قال صدام حسين مخاطبًا القاضي أيام محاكمته: “والله لوما الأمريكان، ما تكَدر لا أنت ولا أبوك تجيبني لمكان مثل هذا…”.
كان صدام مدركًا أنه أسس لدولة عميقة من الصعب جدًا اختراقها وإزالة حكمه، إلا بفعل تأثير وتدخل خارجي، كذلك نجد اليوم أن الجهات التي تحكم العراق، أسست لكيانات عميقة سيئة وفاسدة أشبه بالدولة!
صحيح أن قبضتها في الحكم تختلف عن صدام، لكن بوجود الدعم الإيراني ودعم بعض العمائم الدينية التي حاولت أن تعطي لمن في السلطة مبررات كثيرة توجب وجودهم بحجة حماية المذهب وما إلى ذلك، إضافة إلى النفوذ المسلح الواسع خارج إطار الدولة الرسمية، جعل تلك الجهات تؤسس فعلًا لدولةٍ عميقةٍ من الصعب اختراقها، ويدها الفاسدة ممتدة في كل مكان لتفعل ما تشاء، في الأمن والتعليم ومفوضية الانتخابات والقضاء، إلخ.
والعراقيون يجدون اليوم أن المُعلن فيما يسمى العراق الجديد، أننا أمام نظام سياسي يعتمد الديمقراطية مبدأً أساسيًا في اختيار ممثلين الشعب في الرئاسات الثلاثة، والمُعلن أيضًا أن هناك فصلًا بين السلطات الثلاثة (القضائية والتشريعية والتنفيذية)، لكن بعد تجربتهم مع هذا النظام السياسي لمدة قاربت العقدين من الزمن، أصبح الجميع يُدرك أننا أمام حالة معينة من الحُكم يصح لنا أن نقول “لا لون ولا طعم ولا رائحة لها”!
أقصد أن هذا النظام لم يستقر على حالة واضحة يمكن أن يتم تقييمه على أساسها، وفق التقسيمات المعروفة لأنظمة الحكم في العالم، فهو ليس نظامًا ديكتاتوريًا يعتمد على الحزب الواحد والشخص الواحد كما كان قبل 2003، لكن بذات الوقت لا يمكن وصفه بأنه نظام ديمقراطي حقيقي، لأن العراقيين يعيشون بشكل يومي مع السلطة مظاهر كثيرة تشير جميعها إلى الديكتاتورية، منها كبت حرية الرأي والتعبير وفرض إيديلوجيات وممارسات دينية معينة من أحزاب السلطة وفرض إرادة تلك الأحزاب وجعلها أقوى من إرادة القانون!
لكن في النهاية هو نظام حكم قائم، وتشكل بطريقة معينة كما ذكرت آنفًا، والطريق الوحيد للتغيير فيه هو صندوق الانتخابات كما يقولون، وصندوق الانتخابات محكوم بإرادة الفاسدين، لذلك أعتقد من الصعب جدًا، أن يحدث التغيير الحقيقي المنشود في المستقبل القريب، إلا إذا توافرت إرادة دولية خارجية لذلك.
وواضح جدًا أن الإرادة الدولية الأمريكية والإقليمية هي مع النظام السياسي الحاليّ، مهما كانت سلبياته، بل إنها مستفيدة منه كثيرًا، وأعتقد أيضًا أن أغلب تلك الدول ليس من مصلحتها أن يكون العراق مستقرًا وقويًا اقتصاديًا أو عسكريًا أو في أي مجال آخر.
بل إننا الآن ومنذ فترة طويلة لا نجد أن الشأن العراقي يناقش على طاولة فواعل سياسية محلية، بقدر ما يناقش على طاولة تضم فواعل دوليين وإقليميين، وبعد ذلك تمرر الاتفاقات إلى ممثلين تلك الكيانات في العراق، من مختلف المكونات، وإذا كان هذا الأمر يتم بسرية معينة في سنوات سابقة، فهو الآن أصبح واضحًا ويطرحه السياسيون العراقيون بشكل واضح دون خجل أو تردد!
