إحدى أبرز النقاط اللَّافتة في خطابات السيسي، هي شعوره الدائم، والذي ينقله إلى معاونيه كذلك، بالعجلة وضرورة التحرُّك في أسرع الوقت. في هذا السياق، اشتهرت بين المواطنين وعلى مواقع التواصل الاجتماعي عبارة تكثِّف هذه الحالة، حيث يقترحُ كامل الوزير، ذراعه اليمنى في الأمور الميدانية، على السيسي تنفيذ أحد المشاريع، بعد اختصار المدة الزمنية، خلال عدة أعوام، ولكن السيسي يباغته: “سنة واحدة يا كامل”.
لم يقتصر هذا النمط من التوجيهات على الخطاب الصادر من السيسي إلى كامل باعتبار الطرفَين أبناء للمؤسسة العسكريّة، يشتركان في الخلفية والفكر وطريقة العمل، وإنما هو، باستقراءٍ منهجي لخطابات السيسي، خطٌّ مطّرد في توجيهاته إلى كلّ مرؤوسيه، خاصة تلك الصادرة على الهواء أمام الرأي العام.
أحدُ التفسيرات المطروحة بداهةً للإجابة عن هذا التساؤل، أنّ هناك شعورًا لدى صانع القرار المصري، بضرورة التحرك السريع في كل المحاور والقطاعات والاتجاهات الاستراتيجية، لتعويض “التأخُّر” الذي أصاب هيكل الدولة خلال الأعوام السابقة، وهو ما يشير إليه السيسي نفسه في تبرير ذلك التوجُّه.
ولكن التجربة خلال الأعوام السبعة الأخيرة، أثبتت قطعيًّا، بما لا يدع مجالًا للشكّ، أن كثيرًا من القرارات والخطط التي تحمّسَ لها النظام المصري، على المستوى القومي، إمّا أنه لم يستطع إكمالها، وإمّا أنه نجح في إكمالها بتكلفة هائلة، دون عوائد حقيقية.. فلمَ يصرّ السيسي على تلك السياسة إلى الآن؟
قناة السويس الجديدة
في منتصف عام 2014، صعد السيسي رسميًّا إلى حكم مصر، بعد أن حكمَ البلاد بالمناصفة مع الرئيس مرسي خلال عام 2012، حيث كان يقبع مرسي في القصر رئيسًا شكليًّا، فيما يدير السيسي الأمور جزئيًّا من مقرّ الأمانة العامة لوزارة الدفاع، ثم لمدة عام كليًّا من وراء الستار، حينما كان يجلس في الاتحادية المستشار عدلي منصور، بعد الإطاحة بمرسي.
على الفور، أعلن السيسي نيّته تدشين مشروع قومي في الاتجاه الشرقي في نطاق قناة السويس؛ شق قناة جديدة بطول 35 كيلومترًا حصل على تمويلها من الاكتتاب الشعبي الذي مكّنه من الحصول على 8 مليارات دولار، بسعر تلك الفترة، من ودائع المصريين في البنوك.
لم يكن للمصريين في ذلك التوقيت خبرة بطرق السيسي في التفكير والإدارة، ولم يتوقّع أحد أن يكون المهم في ذلك المشروع هو “إنجازه في أسرع وقت، بعام واحد”، بغضّ النظر عن العوائد المرجوة للمشروع؛ فتحمَّسوا لدعم النظام الجديد سياسيًّا، خاصة أن هناك “فوائد” بنكية منتظرة من خلال تلك الطريقة في التمويل.
بعد 6 أعوام من تنفيذ ذلك المشروع الذي قيل وقتها إنه سيساهم في زيادة عوائد القناة تدريجيًّا، بحيث تصل إلى 100 مليار دولار، فإنه لم يحقِّق أي زيادة ملحوظة في عوائد القناة التي تتراوح على الدوام بين 5 إلى 6 مليارات دولار سنويًّا منذ حقبة مبارك، كما فقدت تلك الفوائد التي أمَّلَ فيها المواطنين جزءًا كبيرًا من قيمتها بعد قرار التعويم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016.
بعض الوزراء والمسؤولين المعنيين بالأمر أكّدوا أنهم لم يكونوا على علم مسبق بتفاصيل ذلك المشروع قبل طرحه، وبعضهم أشار ضمنًا إلى عواقبه الكارثية على السياسات المالية للدولة، مثل هشام رامز محافظ البنك المركزي المصري السابق، أي أن المشروع كان بلا دراسة حقيقية فعلًا، دون افتراء من خصوم السيسي.
