لم تفض الضغوطات الغربية على روسيا بشأن أوكرانيا إلى نتيجة حتى الآن، فموسكو تحاول إعادة صورة الإمبراطورية الروسية إلى سابق عهدها، ومن أجل ذلك تعمل على تعزيز قدرتها العسكرية وإبراز نفوذها الجغرافي حول العالم، وليس آخر تلك المظاهر تدخلها السريع في كازاخستان إثر الاضطرابات التي حصلت هناك.
وفي الأثناء، تتوافد القوات الروسية للاحتشاد على الحدود، فقد حذرت كييف من أن موسكو حشدت قوات بالقرب من الحدود يمكن استخدامها لشن هجوم على البلاد، كما قالت تقارير استخباراتية لوزارة الدفاع الأوكرانية إن روسيا حشدت حتى الآن أكثر من 127 ألف جندي على الحدود، وترى وزارة الدفاع أن “روسيا تحاول تقسيم وإضعاف الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والحد من قدرات الولايات المتحدة لضمان الأمن في القارة الأوروبية”.
تحركات غربية
ما زالت التحركات الغربية جارية من أجل إبعاد سيناريو الغزو الروسي لأوكرانيا، ولعل أحدث التحركات اللقاء الذي جرى بين وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن والروسي سيرغي لافروف، إذ أعلن لافروف أن واشنطن “وعدت بتقديم رد خطي على مطالب بلاده بسحب قوات حلف شمال الأطلسي من أوروبا الشرقية”، من جهته، أكد بلينكن أنه طلب من روسيا سحب قواتها من الحدود مع أوكرانيا، مشددًا على أن واشنطن سترد على “أي هجوم روسي حتى لو لم يكن عسكريًا”.
مشيرًا إلى أن الحوار مع موسكو سيتواصل، لكنه طلب من روسيا إثبات أنها لا تخطط لغزو أوكرانيا، ولم يستبعد بلينكن فكرة عقد قمة بين بايدن وبوتين حال إحراز تقدم بشأن أوكرانيا، لكن الطرفين اعتبرا أن من السابق لأوانه عقد قمة جديدة الآن.
ويتوقع الرئيس الأمريكي جو بايدن أن تتدخل روسيا في أوكرانيا وقال إنها ستدفع ثمنًا باهظًا إذا أقدمت على ذلك، لكن موسكو ردت على بايدن من خلال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف الذي قال إن بلاده تتلقى تحذيرات مماثلة منذ شهر على الأقل”، وأضاف “نعتقد أنهم لا يسهمون بأي شكل من الأشكال في نزع فتيل التوتر الذي نشأ الآن في أوروبا، بل يمكن أن يساهموا في زعزعة استقرار الوضع”.
قبل لقاء لافروف بلينكن، سعى الأخير لطمأنة كييف بوقوف واشنطن إلى جانبها بوجه التهديدات الروسية، فقد هدد موسكو بعواقب خطيرة إذا غزت أوكرانيا، في حين قالت موسكو إنها لا تنوي تغيير وضع قواتها قرب الحدود مع أوكرانيا، داعية واشنطن للتخلي عن خطط إرسال الأسلحة لكييف.
وفي مؤتمر صحفي عقده الوزير الأمريكي مع نظيره الأوكراني دميترو كوليبا، اتهم بلينكن روسيا “بالسعي لتقويض الديمقراطية في أوكرانيا”، مشددًا على أن “واشنطن ستواصل جهودها الدبلوماسية لمنع أي عدوان روسي ضد أوكرانيا”.
تأتي هذه التحركات الأمريكية بالتوازي مع استنفار بريطاني، فقد حذرت بريطانيا بوتين ونظيره الصيني شي جين بينغ من أن الغرب سيقف صفًا واحدًا دفاعًا عن الديمقراطية أمام الديكتاتورية التي ترى أنها باتت أكثر سفورًا من أي وقت منذ الحرب الباردة، وقال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون: “إذا شنت روسيا أي هجوم على أوكرانيا مهما كان حجمه، فسيكون كارثيًا ليس على روسيا فحسب بل على العالم أيضًا”.
