ما زال تنظيم داعش يحاول التمظهر ضمن أي عنوان متاح، مرة كبندقية للإيجار في الصراعات الأمريكية الإيرانية، ومرة كمقاول لتحقيق الأهداف التي تعجز عنها السياسة العراقية، والمتابع الجيد لتحولات السياسة العراقية منذ عام 2003، يدرك تمامًا طبيعة الدور الذي لعبه تنظيم القاعدة ومن ثم تنظيم داعش، في خلق هامش جيد للأزمات السياسية، ومنعطف مهم في إعادة تغيير بوصلة المعادلة السياسية في العراق.
إذ أدت عملية التهاون في تأمين السجون العراقية، وبتواطؤ حكومي واضح، من فرار ما يقرب من 500 سجين من تنظيم القاعدة من سجني التاجي وأبو غريب في الفترة بين مايو/أيار ويوليو/تموز 2013، ليؤسس هذا الهروب فيما بعد لأكبر تحول دامٍ في تاريخ العنف المسلح في العراق، تمثل بسيطرة تنظيم داعش على ثلث مساحة العراق، ليعلن خلافته التي خلفت حربًا مدمرةً دامت 3 أعوام.
وعلى الرغم من مرور أكثر من 5 أعوام على هزيمة التنظيم في العراق، لا يزال قادرًا على شن الهجمات المسلحة في العديد من مقتربات المدن والنقاط العسكرية والمخافر الحدودية، وبالشكل الذي يوقع خسائر مستمرة في صفوف القوات الأمنية والعسكرية العراقية، ما يضع بدوره العديد من التساؤلات المهمة عن طبيعة النصر الذي أعلنته الحكومة العراقية على هذا التنظيم، بالوقت الذي ما زال بإمكانه شن الهجمات الدامية، وهو ما حصل مؤخرًا عندما خلف هجوم شنه عناصر التنظيم مقتل 11 جنديًا عراقيًا خلال استهدافه مقرًا للجيش العراقي في محافظة ديالى الواقعة شمال شرق بغداد.
وبعيدًا عن خلفيات الهجوم والثغرات الأمنية التي استغلها التنظيم في شن هجماته الأخيرة، فإن التساؤل المهم هنا يتمثل في تصاعد نشاطات تنظيم داعش، في الوقت الذي يشهد فيه العراق احتقانًا سياسيًا كبيرًا، بشأن نتائج الانتخابات والكتلة الكبرى وتشكيل الحكومة المقبلة، كما أنه يأتي مترافقًا مع تصريحات عديدة أدلت بها قيادات كبيرة في الفصائل المسلحة الموالية لإيران، ومنها ما جاء على لسان المتحدث الأمني لكتائب حزب الله العراقي أبو علي العسكري، من أن هناك أيامًا عصيبةً ستكون أمام العراقيين، الذي يأتي أيضًا مع انسحاب بعض ألوية الحشد الشعبي من مناطق المواجهة مع التنظيم في الأنبار.
ومع أن هذا الطرح لا يذهب باتجاه خلق حالة تخادم بين سلوكيات قادة الفصائل المسلحة وتحركات التنظيم، فإن التخادم الحقيقي يتمثل بخلق فجوات أمنية يستطيع التنظيم من خلالها شن هجمات مسلحة في العديد من المدن التي ما زالت تشهد حالة عدم استقرار أمني، وتحديدًا في ديالى ونينوى وصلاح الدين.
لا يختلف أحد بأن الفصائل المسلحة الموالية لإيران، بنت شرعيتها السياسية على أساس مواجهة التنظيم ومن ثم القوات الأمريكية، ودون وجود هذين المسببين لا يمكن أن تتذرع أكثر بمسألة الاحتفاظ بالسلاح
كما أنه يأتي في ظل إصرار فصائلي على انسحاب القوات الأمريكية من العراق، هذه القوات التي وفرت الدعم الجوي للعراق في مواجهة مخاطر عمليات التنظيم، وهو ما أثبتته التطورات الأمنية الأخيرة، إذ أدى إيقاف وتجميد العديد من الطلعات الجوية التي تنفذها القوات الأمريكية من القواعد العسكرية التي كانت توجد فيها، بسبب إصرار الفصائل المسلحة، إلى إيقاف الدعم الجوي للقوات الأمنية العراقية، وهو ما أتاح للتنظيم حرية حركة أكبر من السابق.
عودة هجمات التنظيم توفر فرصةً جيدةً للاحتفاظ بالسلاح
تأتي الدعوات المتكررة من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وتحديدًا في مرحلة ما بعد فوزه بالانتخابات المبكرة، من ضرورة نزع سلاح الفصائل المسلحة وتفكيك الفصائل غير المنضبطة في هيئة الحشد الشعبي، فضلًا عن ضرورة إعادة هيكلة الحشد بالشكل الذي يجعله أكثر ارتباطًا بالقائد العام للقوات المسلحة، ليفتح الباب واسعًا أمام مسارات التصعيد والخلاف السياسي بين الصدر وقيادات الفصائل المسلحة الموالية لإيران التي رفضت دعوته، خصوصًا أنه جعل نزع السلاح شرطًا مهمًا للاشتراك بحكومة الأغلبية الوطنية التي يطمح لتشكيلها.
فلا يختلف أحد بأن الفصائل المسلحة الموالية لإيران، بنت شرعيتها السياسية على أساس مواجهة التنظيم ومن ثم القوات الأمريكية، ودون وجود هذين المسببين لا يمكن أن تتذرع أكثر بمسألة الاحتفاظ بالسلاح، تحديدًا أنه أصبح موضع نقاش عام اليوم، ومع تصاعد نشاطات التنظيم واتساع نطاقها، ستكون مسألة سلاح الفصائل مؤجلة لوقت آخر.
الهجمات الأخيرة التي شنها تنظيم داعش، وبعيدًا عن الأسباب التي تقف خلفها، جاءت متوائمة مع ما تريده الفصائل المسلحة، إعلاميًا ودعائيًا
إذ أشار تقرير للأمم المتحدة نشر في فبراير/شباط الماضي إلى أن “تنظيم الدولة الإسلامية يحافظ على وجود سري كبير في العراق وسوريا، ويشن تمردًا مستمرًا على جانبي الحدود بين البلدين مع امتداده على الأراضي التي كان يسيطر عليها سابقًا”.
وما يزيد من خطورة هذا الواقع، أن هذه المناطق أصبحت مرشحةً لتكون مناطق فراغ أمني، بعد تهديد الفصائل المسلحة بالانسحاب منها، ردًا على استبعادها من عملية تشكيل الرئاسات الثلاثة في العراق.
إن الهجمات الأخيرة التي شنها تنظيم داعش، وبعيدًا عن الأسباب التي تقف خلفها، جاءت متوائمة مع ما تريده الفصائل المسلحة، إعلاميًا ودعائيًا، وهو ما أشار إليه الإعلام المرئي لهذه الفصائل بعد هذه الهجمات، من إعادة التأكيد على دورها في مواجهة داعش، فضلًا عن أهمية الدعم الإيراني، الأمر الذي يعطيها قوة دفع كبيرة في وجه الدعوات التي تتحدث عن نزع سلاحها أو تفكيكها وحلها، كشرط للاشتراك في العملية السياسية المقبلة.