استأنفت اللجنة الثلاثية تحقيقاتها في قضية فصيل فرقة السلطان سليمان شاه التي يتزعّمها محمد الجاسم “أبو عمشة”، بعد توقُّف دام لأيام بسبب امتناع الأخير، وبشكل مؤقّت، عن تسليم أشخاص مطلوبين للجنة التي أسّستها غرفة القيادة الموحّدة “عزم” أواخر العام الماضي 2021، للنظر في انتهاكات وجرائم نُسبَت إلى قادة وعناصر في الفصيل الذي يتمركز في ناحية الشيخ حديد في ريف عفرين.
تطورات القضية
مرّت قضية فصيل أبو عمشة بعدة مراحل منذ أثيرت قبل شهرَين تقريبًا، ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 حاولت “عزم” عبر “اللجنة المشتركة لردّ الحقوق” التابعة لها، أن تحقق في عدد قليل من الشكاوى المقدَّمة ضد عدد من قادة الصف الأول في الفصيل، لكن قيادة الأخير رفضت التعاون وماطلت كثيرًا، ما دفعَ “عزم” للتصعيد وحشد قواتها والتهديد باقتحام الشيخ حديد واعتقال المطلوبين للقضاء بالقوة.
ومع ديسمبر/ كانون الأول 2021 زاد الضغط على أبو عمشة، واقترح قادة في “حركة ثائرون”، وهي إحدى مكونات “عزم”، وعدد من المشايخ في المجلس الإسلامي السوري، تشكيل لجنة ثلاثية للتحقيق في القضية، وقَبِلَ أبو عمشة العرض، وبدا أنه كان يحاول شراء الوقت وسعى للمناورة بهدف الالتفاف على القضية وعقد مصالحة ما مع “عزم”.
ولكن يبدو أن مساعي أبو عمشة قد فشلت، وبدت محاولته أشبه بورطة بعد أن تكشّفت العديد من التُّهم وأقبل المزيد من المشتكين لتقديم شكاواهم، وهنا زاد إصرار “عزم” على متابعة القضية وتمسُّكها أكثر باللجنة الثلاثية، وتشدُّدها في مسألة تطبيق كل ما يصدر عن اللجنة من تسليم أشخاص مطلوبين وشهود من داخل صفوف الفصيل.
قال أبو أحمد منغ، أحد قادة “عزم”، في تيليغرام إن “جهات عديدة بذلت جهودًا لإنقاذ أبو عمشة من قبضة العدالة وطيّ ملفّه عبر الامتناع عن تسليم المطلوبين وعرقلة عمل اللجنة، لكن غرفة القيادة الموحدة قابلت كعادتها هذه الجهود بحزم وبموقف صلب ثابت، فما كان من داعمي العمشات إلا التراجع خطوة للخلف، ونتيجة لهذا الحزم سلّمت فرقة العمشات بقية المطلوبين واستأنفت اللجنة عملها”.
وجاء بيان الناطق باسم “عزم”، الرائد يوسف حمود، ليؤكِّد صرامة الموقف اتجاه القضية، حيث قال إن “عزم ملتزمة بتنفيذ القرارات الصادرة عن اللجنة الثلاثية المشكّلة للنظر في القضايا المتعلقة بفرقة السلطان سليمان شاه”. كما أشار حمود في بيان نُشر في 17 يناير/ كانون الثاني، أنّ “اللجنة استأنفت عملها وتحقيقاتها في القضية للوصول إلى القرار النهائي، وغرفة القيادة الموحَّدة منذ تأسيسها حملَت على عاتقها الحفاظ على المناطق المحررة وأمنها”.
وصعّدت “عزم” عسكريًّا في محيط الشيخ حديد في ريف عفرين بداية العام الحالي 2022، ودفع التصعيد والتهديد المباشر إلى إجبار أبو عمشة على تسليم قائمة جديدة من المطلوبين للجنة.
الشيباني: “بخصوص التجاوب تحدثُ أحيانًا عرقلات، بعضها متعلق بترتيبات روتينية بحكم أن اللجنة استثنائية طارئة”.
وقال الناطق الرسمي باسم “اللجنة المشتركة لردّ الحقوق” في منطقة عفرين، وسام قسوم، في حديث لـ”نون بوست” إن “اللجنة الثلاثية تواصل استجواب عدد من المطلوبين، وتستمع إلى الشهادات، وتمَّ استدعاء عدة شخصيات عسكرية تابعة لفصيل سليمان شاه”. وأضاف قسوم أن “اللجنة الثلاثية لها كامل الصلاحيات، ولها الحق في أن تستجوب أي عنصر أو قيادي في الفصيل، وفي حال عدم التجاوب معها، فإنها ستتّخذُ الإجراء الذي تراه مناسبًا”.