بدورها أكدت وزيرة الخارجية البريطانية، وقوف بلادها إلى جانب أوكرانيا، مطالبةً روسيا بخفض التصعيد، وحذرت ليز تروس، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من غزو أوكرانيا، مؤكدةً أنه سيقود إلى سقوط عدد كبير من الضحايا.
من جهته قال وزير الدفاع البريطاني بن والاس، إن بلاده تزود أوكرانيا بنظام أمني جديد لمساعدتها على تعزيز قدراتها الدفاعية في مواجهة تصرفات تنطوي على تهديد من روسيا، وقال والاس أمام البرلمان: “اتخذنا قرارًا بتزويد أوكرانيا بأنظمة أسلحة دفاعية خفيفة مضادة للدروع”.
سيناريوهات التحرك
يبدو أن بوتين لا يلقي بالًا للتخوفات الغربية، فهو يريد إعادة أوكرانيا إلى الحظيرة الروسية، إما حربًا باجتياحها ودفع مخاوفه من الغرب وإما عبر التعهدات بعدم انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو” وأن لا تكون ساحة للغرب للاقتراب أكثر من روسيا والاستفادة من الثروات الموجودة في أوكرانيا، أما عن خيارات التعامل مع الأزمة فتذكر صحيفة “تليغراف” البريطانية خمسة سيناريوهات يمكن أن يفعلها الرئيس الروسي بحق أوكرانيا.
السيناريو الأول هو ضخ تعزيزات عسكرية لتطويق أوكرانيا من جهة بيلاروسيا، بالإضافة إلى نقل قوات إلى الجمهوريات الأوكرانية الانفصالية وهي “دونيتسك ولوهانسيك”، وبذلك يكون بوتين قد وضع ضغطًا إضافيًا على أوكرانيا وحلف الناتو من أجل اتفاق بشروط جيدة لموسكو، وفي ذات الوقت تكون موسكو استفادت من وضع القوات لتسهيل هجومها على أوكرانيا إذا لم يتم الاتفاق مستقبلًا، هذا السيناريو أسمته الصحيفة بـ”التخويف”.
وفي السياق، يشير مدير الأبحاث في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية ويليام ألبيرك إلى أن “الروس أعلنوا إجراء تدريبات ضخمة في بيلاروسيا من 9 إلى 20 فبراير/شباط، وهم في طور نقل شتى أنواع المعدات العسكرية وطائرات قتالية وصواريخ مضادة للطائرات”، ويستنتج ألبيرك أن “أوكرانيا ستكون محاطة بالكامل بنحو مئة مجموعة مسلحة قريبة من روسيا” من الشمال بيلاروسيا، من الجنوب وجود روسي في شبه جزيرة القرم الأوكرانية التي ضمتها روسيا في 2014، ومن الشرق دونباس حيث تدور حرب مع انفصاليين موالين لروسيا.
السيناريو الثاني الذي يمكن أن تتبعه موسكو، هو “الضربات العقابية”، وهنا يمكن أن يستخدم الجيش الروسي المدفعية بعيدة المدى والصواريخ وصواريخ كروز، بالإضافة إلى الضربات الجوية التي يمكن أن تقصف من بعيد دون رد أوكراني، هذه الضربات لن تلاقي ردًا لعدم وجود المضادات المناسبة لدى كييف، فمعظم أنظمة صواريخ الردع الجوي الموجودة بحوزة الجيش الأوكراني تعود إلى الحقبة السوفيتية حيث يمكنها أن تسقط بعض الطائرات الروسية في أثناء عمليات القصف، لكنها لا توفر إلا القليل من المظلة المضادة للصواريخ.