مشاريع قطاع الكهرباء
المفترض أن السيسي عندما تسلّمَ السلطة رسميًّا كانت هناك مشكلة كبيرة في القدرة على توليد الطاقة الكهربائية اللازمة لمباشرة المواطنين مهامهم، ووفقًا لمسؤولين سابقين فإن سبب تلك المشكلة كان إلى جانب العجز عن تدبير الوقود اللازم للمحطات الموجودة لأسباب مالية، هو الحاجة إلى تدفقات كهربائية جديدة للشبكة القومية، على هيئة محطات جديدة.
لجأ السيسي إلى ألمانيا ممثَّلة في شركة “سيمنز” لكي تبني له عددًا من المحطات العملاقة، بالتوازي مع تدبير الوقود اللازم للمحطات القديمة بعد التحرير التدريجي لسعر الوقود والاستعانة بشحناتٍ عاجلة من الحلفاء الخليجيين، على رأسها محطات البرلس وبني سويف والعاصمة الجديدة.
بطبيعة الحال، موَّلَ السيسي تلك المحطات الطاقوية الجديدة عبر قروض بمليارات الدولارات، نظرًا إلى عدم وجود أي مخصّصات مالية وطنية لهذه المشاريع، وبالفعل تمكّن من حلِّ مشكلة انقطاع الكهرباء، ولكن اللافت أن الشبكة القومية بات لديها فائض يفوق 10 آلاف ميغاواط، وتتحدث بعض التصريحات والتقارير عن 15 ألف ميغاواط، ما يعني أن تلك المحطات كانت أكثر من حاجة الدولة المصرية.
في وقت لاحق، وبسبب ذلك الوضع، قالت تقارير اقتصادية محلية إن هناك مساعي لتأجير تلك المحطات لشركاء أجانب بالتعاون مع الصندوق السيادي، وأن هناك مفاوضات مع أوروبا لإتمام الربط الكهربائي وتصدير الطاقة بأسعار رخيصة، في ظلّ هذا الفائض الضخم الذي يفوق حاجة الدولة المصرية، مواطنين ومؤسسات وصناعة وطنية.
رغم ذلك، لم يتراجع السيسي عن مشروع تدشين محطة للطاقة النووية شمال غرب البلاد بالتعاون مع روسيا، لتوليد طاقة إجمالية حوالي 5 آلاف ميغاواط، بقروض تصل قيمتها إلى 20 مليار دولار أمريكي.. فكيف يمكن الجمع بين تلك المشاريع المتناقضة؟
ديوان الحكومة
تمتدُّ سياسة التعجُّل والمشاريع غير المدروسة إلى حقل الإداريات الحكومية، فمعظم المشاريع القومية الجارية في مصر حاليًّا تتمُّ بالأمر المباشر؛ متوالية تبدأ من تعاون المقاولين مع الجيش وحصولهم على قروض من البنوك لتنفيذ تلك المشاريع، وعلى رأسها العاصمة الإداريَّة وشلّال المدن الجديدة.
في عام 2020، أصدرَ السيسي حزمة قرارات تتعلق بالنشاط العقاري في البلاد، جميعها مرتبطة ببعضها وفي وقت واحد تقريبًا، ومعظمها افتقدَ إلى الوجاهة الاقتصادية واتُّهم بالعوار الدستوري وعدم القانونية.
تلك القرارات على التوالي هي: منع البناء الأهلي في معظم أنحاء الجمهورية، ثم فتح ملف التصالح على مخالفات البناء التي وقعت خلال الأعوام السابقة بتواطؤ بين المجتمع والجهاز الحكومي المحلي، ثم إجبار المواطنين على تسجيل تلك العقارات، التي دفعوا ضريبة التصالح عليها، في الشهر العقاري، وذلك خوفًا من سلبها صفة القانونيّة التي تتيح للمالك التصرُّف في العقار وترفيقه.
ما يهمنا هنا أن تلك القرارات صدرَت بشكل متزامن وسريع للغاية، في خضمّ أزمة كورونا التي عطّلت الاقتصاد، وهو ما فاقَ قدرة المجتمع على التحمُّل، وأدى إلى اندلاع مظاهرات استثنائية في القرى والريف، فكيف يفكّر السيسي حينما يتّخذ تلك القرارات وغيرها؟ وما هي العوامل التي تؤخذ في الاعتبار؟
أسباب بعيدة عن المصلحة العامة
ما سبق هي مجرد أمثلة، تشي بشكل رئيسي أن هناك منهجًا عامًّا وإرادة مبطنة لإنجاز شيء ما، على وجه السرعة، بغضّ النظر عن المصلحة العامة. هناك اعتبارات تحكم توجُّهات السيسي، ولكن تلك الاعتبارات ليست، كما ينبغي، لتحقيق أفضل شكل ممكن من الإدارة والحوْكمة لموارد المجتمع.