وتضمُّ اللجنة الثلاثية كلًّا من الشيخ عبد العليم عبد الله، والشيخ أحمد علوان، والشيخ موفق العمر، وهم أعضاء في المجلس الإسلامي السوري، وأكّد قسوم أن “اللجنة المشتركة لردّ الحقوق” تتابع عمل اللجنة الثلاثية، وعلى تواصل مستمر معها، وتدعم قراراتها.
ويضيف قسوم: “لا توجد رغبة عند أحد بإراقة الدماء وحصول أي اقتتال، لكن لا بدَّ من تنفيذ قرار اللجنة عند صدوره، وهذا ما تعهّدت به “عزم”، وعلى فصيل أبو عمشة الالتزام بقرارات اللجنة”.
وقال مدير العلاقات العامة في “عزم”، عبد الله الشيباني، في حديث لـ”نون بوست” إن “قيادة “عزم” في اجتماعها الأخير قد جدّدت الإصرار والتأكيد على دعمها الكامل لقرارات اللجنة، علمًا أن فصيل أبو عمشة يتبع لـ”حركة ثائرون”، وهي مكون أساسي في القيادة الموحدة “عزم”، والجميع ملتزم بما سيصدر عن اللجنة من قرارات”.
أضاف الشيباني: “بخصوص التجاوب تحدثُ أحيانًا عرقلات، بعضها متعلق بترتيبات روتينية بحكم أن اللجنة استثنائية طارئة، وهذه الترتيبات مثل موضوع استدعاء مخاتير المنطقة يحصل خلاف حولها، ما يؤدي إلى عرقلة عمل اللجنة لحين إيجاد صيغة تفاهم، وبعض العراقيل يعود إلى غياب بعض المتّهمين أو تواريهم عن الأنظار، وبالعموم اللجنة مستمرة ولعلّها تعلن عن نتائج تحقيقاتها خلال الأيام القليلة القادمة”.
الهيئة تتابع عن قرب
ترى هيئة تحرير الشام نفسها معنية بما يجري في الشمال الحلبي، وتراقب عن قرب تطورات قضية فصيل أبو عمشة الذي ينتشر في ناحية الشيخ حديد، المتاخمة لمناطق سيطرتها شمالي إدلب، وبين قادتها وأبو عمشة قنوات اتصال ولقاءات دورية، كما كان لباقي الفصائل في الجيش الوطني، بما فيهم “عزم”، علاقات واتصال مباشر مع تحرير الشام ومسؤوليها في دائرة العلاقات العامة.
اهتمام تحرير الشام بقضية فصيل أبو عمشة مؤخرًا أثار المخاوف والكثير من التساؤلات، حول المكاسب التي من الممكن أن تسعى إلى تحقيقها مستغلّة التوتر الذي يلفُّ القضية، وهل لديها رغبة فعلية بالتمدد نحو المنطقة، على الأقل إلى معقل أبو عمشة، بحجّة منع الاقتتال الداخلي، ولربما تنفيذًا لاتفاقية دفاعية بينهما ستسهّل لها وضع القدم الأولى في المنطقة التي ستكون غالبًا مفتاحًا لتمدُّدها نحو باقي المناطق (درع الفرات وغصن الزيتون)، وهو هدف كبير لطالما لمّح إليه قادة بارزون في تحرير الشام خلال عام 2021، والمبررات أنهم الأجدر بإدارة كامل “المنطقة المحررة” شمال غربي سوريا.
استنفرت تحرير الشام قواتها على تخوم منطقة عفرين في منتصف يناير/ كانون الثاني الحالي، أي بالتزامن مع تصاعُد التوتر في محيط الشيخ حديد بسبب مماطلة أبو عمشة بتسليم المطلوبين للجنة، وهنا راحَ جهاديون مناهضون لتحرير الشام ومنشقّون سابقون عنها يفصّلون في غايات وأهداف تحرير الشام من الاستنفار والحشد العسكري، حيث بعضهم يرى أنها تهدف إلى تغذية التوتر، وآخرين يرون أنها لتقوية موقف أبو عمشة في مواجهة “عزم”، وفريق ثالث يرى أن الحشود مقدَّمة توغُّل عسكري في المنطقة.
المنشق السابق عن تحرير الشام، علي العرجاني، قال في تيليغرام: “الذين يظنّون أن تركيا تحميهم أو ستمنع الهيئة من التحرك عسكريًّا إلى ريف عفرين، أقول لهم أنتم لا تتعلمون من الدروس السابقة، هل تركيا منعت الهيئة من السيطرة على إدلب ومعبر باب الهوى؟”.
