كل بقعة هناك بمثابة سحر وساحر وأنت المسحور المنتشي، تنتشي بأنهار السحر دون ملل، هناك في جبال الأوراس، المكان الذي انطلق منه البطل الأمازيغي طارق بن زياد لفتح بلاد المغرب وشبه جزيرة الإيبار، وأيضًا المكان الذي كان مهد الثورة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي (1962-1954).
في تلك الربوع سكن الشاوية، وطوعوا الطبيعة خدمةً لهم رغم قساوتها، وصنعوا لأنفسهم تاريخًا عظيمًا وأمجادًا كبرى ورسخوا عادات وتقاليد عُرفوا بها منذ قديم الزمن، عادات ظلت راسخة ولم تتغير رغم كل شيء.
سيحط ملف “قرى معلقة” لنون بوست، رحاله هذه المرة في جبال الأوراس، حتى نتعرف معًا على الجبل وسكّانه، عاداتهم وتقاليدهم، فضلًا عن قلاعهم التي اشتهروا بها منذ زمن بعيد، حتى أصبحت رمزًا لقرى الأوراس.
مجتمع الشاوية
لعل أغلبنا يرى في الجبل بقعة عمياء، بيئة هامشية صعبة، مقاومة للابتكار، رافضة للتطور، تهوى العزلة، غير مناسبة للإنسان المحب للتقدم والحياة الطيبة، لكن أهل الشاوية سكنوا الجبال وطوعوها لصالحهم.
سكن الشاوية، وهم جزء من الأمازيغ، جبال الأوراس شرق الجزائر، الذي يعد من بين أكبر سلاسل الجبال في شمال إفريقيا، إذ يبلغ ارتفاع أعلى قمة فيه 2328 مترًا، ويحتوي الجبل على العديد من الأودية على غرار واد العرب والواد الأبيض الذي ينبع من قمة شيليا وقمم إشمول واريس.
في تلك الجبال التي سكنها الشاوية، تتدلى بيوت صغيرة على شكل صفوف من الرفوف، بعضها فوق بعض في اتجاه ارتفاع الجبل
كما تتميز المنطقة بثوبها الأخضر، فهي تتزين بأشجار البلوط المحلية وأشجار الصنوبر الحلبي وأشجار التنوب النوميدي وأشجار السنديان الأخضر والسدر الجبلي والعديد من الأشجار المثمرة كالبرتقال والتفاح والزيتون واللوز، فضلًا عن أشجار الأرز الأطلسي التي توجد في قمة المحمل بباتنة.
يتكلم أهل الأوراس اللهجة الشاوية، وهي من اللهجات الأمازيغية الزناتية وتختلف عن القبائلية والميزابية والتارقية، وتعد اللهجة الشاوية الثانية بين اللغات الأمازيغية بعد اللهجة القبائلية في الجزائر، ويقدر عدد المتحدثين بها بنحو 3 ملايين تقريبًا، والشاوي في اللغة العربية هو المنسوب إلى الشاء وهي جمع شاة، وجمع شاوي شاوية، أي الشخص الذي يمتهن الرعي.
يقول العلامة التونسي ابن خلدون في المقدمة: “كما أن الشاوية أهل القيام على الشاة والبقر لما كان معاشهم فيها فلهذا لا يختصون بنسب واحد بعينه إلا بالعرض ولذلك كان النسب في بعضهم مجهولًا عند الأكثر وفي بعضهم خفيًا على الجمهور”.
نفهم من هنا أن سكان الأوراس امتهنوا الرعي، وفي الغالب يلجأون للترحال سعيًا وراء المسارح والمياه لحيواناتهم، ذلك أن حياتهم ارتبطت بماشيتهم، فهو طعامهم ومصدر رزقهم بالإضافة إلى امتهان زراعة الأرض.
ويتكون المجتمع الشاوي من جيبين كبيرين: الأول “هوارة” ويضم قبائل كثيرة نذكر منها آث داود والنمامشة والحراكتة، أما الجيب الثاني، فمعروف باسم “الزناتة” ويجمع قبائل عديدة مثل قبيلة آيت سعادة وآيت عبدي.
بيوت معلقة
في تلك الجبال التي سكنها الشاوية، تتدّلى بيوت صغيرة على شكل صفوف من الرفوف، بعضها فوق بعض في اتجاه ارتفاع الجبل، بيوت ضاربة في عمق الزمن مشكّلة قرى مُعلقة، وتتقابل بشكل جميل وتتلاصق ببعضها البعض، على جنباتها أشجار خضراء باسقة ووديان جارية، مشكلة منظرًا خلابًا وفسيفساءً حيةً.
