ترجمة وتحرير: نون بوست
يقول موشيه ديامانت، أحد الجنود الإسرائيليين السابقين، محاولا انتقاء كلماته بحذر: “لقد أبقوا الأمر سرا. لم يكن ينبغي إفشاء الحقيقة، لأنها قد تتسبب في فضيحة كاملة. لا أريد الحديث عن الأمر، لكنه حدث. ما الذي يمكن فعله؟ لقد حدث”.
مرت 22 سنة على الضجة التي أثارها الكشف عما حدث أثناء احتلال القوات الإسرائيلية قرية الطنطورة شمال قيسارية على ساحل البحر الأبيض المتوسط في حرب الاستقلال. اندلع الجدل في أعقاب أطروحة الماجستير التي كتبها طالب الدراسات العليا الإسرائيلي، ثيودور كاتس، والتي تضمنت شهادات حول الفظائع التي ارتكبها جنود لواء أليكساندروني ضد أسرى الحرب من العرب. أثارت الأطروحة ضجة كبيرة في أعقاب مقال نُشر في صحيفة “معاريف” بعنوان “مجزرة الطنطورة”. في نهاية المطاف، أدت دعوى التشهير التي رفعها قدامى المحاربين في اللواء ضد كاتس إلى التراجع عن روايته حول حدوث المجزرة.
على امتداد سنوات، بقية النتائج التي توصل إليها كاتس سرية، واتخذت مناقشة تلك الأحداث بعدا أكاديميا بحتا حتى الآن. في الوقت الراهن، بعد أن بلغوا سن التسعين أو أكثر، اعترف عدد من الجنود السابقين في لواء أليكساندروني بأن مذبحة حدثت بالفعل سنة 1948 في قرية الطنطورة، على شاطئ دوغ المتاخم حاليا لمستوطنة كيبوتس ناحشوليم.
يروي الجنود السابقون مشاهد مختلفة عن الأحداث، ولم يستطيعوا حصر عدد الفلسطينيين الذين قتلوا رميا بالرصاص، يُناهز عدد القتلى حسب شهاداتهم العشرات. حسب شهادة أدلى بها أحد سكان زخرون يعكوف، والذي ساعد في دفن الضحايا، فإن عدد القتلى تجاوز 200 شخص، رغم أن هذا الرقم المرتفع ليس مؤكدا.
يقول ديامانت إن القرويون قُتلوا بشكل وحشي باستخدام مدفع رشاش في نهاية المعركة، ويضيف متحدثا عن دعوى التشهير سنة 2000، أن الجنود السابقين أدركوا أن التكتيك المناسب هو التظاهر بأن شيئا لم يحدث خلال الهجوم على القرية “لم نكن نعرف شيئا، ولم نسمع شيئا. بالطبع كان الجميع على علم بما حدث”.
يقول الجندي السابق حاييم ليفين إن أحد أفراد الوحدة توجه إلى مجموعة مكونة من 15 أو 20 أسير حرب “وقتلهم جميعا”. يضيف ليفين أنه أصيب بالذهول، وتحدث إلى رفاقه في محاولة لمعرفة ما يجري. قيل له “ليس لديك أدنى فكرة عن عدد جنودنا الذين قتلهم أولئك الشباب”.
ويقول ميكا فيكون، وهو جندي سابق آخر في الوحدة، إن “ضابطا أصبح في السنوات اللاحقة مسؤولا بارزا في وزارة الدفاع، قتل بمسدسه عددا من العرب”. وحسب فيكون، فإن الجندي أقدم على فعلته تلك لأن الأسرى رفضوا الكشف عن المكان الذي أخفوا فيه الأسلحة المتبقية في القرية.
ووصف جندي آخر حادثة جدت في تلك المنطقة: “أتذكر كيف وضعوهم في براميل وأطلقوا عليهم النار. أتذكر الدم في البرميل”. واعتبر أحد الجنود السابقين أن رفاقه في الجيش لم يتصرفوا بطريقة آدمية مع سكان القرية.
تظهر هذه الشهادات وغيرها في مشروع توثيقي للمخرج ألون شوارتز. يبدو أن فيلمه الوثائقي بعنوان ” الطنطورة”، الذي من المنتظر أن يُعرض مرتين في نهاية هذا الأسبوع عبر الإنترنت كجزء من مهرجان “سوندانس” في ولاية يوتا، سيدحض أخيرا الرواية السائدة منذ دعوى التشهير واعتذار كاتس.
على الرغم من أن شهادات الجنود في الفيلم (التي سجل بعضها كاتس، وبعضها شوارتز) عبارة عن مقاطع متفرقة حول الأحداث، إلا أنها ترسم صورة كاملة عما حدث في الطنطورة، وتُثبت أن أن جنودا في لواء أليكساندروني قتلوا فلسطينيين غير مسلحين بعد المعركة.