فأحدهم يتحدث عن دور تركي، والثاني عن دور إماراتي، وآخر عن دور إيراني وهكذا، كل شيء في العراق لا يمر إذا وجد تقاطعًا مع دولة معينة من دول الجوار! بل إن تجربتنا منذ 2003 تبين أن كثيرًا من مصالح العراق العليا عُطلت بشكل تام، حفاظًا على مصالح دول أخرى!
بالتأكيد من مصلحة العراق ألا يكون معزولًا عن محيطه الإقليمي والدولي، وقد جربنا الأثر السلبي الكبير الذي سببه الانعزال قبل 2003، ومن الطبيعي أن يكون للعراق علاقات إيجابية مع كل الدول، ولا ضير أن يتم دراسة كل القضايا الداخلية والخارجية بما يحقق المصالح المشتركة، لكن ما هو مرفوض أن يتم كل شيء بما يتلاءم مع مصلحة دولة معينة، دون النظر لما سيسببه من أضرارٍ كبيرةٍ آنيةٍ ومستقبليةٍ بمصلحة العراق وأجيال المستقبل!
وكثير منا يُدرك أن هناك تآمرًا يحصل باستمرار على الدول والمجتمعات، لغايات معينة يسعى إلى تحقيقها ذلك المتآمر، والسمكة الكبيرة تحاول ابتلاع السمكة الصغيرة دومًا.
لكن في الغالب لا نتائج متحققة لذلك التآمر إلا من خلال قلة معرفة المتآمَر عليه وانعدام وعيه وتقاعسه عن العمل وانعدام الشعور بالمسؤولية المجتمعية، مع ضعفه وانهزامه وسوء قناعاته وسوء سلوكه، ولن تجدي نفعًا كل محاولات الاستعطاف والرجاء من السمكة الكبيرة ألا تبتلع السمكة الصغيرة، الحل فقط بأن تكبر تلك السمكة لتصبح عصيةً على من يريد بلعها.
لا نريد أن نبتلع أو نقصي أحدًا، نريد فقط أن نتعامل بندية مع الجميع، ونعيش بسلام وتكون فرص الجميع متكافئة، أي أن المشكلة والحل تبدأ من عند أنفسنا، والحقوق يجب أن تُنتزع، لأن الآخرين لن يعطوها لنا، ونحن ملتزمون السكون والصمت!
يبقى السؤال: ماذا يفعل المصلحون الصادقون أمام ذلك؟ ماذا يفعل الساعون إلى الإصلاح والتغيير؟ هل يتركون السياسة تمامًا؟ هل يتركون البلد لما تؤول إليه الأمور وإرادة المتسلطين الفاسدين؟
باعتقادي لا، وإنما عليهم المشاركة والمحاولة تلو المحاولة عسى أن يتمكنوا من تقليل عدد المفسدين وتحسين الخدمات إلى حد ما – وهذا أقصى ما سيمكنهم فعله – لو سمحت لهم الظروف وتمكنوا من اختراق تلك المنظومة بطريقة أو بأخرى، وممكن أن تكون تلك خطوات أولية باتجاه تحقيق إصلاح سياسي معين، وصولًا إلى التغيير المنشود.
وللأسف حتى أولئك المصلحين الصادقين – إن وجدوا – أعتقد عليهم تقديم العديد من التنازلات على مستوى المبادئ والقناعات مقابل أن يكونوا جزءًا من المنظومة الحاليّة، لأنهم سيدخلون بقوانين اللعبة القائمة المفروضة، وربما نتقبل ذلك إذا كان من أجل مصلحة الناس العامة، لا من أجل مصالح شخصية بحتة فقط.
وقليل جدًا من ينجح في الاختبار، عندما يدخل وكر الذئاب ويبقى على ما هو عليه، ولا يتحول إلى ذئب ماكر محتال مثل غيره!
أنا أزعُم بأن من كانت تربيته صالحة وسيرته طيبة ولم يضعف سابقًا أمام المغريات، ممكن أن ينجح في اختبار السياسية والمناصب أيضًا، ولكن آخرين كُثر لا يتفقون معي ويعتقدون عكس ذلك.
وسيبقى الأمل موجودًا بغد أفضل، ولم ولن نيأس، ولا قيمة للحياة بغياب الأمل، لكن بذات الوقت علينا أن نفهم الواقع جيدًا، لتكون خطواتنا أكثر واقعيةً وأكثر تأثيرًا وإنجازًا.