704 قاصرين، إضافة إلى ذلك منذ عام 2012 حين بدأت “بتسيلم” في جمع المعلومات عن هدم المباني غير السكنية وحتى نهاية عام 2019، هدمت البلدية في شرقي القدس ما لا يقلّ عن 413 مبنى غير سكني”.
في الوقت ذاته، يغلق أكثر من 100 تاجر محالهم في البلدة القديمة في القدس، وذلك بسبب ضعف الحركة الشرائية، ولتراكُم الضرائب العالية التي تفرضها سلطات الاحتلال، إضافة إلى المخالفات على المحال وعجز أصحابها عن تسديدها، الأمر الذي يجعلها فريسة سهلة لقبضة الاحتلال حكومةً وجمعيات استيطانية.
في المقابل، يتذكر الفلسطيني جيدًا جملة رئيس وزرائه محمد أشتية في أحد المؤتمرات، حين طالبه أحد التجّار المقدسيين بتخصيص السلطة لدعم أو راتب شهري للتجّار هناك، بسبب عدم مقدرتهم على ممارسة أعمالهم، ولتعزيز صمودهم، فكان ردّ أشتية حينها: “لسنا دولة نفطية لنفعل ذلك”، هذه الجملة التي أثارت ضجّة في الشارع الفلسطيني، خاصة في ظلّ ترقيات تطالُ أقارب المسؤولين، وتفشّي قضايا الفساد في المؤسسات الحكومية.
فضلًا عن ذلك، تستجدي الحكومة الفلسطينية سنويًّا جيوب المموِّلين والمانحين باسم دعم وتعزيز المقدسيين وأهالي القدس، إلا أن دور السلطة في دعم صمود المقدسيين لا يتعدّى تخصيص 1% من ميزانيتها لأجلهم في أحسن أحوالها، بعيدًا عن الأزمة المالية التي تواجهها حاليًّا، إذ تصرف نحو 32 مليون دولار تقريبًا، في حين تخصِّص بلدية الاحتلال الإسرائيلي في القدس نحو 2.2 مليار دولار سنويًّا لمشاريعها التهويدية في المدينة المحتلة.
ولم يقتصر الأمر على ضُعف ما تقدِّمه السلطة للقدس، بل أيضًا يصل الحال إلى سحب أموال صندوقَي الأقصى والقدس اللذين دُشِّنا عام 2000 لدعم المدينة المقدسة وأهلها، حيث تلقّت منه موازنة السلطة أكثر من 1400 مليون دولار، وكان نصيب القدس من هذا المبلغ، الذي جُمع وخُصِّص لأجلها لا يتجاوز 5%، في حين خُصِّصت باقي المبالغ لتغطية الموازنات التشغيلية للرئاسة الفلسطينية ومجلس الوزراء ووزارة الخارجية.
النقب.. حتى الاستنكار غائب
رفضت سلطات الاحتلال الاعتراف قانونيًّا بـ 35 بلدة وقرية بدوية فلسطينية، ما يجعل من المستحيل لنحو 90 ألف فلسطيني العيش بطريقة قانونية في التجمُّعات التي يعيشون فيها منذ عقود، بدلًا من ذلك تسعى سلطات الاحتلال إلى تركيز التجمعات البدوية في بلدات وقرى أكبر معترَف بها، من أجل توسيع الأراضي المتاحة للتجمعات اليهودية، كما هو مبيّن في خطط حكومة الاحتلال.
النقب الصامد الذي يشكّل 40% من مساحة فلسطين التاريخية، لم يحظَ باهتمام السلطة الفلسطينية حتى على مستوى الخطاب الرسمي، فبينما تشهدُ التجمُّعات البدوية والقرى محاولات تهجير ومصادرة أراضٍ فيما يُعرَف بمشروع “برافر-بيغن”، وتندلع هناك هبّة شعبية، لم يصدر حتى اللحظة أي استنكار حكومي فلسطيني يشجب أو يستنكر، وكأن الأمر يحدث خارج إطار المفهوم الفلسطيني.
وبطبيعة الحال، لا يوجد دعم مالي لأهالي النقب تقدّمه السلطة الفلسطينية من خلال الجمعيات العربية في الداخل المحتل، مقابل ما تعتمده سلطات الاحتلال من سياسة تهدف إلى تهويد منطقتَي الجليل والنقب، بالتنسيق مع الصندوق القومي اليهودي والوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية، حيث هاتين المنطقتين تمثلان ثُلثَي أراضي الداخل المحتل تقريبًا، وتشملان معظم السكّان الفلسطينيين.
والحقيقة الواضحة أعظم من قصور وضعف تعامل أو إعطاء اهتمام، بل تصلُ إلى محاربة السلطة في الضفة الغربية لجميع أشكال المقاومة الفلسطينية، منها تلك التي تندلعُ نصرةً للقدس والداخل المحتل، كما حدث في مايو/ أيار 2021 في خضمّ أحداث حي الشيخ جراح وهبّة باب العامود، إذ خرجَ الفلسطينيون في مسيرات تضامنية في الضفة الغربية، انتهت بملاحقة واعتقال السلطة الفلسطينية لعدد من النشطاء الذين شاركوا فيها.
كما نصبت الأجهزة الأمنية حواجز تحول دون وصول الفلسطينيين إلى نقاط التماسّ في الضفة المحتلة، حين قرروا التوجُّه لها لإسناد المقدسيين، وتخفيف ضغط الاحتلال عنهم، وتؤدي إجراءات السلطة إلى تغوُّل الاحتلال في الضفة الغربية والداخل المحتلَين دون رقيب، وهو ما دعت إليه منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها عام 2021 بقولها: “على السلطة الفلسطينية وقف أشكال التنسيق الأمني مع الجيش الإسرائيلي، التي تساهم في تسهيل ارتكاب جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد المرتكبتَين ضد الإنسانية”.
الداخل المحتل الذي تسيطر عليه “إسرائيل” وتحتله منذ عام 1948، خرج من إعدادات السلطة الفلسطينية ومطامحها منذ تأسيسها، وليس بعيدًا حديث رئيس السلطة محمود عباس في لقاء تلفزيوني أن “صفد مدينة إسرائيلية” ولن يطالب بها، وهو ما يفسّر جليًّا تعامُل السلطة الفلسطينية مع فلسطينيي الداخل، وكأنهم دولة أخرى، انسجامًا مع رؤيتها بحلّ الدولتَين: فلسطين على حدود 1967، و”إسرائيل” على حدود 1948.