في الواقع، لم يتم تقديم الشهادات التي جمعها كاتس إلى المحكمة أثناء دعوى التشهير، والتي تمت تسويتها قبل اكتمال إجراءات المحاكمة. تؤكد هذه التسجيلات أنه إذا كانت المحكمة قد استمعت إليها في ذلك الوقت، لم يكن كاتس ليضطر إلى تقديم الاعتذار. رغم أن معظم اعترافات الجنود كانت عبارة عن تلميحات، لكنها قدمت صورة واضحة عن الأحداث.
يقول شلومو أمبار الذي ارتقي لاحقا إلى رتبة عميد وتولى منصب رئيس الدفاع المدني، في شهادته خلال الفيلم: “هل تريدني أن أكون مرهف الإحساس وأتحدث في الشعر؟ ويضيف أن الأحداث في القرية لم تكن تسير حسب رغبته، وبما أنه فضّل عدم الحديث عنها في ذلك الوقت، فلا يوجد سبب للحديث عنها اليوم.
إحدى أكثر الشهادات مأساوية في فيلم شوارتز هي شهادة أميتزور كوهين، الذي تحدث عن أشهره الأولى كجندي قائلا: “كنت أقتل المعتقلين ولا أرسلهم إلى السجن”. يؤكد كوهين أنه قتل الكثير من العرب خارج إطار المعارك “كان لديّ رشاش يحتوي 250 طلقة. لا أستطيع أن أحسب عدد القتلى”.
تؤيد شهادات جنود لواء أليكساندروني، شهادة سابقة أدلى بها يوسف بن أليعازر. كتب بن أليعازر منذ نحو عقدين: “كنت أحد الجنود الذين شاركوا في احتلال الطنطورة. كنت على علم بجرائم القتل المرتكبة في القرية. كان بعض الجنود يقتلون الناس من تلقاء أنفسهم دون أي أوامر”.
تشير الشهادات والوثائق التي جمعها شوارتز في الفيلم إلى أنه تم دفن الضحايا في مقبرة جماعية بعد المجزرة، وهي توجد حاليا تحت موقف سيارات في شاطئ دوغ. تم حفر المقبرة خصيصا لدفن ضحايا المجزرة، واستمرت عمليات الدفن أكثر من أسبوع.
في نهاية أيار/ مايو 1948، بعد أسبوع من احتلال القرية وأسبوعين من إعلان قيام دولة “إسرائيل”، تم توبيخ أحد القادة الذين تم تعيينهم في الموقع لأنه لم يحرص على دفن جثث العرب بالطريقة المناسبة. وفي التاسع من حزيران/ يونيو، أفاد قائد القاعدة المجاورة: “بالأمس قمت بفحص المقبرة الجماعية في الطنطورة، ووجدت كل شيء على ما يرام”.
إلى جانب الشهادات والوثائق، يعرض الفيلم الخلاصة التي توصّل لها الخبراء الذين قارنوا الصور الجوية الملتقطة للقرية قبل تعرّضها للغزو وبعده. وتتيح مقارنة الصور واستخدام التصوير ثلاثي الأبعاد باعتماد أدوات جديدة تحديد موقع الدفن بدقة وكذلك تقدير أبعاده: طوله 35 مترًا وعرضه 4 أمتار. ويقول كاتس في الفيلم: “لقد أحسنوا إخفاءه بطريقة تجعل الأجيال القادمة تسير على تلك الأرض دون أن تعرف ما تخطو فوقه”.
غير مؤهل
اعتراف لواء أليكساندروني يسلط الضوء على المحاولة اليائسة لإسكات تيدي كاتس. في آذار/ مارس 1998، عندما كان كاتس طالب دراسات عليا في جامعة حيفا، قدم رسالة الماجستير إلى قسم تاريخ الشرق الأوسط، بعنوان: “خروج العرب من القرى عند سفح جبل الكرمل الجنوبي سنة 1948″، وقد تحصل في الخمسينيات من عمره على درجة 97 من مئة. ووفقا للعرف السائد، تم إيداع رسالة الماجستير في مكتبة الجامعة، وكان كاتس ينوي متابعة دراسة الدكتوراه، إلا أن خطته انحرفت عن مسارها.
في كانون الثاني/ يناير من سنة 2000، استعار الصحفي أمير غيلات هذه الدراسة من المكتبة ونشر مقالًا عن المذبحة في صحيفة “معاريف” الإسرائيلية أثار ضجة واسعة. مع دعوى التشهير التي أطلقتها جمعية قدامى المحاربين في لواء أليكساندروني، دخلت الجامعة أيضًا في حالة من الانفعال، وقررت تشكيل لجنة لإعادة النظر في أطروحة الماجستير. وعلى الرغم من أن المراجعين الأصليين وجدوا أن كاتس قد أنجز الأطروحة بامتياز وأنها استندت إلى عشرات الشهادات الموثقة لجنود يهود ولاجئين عرب من قرية الطنطورة، إلا أن اللجنة الجديدة قررت استبعاد الأطروحة.