تم استغلال هذه القلاع في مقاومة المستعمر الفرنسي، بسبب عزلتها ووعورة مسالكها
بنى الشاوية منازلهم من الحجر فوق جبال الأوراس والهضاب المحيطة به، كما نحتوا الجبال والهضاب الصخرية واتخذوها بيوتًا، حتى يدخروا فيها المؤونة ويحتموا بها في أثناء الحروب الكثيرة التي كانت تشهدها المنطقة.
بُنيت المنازل في قرى جبال الأوراس المعلقة بالحجارة والطين حتى تحتفظ بالبرودة داخلها صيفًا وتحُول دون اختراق الحرارة لها، فيما تمنع في الشتاء دخول البرد إلى الغرف وتكون بها فتحات في السقف يخرج منها دخان المداخن التقليدية، وغالبًا ما تكون نوافذها على شكل مثلثات.
قلاع الأوراس
فضلًا عن بيوتها المعلقة، عُرفت جبال الأوراس بقلاعها المتناثرة هنا وهناك، فكل مدن وقرى الشاوية لها قلعة، وهي علامة المدينة، وحولها يتجمع السكان ويقيمون مصالحهم وشؤونهم، وتكون عادة في جانب مرتفع معزول، يصعب الوصول إليها.
هذه القلاع هي مهد القبائل الأمازيغية في جبال الأوراس، وتُعرف هناك باسم “إيقليعين”، تميز هذه القلاع جبال الأوراس عن باقي مناطق الجزائر حتى التي يقطنها الأمازيغ، فهي فريدة من نوعها، منها قلعة كباش وقلعة بالول وقلعة إيغلفن.
تعتبر القلاع ميزةً أوراسيةً فريدةً من نوعها، كانت بمثابة حصن القرية الذي يجلب الأمان للأهالي، كما كانت عبارة عن مخازن لتخزين المواد الغذائية كالتمور والقمح والشعير وكل ما هو مجفف، فضلًا عن الزيت والزيتون، وكان لكل عرش في الأوراس قلعته الخاصة.
من أبرز هذه القلاع كما قلنا “بالول”، وهي قلعة بُنيت زمن الملك الأمازيغي أكسل، كانت مقرًّا عسكريًا للجيش الأمازيغي، تقع في منطقة إيقلفن الجبلية، مشيدة على شكل عمارة تتكون من عدة طوابق، فقد ضمت 12 طابقًا، إلا أن القلعة التي لا تزال شامخة بقي منها 8 طوابق فقط، تم بناء القلعة وفق الطابع الشاوي سنة 600 ميلادي تقريبًا.
تم استغلال هذه القلاع في مقاومة المستعمر الفرنسي، بسبب عزلتها ووعورة مسالكها، إذ شكّل الأوراس في الثورة الجزائرية بيئةً مناهضةً للاستعمار الفرنسي، سواء بإيواء بعض قادة المقاومة وتدعيم صفوفهم أم باندلاع انتفاضة من قلب جبالها.
وكان للمنطقة العسكرية الأولى “أرواس النمامشة” دورًا بالغ الأهمية إبان حرب التحرير، بالنظر لموقعها الجغرافي كونها تشمل الحدود الشرقية للجزائر، وقد مكنها ذلك من جمع السلاح والتمويل لإمداد المجاهدين المتمركزين في الجبال قصد التصدي للمستعمر الفرنسي.
العرس الشاوي
عُرفت منطقة الأوراس قديمًا بتربية الغنم والبقر، وهناك من يمتهن الرعي إلى الآن، كما تُعرف بلاد الشاوية بموروث ثقافي غني وبعادات وتقاليد متنوعة منها اللباس الشاوي كالملحفة والحُلي الفضية والبزّيم والبرنوس والقندورة والبلغث، إلى جانب الكسكسي والبربوشة والرفيسة.
لكن ما يشدّ الانتباه أكثر عند زيارة قرى جبال الأوراس المعلقة هو العرس الشّاوي، فهو ما يزال يحافظ على أغلب عادات وتقاليد المنطقة الموروثة منذ قرون عدة، وتميل العائلة الشاوية إلى زيادة حجمها ذلك أن زيادة الحجم له أهمية اجتماعية واقتصادية في الوقت ذاته.
