عانى الأطباء الذين انحازوا إلى صف الثورة السورية منذ 11 عامًا من بطش النظام والملاحقة الدائمة والتهديد بالقتل أو الاعتقال، لأن دورهم كان محوريًا في الوسط الثوري، فكانوا يشرفون منذ اللحظات الأولى على علاج المتظاهرين في مشاف ميدانية أو في بيوتهم أو حتى بالسر في عياداتهم وأماكن عملهم، الأمر الذي مثل خطرًا على حياتهم، وحياة كل من كان بحوزته حقيبة تحتوي على أدوية أو أدوات طبية.
وهنا أذكر، شخصيًا، أنه على الرغم من أن دراستي بعيدة عن الطب وتخصصاته، كنت مضطرًا للانخراط بالعمل الطبي بسبب نقص الكوادر، إذ أجبرت التهديدات المتتالية، من نظام الأسد، الأطباء ومساعديهم الهجرة في فترة مبكرة من عمر الثورة السورية، فيما وقع عددًا منهم ضحية الاعتقال التعسفي والاخفاء القسري حتى يومنا الحاليّ.
وخلال عملي بالمجال الطبي بين الأعوام 2011 و2016، كانت تحركاتي، برفقة الزملاء، أخطر من تحركات باقي النشطاء، وتجنبًا لأي ملاحقة أو اعتقال كنت أتنقل أنا والمتطوعين الآخرين ليلًا، إما على الدراجات الهوائية وإما مشيًا على الأقدام، نجهز مستودعات مخفية عن أعين النظام وقواه الأمنية.
مع مرور الوقت والبدء بتحرير المدن وخروجها عن سيطرة نظام الأسد، بقي في كل منطقة بعض الأطباء للإشراف على الحالة الإنسانية، لكن التحديات كانت كبيرة جدًا، وهو ما لاحظناه عندما كنا بالمشفى الميداني لمدينة داريا خلال فترة الحصار، حيث كنت ملازمًا للأطباء الخمس الذي حملوا على عاتقهم إنقاذ حياة 8000 شخص بقوا محاصرين في المدينة، فجهزوا مكانًا للمشفى الميداني بأقل الإمكانات وحاولوا جاهدين الحفاظ على أرواح الناس الذين تصيبهم آلة الأسد الحربية.
لكن قوات الأسد لم تترك الأطباء المحاصرين بأمان، فكانت كل يوم تستهدف المستشفى الميداني لإخراجه عن الخدمة كونه أهم المؤسسات التي تدعم صمود المدينة، عدا عن ذلك حاولت قوات الأسد استهداف الأطباء عبر محاولات اغتيال أدت غالبها لإصابة الأطباء، جرى ذلك عبر زرع جواسيس أو استهداف مباشر لأماكن إقامتهم بالبراميل المتفجرة، وفي نهاية المطاف نجحت محاولات استهداف المشفى بقنابل النابالم الحارقة، ما أدى إلى احتراقه ودماره بالكامل.
بداية محاكمات أطباء الإجرام
في الجهة المعاكسة للإنسانية، تتجسد الوحشية بأقبح صورها، عندما يتحول الطبيب إلى مجرم وهو من أقسم على أن يؤدي عمله بأمانة وشرف. في السياق، شهدت ألمانيا أمس الأربعاء، محاكمة الطبيب السوري علاء موسى المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، فقد كان مشاركًا بتعذيب سجناء في مستشفيات عسكرية بسوريا، في أثناء عمله طبيبًا بسجن عسكري ومستشفيات بحمص ودمشق بين عاميَ 2011 و2012.
نقلًا عن موقع الجزيرة، فقد اتهم المدعون موسى في 18 قضية تعذيب، ويقولون إنه قتل أحد السجناء، وفي إحدى القضايا، يُتهم بإجراء جراحة تصحيحية لكسر عظمي دون تخدير كافٍ، كما وجهت له اتهامات بمحاولة حرمان السجناء من قدراتهم الإنجابية، وتشمل أساليب التعذيب التي استخدمها موسى، غمر الأعضاء التناسلية لمراهق بالكحول في مستشفى عسكري بحمص وإضرام النار فيها باستخدام قداحة.