أما الشيخ ماجد الراشد، وهو أحد السلفيين المناهضين لتحرير الشام، قال في تيليغرام: “الاستنفار العسكري والحشود لتحرير الشام هي رسالة لأبي عمشة ليقوّي موقفه في المفاوضات مع “عزم”، ومحاولة أيضًا لاستقطابه وضمّه الى صفوف تحرير الشام”.
أكثر ما أغاظَ المناهضين لتحرير الشام تصريحات مدير العلاقات فيها، جهاد عيسى الشيخ، على تويتر، والتي دعا فيها الفصائل إلى الحذر من الانجرار خلف اقتتال داخلي بحجّة محاربة الفساد، ودعا إلى رصّ الصفوف والحفاظ على الهدوء الداخلي، وسخرية المناهضين لتحرير الشام هنا تبدو مبرَّرة، فالشيخ أحد قادة تحرير الشام المتورِّطين في الحشد ضد الفصائل التي قضت عليها تحرير الشام خلال السنوات الماضية بمبررات مختلفة.
في حال تعنّتَ أبو عمشة ورفضَ تطبيق قرارات اللجنة النهائية، وقرّر خوض المواجهة ضد “عزم” التي ستلجأ غالبًا للقوة، فإن تحرير الشام ستكون أمام فرصة ذهبية للتدخُّل.
الباحث في الشأن السوري محمد السكري، يرى أن “جدّية عزم اتجاه قضية فصيل أبو عمشة ستجبره للبحث عن خيارات، والتي ربما من بينها تحرير الشام، ولكن مع ذلك محاكمة أبو عمشة مرتبطة بشكل أساسي بما ستقوله تركيا في هذا الإطار”.
أضاف السكري خلال حديثه لموقع “نون بوست” أن “عزم تسعى جاهدة لإظهار صورة مغايرة عن الفصائل السورية المعارضة، خاصةً نموذج أبو عمشة الذي يُعتبر نقطة سوداء في تاريخ صراع المعارضة المسلحة، بالتالي من الوارد أن تبدأ عمليات الإصلاح وإعادة الثقة للقضاء من خلال هذه المحاكمة، ولكن حظوظ الاستكمال وصولًا للقرار تبقى مرتبطة بعدّة ملفات من بينها الاستجابة من قبل الفصيل، والموافقة التركية”.
يضيف: “لا أعتقد أن تحرير الشام من حيث الحسابات السياسية، في حال كانت جادة في تركيزها على حاضنتها الشعبية، ستعقد تحالفًا مع قوة متَّهمة بالفساد وملاحقة قضائيًّا بقضايا فساد وسرقة، ولكن في حال كان لها مطامع في إطار تعزيز الحلفاء ووضع موطئ قدم في مناطق المعارضة المعتدلة، فمن الوارد حدوث مثل هذه النوعية من التفاهمات ما لم يكن هناك فيتو تركي حول الأمر، وإلا ذلك سيضعها في موقف محرج للغاية هي بغنى عنه في مرحلة تصفير المشاكل وإعادة تصدير نفسها“.
التوغُّل المفترض لتحرير الشام في منطقة عفرين لصالح فصيل أبو عمشة قد يحقق لها مكاسب عديدة، أهمها الوصول إلى معبر الحمام الحدودي مع تركيا، وهو منفذ تجاري مهم يتيح لها تخفيف الضغط عن معبر باب الهوى الواقع تحت سيطرتها شمال إدلب.
كما يحقق التوغُّل تمدُّدًا بريًّا بالتدريج في ريف حلب وصولًا إلى الجبهات مع قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وهو ما سيمكّنها لاحقًا من افتتاح معبر تجاري معها يضمن لها تدفُّق المحروقات، وبالعكس التصدير إلى مناطق شمال شرقي سوريا، وتتخلّص تحرير الشام بذلك من هيمنة “عزم” على المعابر مع “قسد”.
لا يزال هناك وقت للمناورة والعمل على تحقيق الأهداف المفترضة بالنسبة إلى تحرير الشام، فالقضية حتى الآن لم تنتهِ رغم الحديث عن اقتراب حسمها، ففي حال تعنّتَ أبو عمشة ورفضَ تطبيق قرارات اللجنة النهائية، وقرّرَ خوض المواجهة ضد “عزم” التي ستلجأ غالبًا للقوة، فإن تحرير الشام ستكون أمام فرصة ذهبية للتدخُّل.
وتجدر الإشارة إلى أن هيئة تحرير الشام ليست مضطرة للدخول مع فريق ضدّ آخر، حيث لديها ذريعة منع القتال الداخلي وحقن الدماء، وهي شعارات لطالما ردّدها قادتها ومنظّروها مؤخرًا، بعد أن نالوا الهيمنة الكاملة على إدلب ومحيطها بعد مسلسل دامٍ من الحرب على الفصائل المنافسة.