بداية مراسم الزواج تكون بأخذ أهل العريس كبشًا وكل مستلزمات الطهي لأهل العروس، هناك يتم استقبالهم من طرف أهل العروس مع حضورهم لذبح الكبش، في الأثناء يحضر أهل الزوجة طبق الشخشوخة، وشواء جزء من اللحم والكبد وتقدم القهوة، عقب ذلك يعود أهل العريس إلى بيتهم ويحضرون العشاء ويتكون عادة من كسكسي وشربة فريك وكفته.
يصطف الرجال في حلقة دائرية وترقص الفتيات غير المتزوجات وسط هذه الدائرة شرط تغطية رؤوسهن
أما في بيت الزوجة، فتضع هذه الأخيرة الحنة المعروفة باسم “حنة بابها” وتكون في صحن مزين بالشراشف والشموع مع غناء النسوة باستعمال البندير أو ما يُعرف هناك باسم “أضبال”، ومن عادات أهل العروس أن تتكفل امرأة من أقاربها تكون محظوظة في حياتها الزوجية بوضع الحنة وذلك تبركًا بها، ومن ثم توضع الحنة للبنات العازبات من أجل تعجيل زواجهن.
في اليوم التالي، تذهب العروس إلى الحمام في موكب وتأخذ مجموعة من البنات، في حين يبقى أهلها في البيت يجهزون غذاءً للضيوف يتكون من “بكبوكة” و”سلطة”، أما العروس فيكون من نصيبها قلب الشاة التي أتى بها زوجها والكبد.
عقب عودتها من الحمام، يتم استقبال الزوجة بالزغاريد و”الأضبال” وطلقات البارود، وبعد العصر تبدأ مراسم ما يسمى بزفة العروس، إذ يأتي أهل العريس ومعهم ذهب وملابس للعروس وصينية من القشقشة وهي “حلوى، جوز، لوز، كاكاو”.
من الفعاليات التي تتم في زفة العروس، جلوس هذه الأخيرة في اتجاه القبلة ووضع شاش فوق رأسها أو ما يطلق عليه هناك لفظ “ذراية”، ثم تأخذ واحدة من أهل العريس صينية القشقشة وتضعها فوق الشاش، فتُسقط منها بعض حبات الحلوى بصفة متعمدة تفاؤلًا بأن ترزق العروس بعدد من الأولاد، بعد ذلك تضع أم العريس الحناء في يد العروس مع وضع حبات “اللويز”، وتقوم بتلبيسها الخاتم والذهب الخاص بها وتعطيها العديد من الهدايا.
تنتهي هذه الفعاليات بعد أذان المغرب، ويرجع أهل العريس إلى البيت وتضع الأم هناك الحناء في أحد أصابع العريس، ويتم استدعاء الأقارب والأصدقاء لتناول وجبة العشاء، ومن ثم القيام بحفلة ساهرة، تؤثثها الأغاني الشاوية.
يُخصص اليوم الثالث، لزفّ العروس إلى أهل زوجها، عند الوصول إلى بيت العروس يتولى أبو العريس حملها على ظهره وعند عتبة الباب يفرش لها برنوس أبيها ويوضع فيه نقود، وبعد ذلك تمتطي العروس ظهر بغل أبيض أو سيارة من أعلى طراز، ومن ثمّ يعود الموكب راجعًا إلى بيت العريس.
عند الوصول يرشّ رأس العروس بماء بواسطة عيدان الحلفاء وعندها ينزع أخ العريس الحذاء للعروس، وعند جلوسها يقدم لها طبق شخشوخة في إناء فخاري، يسقى بالدهان والعسل ويوضع فوق يد العروس، وما يشد الانتباه في تلك الليلة كميّة البارود التي يتم إطلاقها، كأنك في ساحة حرب، وهو دليل فرح.
ما يميز حفلات زواج الشاوية، رقصتهم الفريدة، فيوم العرس يصطف الرجال في حلقة دائرية وترقص الفتيات غير المتزوجات وسط هذه الدائرة شرط تغطية رؤوسهن، كما يطلق عشرات الرجال البارود في لحظة واحدة واتجاه واحد، أما الزغاريد فتتكفل بها مجموعة من النساء يصطففن في صفين متقابلين في كل صف 4 نساء يقمن بالغناء وإطلاق الزغاريد.