عمل موسى في المستشفى العسكري المعروف بـ”مشفى 601″ بمنطقة المزة في دمشق، وقد ظهرت في هذا المشفى الصور التي صدمت العالم، وأظهرت مئات الجثث التي قتلت تحت التعذيب وشوهد عليها آثار التعذيب الوحشية في معتقلات النظام ومن ثم نقلت إلى هذا المشفى، وقد شارك الأطباء في هذا المشفى بالتعذيب وعمليات القتل، وتعرف صور هؤلاء الضحايا، بضحايا قيصر.
الجدير بالذكر أن الطبيب موسى هاجر إلى ألمانيا عام 2015 للعمل هناك، لكن تحقيقًا صحفيًا نشرته الجزيرة ودير شبيغل كشف أفعاله في سوريا وأطلقت التحقيقات في ألمانيا بحقه، فاعتقل يوم 19 يونيو/حزيران 2020، وتتبع الوثائقي الذي جاء بعنوان “البحث عن جلادي الأسد”، الطبيب في مدينة كاسل الألمانية، فقد أبلغ عنه ناشطون وشهود عيان، واتهموه بممارسة جرائم قتل واعتداءات بحق المعتقلين في سجون النظام السوري.
الطبيب علاء موسى وجرائمه ليست حالة فريدة في تاريخ الإجرام من الأطباء التابعين لنظام الأسد، فمنذ اليوم الأول للثورة السورية عمل هؤلاء الأطباء على قتل وتعذيب المصابين جراء المظاهرات أو الأعمال الثورية سلميًا أو عسكريًا، فالمشافي التابعة للنظام كانت أشبه بمسالخ بشرية أكثر من المعتقلات أو أقبية السجون، وهنا يأتي التساؤل عن أخلاقيات المهنة وإنسانية العمل وكيف لطبيب أن يصبح أخطر من ضابط عسكري أو مجرم سفاح باستخدام مهنته، ولعل أبرز مثالين على مشافي الموت التي استخدمها النظام السوري: مشفى 601 ومشفى تشرين العسكري.
مشفى 601
الطبيب محمد أبو عزام العامل في أحد مشافي دمشق الآن، يروي لـ”نون بوست” عن فترة اعتقاله في معتقلات النظام لمدة سنتين ونصف، فيقول إنه اعتقل لأنه عالج اثنين من المتظاهرين السلميين الذين أصيبوا بإطلاق رصاص للأمن على مظاهرات في بلدة زملكا بريف دمشق، ويضيف أنه عالج الشابين ومن ثم عمل على تهريبهم قبل قدوم قوات الأمن، لكن مدير المستشفى المتعاون مع النظام وشى به ما أدى إلى اعتقاله وتعذيبه وتوجيه اتهامات له مثل علاج النازحين بالمجان والاهتمام ببعض الجرحى في منازلهم.
أما عن فترة اعتقاله يروي الطبيب السوري أنه قضى مدة تزيد على 3 شهور في مشفى المزة العسكري المعروف بـ601، ورأى هناك فظائع التعذيب والقتل، فيذكر أن أحد المرضى كان بحاجة لبتر قدمه المصابة نتيجة التعذيب الشديد، فقطع الأطباء قدمه أمام المرضى الآخرين دون تخدير أو تعقيم، وتركوه ينزف حتى مات.
ويذكر الطبيب أبو عزام أن بعد خروجه من المعتقل، عمل في المشافي الخاصة، ولكن التهديدات ظلت تلاحق كل من يخالف القواعد التي وضعتها قوات الأسد بشأن مساعدة الناس، إذ كانت أفضلية العلاج لضباط النظام وعناصره حتى لو كان ذلك يعني إهمال حالات طارئة.
مشفى الموت
في الجهة الشمالية الشرقية من دمشق بين حي تشرين وحي برزة وحرستا يقع مشفى تشرين العسكري، تأسس هذا المشفى المكون من عشرة طوابق بالإضافة للأبنية الملحقة به، لعلاج الأطباء والعساكر، ومع بداية الثورة السورية في مارس/آذار 2011، استقبل المشفى المصابين من الثوار والمتظاهرين، إلا أن سمعة الموت والتعذيب لاحقت أيضًا هذا المشفى العسكري المتهم بارتكاب الكثير من الجرائم بحق عشرات المصابين المصابين، فقد اختص المشفى باستخراج شهادات وفاة المعتقلين الذين يقضون في الأفرع الأمنية تحت التعذيب، وهذا ما أكدته الصور التي سربها قيصر، حيث تنتهي ملفات وصور المعتقلين الذين يلقون حتفهم في جميع الأفرع الأمنية بدمشق، إلى مشفى تشرين العسكري لاستخراج شهادات تؤكد وفاتهم بالسكتة القلبية أو بمرض ما كان المعتقل يُعاني منه.