لم تكن الورقة البحثية التي كتبها كاتس خالية من الأخطاء، ولكن ربما كان هدف النقد الأساسي هو جامعة حيفا التي لم توفر الإشراف الكافي خلال عملية البحث والكتابة، والتي عكست مسارها وتبرأت من طالبها بعد أن وافقت على أطروحته، وهو ما جعل إسكات وقمع الأحداث الدموية في الطنطورة ممكنا على مدى سنوات.
أقرّ بابي، الذي انخرط في نقاش علني مع جيلبر على وسائل الإعلام حول أطروحة كاتس، بحدوث مذبحة في الطنطورة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ومع ظهور الشهادة في فيلم شوارتز، يبدو أن النقاش قد حُسم.
بالنسبة لكاتس، قام بعد جلسة استماع واحدة في المحكمة بتوقيع اعتذار أنكر فيه حدوث مذبحة في القرية وأعلن أن أطروحته كانت معيبة. وقد نسي الجميع حقيقة تراجعه عن أقواله بعد ساعات فقط، وحقيقة أن محاميه أفيغدور فيلدمان لم يكن حاضرًا في الاجتماع الليلي الذي تعرض فيه كاتس لضغوط. ومع هذا الاعتذار تم التكتم على النتائج التي كشفتها الأطروحة، ولم تخضع تفاصيل المذبحة بعد ذلك لأي تدقيق الشامل.
توصل المؤرخون الذين شاهدوا الحلقة مثل يوآف جيلبر وبيني موريس وإيلان بابيه إلى استنتاجات مختلفة ومتناقضة. فقد أكد جيلبر، الذي لعب دورا رئيسيا في جهود تشويه أطروحة كاتس، مقتل عدد قليل من العرب في المعركة نفسها نافيًا حدوث مذبحة. ومن جانبه، اعتقد موريس أنه من المستحيل تحديد ما حدث بشكل قاطع مشيرًا إلى أنه “شعر بقلق عميق” بعد قراءة العديدة من الشهادات وإجراء مقابلات مع بعض قدامى المحاربين في الإسكندروني.
في المقابل، أقرّ بابي، الذي انخرط في نقاش علني مع جيلبر على وسائل الإعلام حول أطروحة كاتس، بحدوث مذبحة في الطنطورة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ومع ظهور الشهادة في فيلم شوارتز، يبدو أن النقاش قد حُسم.
في أحد أكثر المشاهد دراميةً في الفيلم الوثائقي، تستمع درورا بيلبل التي عملت على قضية التشهير التي رُفعت ضد كاتس، إلى تسجيل إحدى مقابلاته. وهي المرة الأولى التي تستمع فيها إلى الشهادات التي جمعها كاتس، والذي أدى الاعتذار السريع الذي قدمه في جلسة الاستماع إلى إنهاء المحاكمة بسرعة. قالت القاضية المتقاعدة للمخرج بعد نزعها سماعات الرأس: “إذا كان هذا صحيحًا، فإنه أمر مؤسف. بوجود مثل هذه الإثباتات، كان عليه أن يواصل طريقه حتى النهاية”.
تجسد مجزرة الطنطورة تعنت الجنود الإسرائيليين في الاعتراف بالتجاوزات وأعمال القتل والعنف ضد السكان العرب وعمليات الطرد والنهب. يُعد الاستماع إلى شهادة الجنود اليوم، مع الأخذ بعين الاعتبار الدعوى التي رفعوها ضد كاتس، كسرا لمؤامرة الصمت والإجماع على إخفاء الحقائق. نأمل أن يصبح التعامل مع مثل هذه المواضيع الشائكة أسهل في السنوات القادمة. ومن المؤشرات التي تشجع على ذلك حقيقة أن فيلم “الطنطورة” تلقى تمويلا من هيئات رئيسية مثل شبكة “هوت كابلت” والصندوق الجديد للسينما والتلفزيون.
لن يتم التحقيق بالكامل في الأحداث المروعة التي شهدتها الطنطورة، ولن تُعرف الحقيقة الكاملة. مع ذلك، هناك شيء واحد يمكن تأكيده: يوجد تحت موقف السيارات في أحد أبرز المنتجعات الإسرائيلية على البحر الأبيض المتوسط رفات ضحايا إحدى كبرى المذابح التي شهدتها حرب الاستقلال.
المصدر: هآرتس