ما يمكن استشفافُه من تلك العجلة أن السيسي وفريقه يدركون أن المجتمع المصري، بكافة مكوّناته وقطاعاته، يعاني من آثار صدمة بالمعنى الواسع الخارج عن نطاق الشخصنة والفردية، ومن ثم إن هناك إرادة لدى صانع القرار بأن يُنجز كل ما يريد إنجازه، لتثبيت أركان حكمه، وتفادي أي هبّة جديدة من الجماهير، إذا نجحت في التعافي سريعًا.
يكشف السيسي بوضوح في كل خطاب عن وعي شديد لدى صانع القرار بخطورة تكرار ما حدث في يناير/ كانون الثاني 2011، ومن ثم إنه، من ضمن ما يهدف، يحاول أن يسابق الزمن، خوفًا من مرور المجتمع بمساره الطبيعي في التعافي من صدمة أحداث يوليو/ تموز 2013 وما تلاها، ما يعني أيضًا أن هناك سباقًا مضمرًا بين صانع القرار المصري الحالي والمجتمع، يحاول خلاله السيسي تثبيط تعافي المجتمع لحين إنجاز مشروعه الشخصي والسياسي لتكريس الاستبداد الدائم.
لذلك، كان من أول ما حرص عليه السيسي بعد انقلاب 2013، هو تشكيل قطاع عسكري خاص بمكافحة التمرد الشعبي واسع النطاق، أطلق عليه “قوات التدخل السريع”. كما أن لكلّ مشاريعه جانبًا أمنيًّا معتبرًا يمكن رؤيته بجلاء في مشاريع إخراج السجون والمقرّات الشرطية والحكومية الكبرى خارج الكتلة السكانية التقليدية، كأحد الدروس المستفادة من درس ثورة يناير.
على الصعيد الاقتصادي، يمكن عزو معظم توجُّهات السيسي المتسارعة في مجال المال والموارد إلى تعزيز سيطرة الجيش، في الوقت نفسه الذي يقوم فيه بحصر ورصد كل الأصول المملوكة لدى المجتمع، من خلال خطة التحول الرقمي والشمول المالي وإعادة تسجيل العقارات والخدمات الحكومية مسبقة الدفع، وإعادة رصد حجم الذهب الموجود لدى المواطنين، ما يعني أنه، حال نجاح تلك الخطة قبل أن يتعافى المجتمع، سنصبح أمام معادلة ثابتة نوعًا ما، مفادها أن الدولة رفعت أيديها رسميًّا عن كل مجالات الدعم، وأعادَتِ استخدام التكنولوجيا لأغراض سياسية.
وضع السيسي قواعد حكم قابل للتوريث، من خلال الخطاب الهجومي على المجتمع دائمًا الذي يحمِّل المواطنين مسؤولية كل المشكلات.
في علاقته مع الجيش، كان من الواضح أن هناك نوايا مبكِّرة لدى السيسي لـ”دمج” المؤسسة العسكرية في مشروعه الشخصي، وهو ما يفسِّر الاستعانة بالجيش في بعض الوقائع الميدانية للتعامل مع المتظاهرين خلال الفترة التي تلت الانقلاب العسكري مباشرة، رغم عدم الحاجة التقنية إلى ذلك.
كذلك إشراك الجيش في الإشراف على مشاريع المقاولات بداية من قناة السويس الجديدة، بحيث تصبح المعادلة أن أقصى ما يخشى حدوثه من جانب الجيش إزاء السيسي هو انشقاقٌ فرديٌّ قيادي من شخص أو آخر، كما حدث من قنصوة وعنان وشفيق، وذلك بالنظر إلى أن المؤسسة بنيويًّا صارت جزءًا من خطة الرئيس، في المغانم والأرباح والمغارم والمجازر وقرارات التنازُل عن الثروات الحدودية من جزر وأراضٍ وهيدروكربون.
في ضوء ذلك أيضًا، يمكن فهم قرارات السيسي الدورية المتعلقة بتدوير القيادات العسكريَّة على المناصب الكبرى، دونما استقرار، ما يحول من تشكُّل أي طموحات شخصية تهدِّد طموحات الرئيس خلال تلك الفترة.