يذكر أن كييف أكثر من مرة ناشدت حلف الناتو من أجل توفير أنظمة باتريوت الأمريكية الحديثة، لكن دون جدوى، وهو ما يضع الموقف الغربي على المحك.
في حال لم تفلح الضربات العقابية سيكون لدى موسكو خيار “الجسر البري” وفيه تستولي روسيا على الطريق السريع الساحلي، الذي يمتد على طول ساحل بحر آزوف بين شبه جزيرة القرم والحدود الروسية، و”من شأن هذه الخطوة إلحاق هزيمة مؤلمة بأوكرانيا، وستكون محدودة بما يكفي للتوقف إذا تطلبت الظروف السياسية”.
لكن الجبهة الأوكرانية في هذا السيناريو ستكون أكثر تماسكًا، إذ يستطيع الجيش الأوكراني مواجهة التهديد الروسي لأن الجبهة ستكون ضيقة وبهذا يستطيعون إيقاع خسائر في صفوف جيش موسكو.
وفقًا للصحيفة البريطانية فإن أحد السيناريوهات قد يشهد “عبور التشكيلات الروسية للحدود الأوكرانية إلى منطقتي خاركيف ولوهانسك، وستضطر القوات الأوكرانية المتمركزة على خط المواجهة الحاليّ للاختيار بين البقاء بخنادقها لمنع انفصال الجمهوريات الانفصالية أو الانسحاب لتجنب الحصار والدمار شبه المؤكد”، الجدير بالذكر أن صحيفة بيلد الألمانية نشرت تسريبًا لما قالت إنه خطة روسية لغزو أوكرانيا.
وتقول الصحيفة الألمانية: “سيتم احتلال جنوب أوكرانيا من أجل تأمين الإمدادات لشبه جزيرة القرم وعزل أوكرانيا عن البحر، وبالتالي قطع الإمدادات”، بالإضافة إلى أن روسيا تخطط لاستخدام سفن الإنزال التي تم نقلها من بحر البلطيق إلى المنطقة في وقت سابق من عام 2021، بينها نقل الدبابات من شبه جزيرة القرم إلى المنطقة المحيطة بأوديسا، وتتوخى الخطط الروسية عملية إنزال برمائي شرقي أوديسا بين مدينتي فونتانكا وكوبلوفيه، على أن تتقدم القوات الروسية شمال شرق المدينة، ثم تلتف يسارًا وتتقدم إلى ترانسنيستريا، وهذا من شأنه أن يجعل أوديسا مطوقة.
أما السيناريو الأخير، فهو استهداف مقرات القيادة في العاصمة كييف، وإن كان هذا السيناريو صعبًا بسبب طبيعتها الجغرافية التي ستجعل من الصعب على القوات الروسية التعامل معها، إلا أن القوات القادمة من بيلاروسيا ستسهل المهمة، لكن بافيل باييف الخبير في معهد أوسلو لأبحاث السلام يقول: “القوات المحتشدة على طول الحدود مع أوكرانيا لا تكفي لغزو ضخم واحتلال البلاد”، مشيرًا إلى أنه “عندما غزا الاتحاد السوفييتي تشيكوسلوفاكيا عام 1968، أرسل على الأقل ضعف عدد القوات التي نشرتها روسيا على الحدود الأوكرانية”.
ويرجح باييف أن يأتي التصعيد على شكل ضربات جوية يكون الرد الأوكراني عليها ضعيفًا بسبب افتقار الدولة للدفاعات الجوية والطيران القوي.
تختلف السيناريوهات، لكن مراد موسكو واحد، إعادة أوكرانيا إلى بيت طاعتها وإزاحتها من معسكر الغرب والناتو، وستكون هذه المعركة بين المعسكرين لإثبات الوجود في هذه المنطقة، لكن إن لم تُقابل التهديدات الروسية بأفعال واضحة تترجم التصريحات الصادرة، فإن روسيا تكون قد فرضت كلمتها في هذه المنطقة لتنتقل المعركة إلى مناطق أخرى.