ويذكر شهود أن في هذا المستشفى حصلت جريمة قتل الطفل حمزة الخطيب والطفل تامر الشرع. علاوة على ذلك، حول النظام مشفى تشرين إلى ثكنة عسكرية، حيث نشر القناصة والدبابات في محيط المشفى لقصف المدنيين في المناطق الثائرة المجاورة مثل حرستا وبرزة بالقذائف والصواريخ، كما حفر خندقًا محيطًا بالمشفى وذلك تفاديًا لتسلل الجيش الحر إليه سابقًا.
نشر موقع “مع العدالة” الحقوقي السوري، أسماء بعض الأطباء المجرمين العاملين في هذا المستشفى، ومنهم الدكتور مفيد درويش طبيب العظمية الذي بدأ عمله رئيسًا لقسم الإسعاف ثم تحوّل إلى مدير المشفى، عُرف عنه قتله وتعذيبه للمعتقلين، منذ بداية وجوده في المشفى، بالإضافة إلى الطبيب الشرعي العقيد إسماعيل كيوان واخصائي الجراحة البولية العقيد أكرم عيسى، والملازم أول مهند موسى طبيب أوعية وجراحة صدرية، والطبيب الشرعي العميد أكرم الشعار الذي كتب تقرير وفاة الطفل حمزة الخطيب، وطبيب التخدير الرائد حسان مرعي، أما الممرضين الذين عُرفوا بتعذيبهم للجرحى: علي زهرة وأمير ماضي وخيرات سلهب وغياث إبراهيم ورئيس قسم الصيانة المساعد عمار أسعد.
“قيدوني بيد جثة”
يروي الحقوقي السوري أسامة أبو زيد قصته في المعتقل ومعاناته في العلاج داخل مشفى 601، في منشور على حسابه، قائلًا: “قيدوني في الممر بيد مريض ملقى على الأرض، استشعرت بردوة يده المكبلة مع يدي حين تحركت ثم أدركت بعد انتظار طويل في الممر أنني مقيد إلى جثة معتقل مفارق للحياة، فهو لم يتحرك ولم يتنفس ولم يئن ويده ثقيلة شديدة البرودة والبياض، حين أفزعتني الفكرة وشددت يدي كردة فعل خائفة ومذهولة من المشهد أدركت أن جثة المعتقل هذا مربوطة إلى جثث أخرى لم أجرؤ على رفع الغطاء الموجود على عيني لأعرف عددها، فالممرضات والممرضون والأطباء كانوا قريبين جدًا من ممر الجثث ذاك”.
ويضيف “دقات قلبي كانت أسرع من كلمات دعائي ورجائي بالخروج من ذاك الجحيم، وبعد ساعة أخرى من الانتظار في ممر الجثث جاء السجان فك قيدي وضربني هو وزملاؤه من مستخدمين وممرضين وأطباء، صعدت إلى السيارة وعدت إلى السجن، حين أغلق باب الزنزانة الجماعية الرابعة بعد دخولي إليها شعرت بأن جحيم الزنزانة هذا أكثر رحمة من مكان يسمى مشفى وهو في الحقيقة مسلخ يتجاوز في بشاعته وبآلاف المراحل غرف الإعدام الجماعية التي أحرق فيها هتلر اليهود”.
في النهاية، جاءت محاكمة الطبيب المجرم علاء موسى لتوحي أن هناك جزءًا من عدالة ربما ينالها المجرم يومًا ما على هذه الأرض، وإن كان السوريون يفضلون أن تكون المحاكمات بأيديهم وعلى أرضهم، لكن يكفي أن تنطلق هذه المحاكمات بحق من أجرم بحقهم وعمل على قتلهم وترويعهم من كل أطياف المجتمع، عسكريين ومدنيين وأطباء، منتظرين العدالة الكبرى التي ستكون بمحاسبة طبيب الإجرام الاكبر في هذا الزمن ألا وهو بشار الأسد.