فالمؤسسة نفسها قاعديًّا منخرطةٌ في كل خطة الرئيس لإعادة صياغة علاقة الدولة بالمجتمع على نحو رأسمالي، مستفيدة من الامتيازات الخاصة بإشرافها على المشاريع القومية التي تجاوزت قيمتها 6 تريليونات جنيه.
ولكن ذلك لا يمنع من تمدُّد طموح أي قيادي فيها ضد هيمنة شخص السيسي على مقاليد الأمور مستغلًّا غضب المجتمع، وهو ما يوجب على السيسي الحرص من الطموحات الشخصية للقيادات، بعد أن تمكّن من ضمان ولاء المؤسسة نفسها عبر خطواته المتسارعة في إشراكها في الاقتصاد والحكم المحلي والقمع خلال الأعوام الأخيرة.
وفقًا لتلك المعادلة، مؤسسة منخرطةٌ للنُّخاع في الاستراتيجية الشخصية لقائد محسوب عليها، يعمل في الوقت نفسه على تأمين نفسه من أي تهديد محتمَل من أقرانه القيادات من ذوي الطموح، من المتوقع ألا يخرج الحكم مستقبلًا، بعد رحيل السيسي لأي سبب، عن المؤسسة العسكرية أبدًا.
يمكن فهم هرولة السيسي لإثقال كاهل الموازنة المصرية بالديون الأجنبية خلال وقت قياسي بشكل غير مسبوق في التاريخ المصري الحديث، فالديونُ الأجنبية تجعل لتلك الكيانات الخارجية مصلحة اقتصادية في بقاء المنظومة الحالية.
فقد وضع السيسي قواعد حكم قابل للتوريث، من خلال الخطاب الهجومي على المجتمع دائمًا الذي يحمِّل المواطنين مسؤولية كل المشكلات، والمدن الجديدة شديدة التحصين بعيدًا عن جحافل الفقراء، والاستراتيجية المالية مفروضة بقوة التكنولوجيا لتحصيل الضرائب، وانغماس الجيش في الحكم المحلي والاقتصاد.
بالتالي، لن يكون على الحاكم القادم، بعد السيسي، إلا أن يفعل تمامًا كما يفعل السيسي حاليًّا، مستفيدًا من البنى الاستبدادية التي أسّسها الجنرال، وبموجب الدستور والأمر الواقع فإنه لن يخرج عن المؤسسة العسكرية، ولكن الجدل: هل سنكون أمام حكم عائلي عسكري، أم أن السيسي سيرضى أن يورّث أحدًا غير “محمود” تلك التركة المغرية؟
في السياق نفسه، يمكن فهم هرولة السيسي لإثقال كاهل الموازنة المصرية بالديون الأجنبية خلال وقت قياسي، بشكل غير مسبوق في التاريخ المصري الحديث منذ عهد الخديوي إسماعيل، فالديون الأجنبية تجعل لتلك الكيانات الخارجية مصلحة اقتصادية في بقاء تلك المنظومة الحالية، خوفًا من مجيء أي نظام طبيعي يتنصّل من تلك الالتزامات لعدم قانونيتها في ظلّ الحكم العسكري بعد الانقلاب، أو لعدم القدرة على السداد؛ أما السيسي، فيتعهّدُ لهم بالسداد، بمزيد من الاستدانة، حلقة مفرغة من ربط المصلحة السياسية للنظام بالخارج لضمان بقائه.
ما يؤكّد أن السيسي يضمر تلك المعادلة من الاقتصاد السياسي، أنه حريصٌ على توزيع النفوذ الاقتصادي الأجنبي في الداخل المصري وفقًا لمحاصصة معيّنة: فللألمان ديونهم في مجال البحرية العسكرية (الغواصات) ومحطات الطاقة الكهربائية والنقل الذكي (القطار فائق السرعة)، وللصينيين قروضهم في العاصمة الجديدة، وللروس أموالهم في المحطة النووية، وللفرنسيين نفوذهم في الصفقات العسكرية الجوية، وللأمريكيين والإيطاليين نصيبهم في مجال استثمارات الطاقة.
في الذكرى الـ 11 لثورة يناير، لا شكّ أن واجب الوقت أمام كل مهتم بالشأن المصري، بعد المطالب العاجلة كتحسين أوضاع المعتقلين والمختفين قسريًّا والضغط من أجل تقليص الديون والسياسات المتسرِّعة؛ هو البحث عن صيغة سياسية واجتماعية سريعة توقف سياسات تغيير الديموغرافيا المصرية، وتكريس وضع استبدادي سيصعب إزاحته مع مرور الوقت، بل ربما قد يكون مستحيلًا.