أصدر وزير التموين المصري علي مصيلحي، في 15 يناير/كانون الثاني الحاليّ، قرارًا بإلغاء التعامل بالدمغة التقليدية (من مصلحة الدمغة والموازين بوزارة التموين) على الذهب، ومنح المصريين مدة عام من الآن لدمغ المشغولات الذهبية للأشخاص والسباك مقابل “رسوم” تحددها الدولة، ما أحدث جدلًا كبيرًا داخل الشارع المصري.
القرار أثار ارتباكًا لدى ملاك المشغولات الذهبية من المصريين من جانب وحركة سوق المعدن النفيس من جانب آخر، في ضوء الغموض الذي انتابه قبل أن تضطر الوزارة للتدخل لتوضيح بعض الملابسات المتعلقة بمستقبل الذهب المملوك بحوزة المواطنين والمدموغ بالدمغة التقليدية، إلا أن هذا التوضيح لم يقنع الكثير من المراقبين ممن تساءلوا عن الدوافع الحقيقية وراء هذا القرار في هذا التوقيت.
ويمثل الذهب الملاذ الآمن لمعظم المصريين أصحاب الادخارات، بعيدًا عن التأرجح الذي يداعب العملة المحلية وما يرتبط بها من أسواق كانت في الأمس تستحوذ على النصيب الأكبر من استثمارات الشعب المصري، ويقدر حجم المشغولات الذهبية المدموغة في مصر بنحو 65 طنًا في العام، منها 80% إنتاج محلي و20% مستورد، بحسب رئيس مصلحة الدمغة والموازين بوزارة التموين عبد الله منتصر، فيما استحوذت مصر خلال العام الماضي على ما يقرب من 20% من تجارة الذهب فى الدول العربية.
تحركات سريعة
السوق شهد خلال الأسابيع الماضية حزمة من القرارات والإجراءات التي بلا شك سيكون لها تأثيرها على حركة البيع والشراء بصفة عامة، إن لم يكن في الوقت الراهن ففي المستقبل القريب على أقصى تقدير، في ظل ما تحمله من تغيير واضح في خريطة المعدن النفيس في مصر.
وزير التموين والتجارة الداخلية وخلال إعلانه قرار إلغاء الدمغة التقليدية كشف إقامة معرض ومؤتمر الذهب والمجوهرات “نبيو” 2022، الذي من المقرر أن يعقد بالقاهرة من 19 وحتى 21 فبراير/شباط 2022، تزامن ذلك مع الإعلان عن إنشاء أول مصفاة للذهب معتمدة دوليًا بمنطقة مرسى علم بالصحراء الشرقية، بتكلفة 100 مليون دولار 1.6 مليار جنيه”.
قطاع الذهب في مصر شهد طفرة كبيرة خلال العام الأخير، تمثلت في توقيع 25 عقدًا مع 11 شركة مصرية وعالمية للبحث عن المعدن الأغلى عالميًا في 75 قطاعًا بالصحراء الشرقية، باستثمارات نحو 57 مليون دولار
وجاء اختيار هذا المكان لقربه من مواقع مناجم الذهب، وبدلًا من إرسال الذهب المستخرج من مصر للخارج من أجل دمغه ثم إعادته للبلاد مرة أخرى، وهو المعمول به حاليًّا، فسيكون الدمغ هنا في مصر، هذا بجانب تقديم المصفاة عروضها لبعض الدول المجاورة كالسعودية والسودان لتقديم الخدمة ذاتها.
وتأتي تلك التحركات مع اقتراب الانتهاء من بناء “مدينة الذهب” العالمية المقامة بالعاصمة الإدارية، التي باتت في مراحلها الأخيرة، وتشمل وجود كبرى صالات العرض المجهزة، وتدريب للعمالة الماهرة لإطلاعهم على أحدث تقنيات الصناعة، هذا بخلاف مشروع “المثلث الذهبي” الذي تجهزه الحكومة في الصعيد، ومن المقرر أن تكون قاعدته في البحر الأحمر ورأسه في قنا، ويربط بين جميع المناطق بين هاتين النقطتين وهدفه وضع مصر على الخريطة العالمية للتعدين، ومنع عمليات تهريب الذهب والاستخراج غير المقنن له في صعيد مصر والبحر الأحمر.
ضبط السوق
فريق يرى أن مثل تلك القرارات تهدف في المقام الأول إلى تنظيم سوق الذهب والحد قدر الإمكان من جرائم الغش التي يعاني منها هذا السوق في مصر، مع انتشار صناعة المشغولات وتجارتها خارج رقابة الأجهزة الحكومية، الأمر الذي أوقع الكثير من المواطنين في شباك النصب.
رئيس شعبة تصنيع المعادن باتحاد الصناعات المصرية، إيهاب واصف، كشف في بيان له دعم الشعبة لتوجهات الحكومة في تبني تلك الإستراتيجية التي اعتبرها من أجل النهوض بصناعة الذهب ومواكبة أحدث التكنولوجيات الخاصة بها، التي من أبرزها استحداث الدمغة بالليزر، وهي أحدث الأنظمة المتبعة في دمغ المشغولات الذهبية.
وكشف أنه من خلال تلك التكنولوجيا “سيمنح كل مشغول ذهبي كود مدون عليه كل التفاصيل الخاصة بالمنتج سواء الشركة المصممة أم وزنه أم نوع العيار الخاص به، ما يضمن عملية حماية للمستهلكين من عمليات غش الذهب وسهولة استرجاعها عند السرقة والحفاظ على قيمتها عند إعادة البيع”، مؤكدًا أن عملية الدمغ بالليرز فنية بحتة ولا تأثير لها على حركة بيع وشراء المشغولات الذهبية.
وحاولت الشعبة طمأنة المصريين بالتأكيد على عدم وجود أي مخاطر محتملة لتطبيق هذا النظام الجديد على مدخرات المصريين من المشغولات التقليدية، إذ سيتم التعامل بها دون أي تداعيات، وأن التطبيق الجديد سيكون على المشغولات الجديدة التي سيتم طرحها في الأسواق.
جدير بالذكر أن قطاع الذهب في مصر شهد طفرةً كبيرةً خلال العام الأخير، تمثلت في توقيع 25 عقدًا مع 11 شركة مصرية وعالمية للبحث عن المعدن الأغلى عالميًا في 75 قطاعًا بالصحراء الشرقية، باستثمارات بنحو 57 مليون دولار، ضمن المزايدة العالمية للبحث عن الذهب في مصر.
أنفق المصريون نحو 19.2 مليار جنيه مصري (نحو 1.22 مليار دولار أمريكي)، على نحو 21.1 طن من الذهب عام 2021، مقارنة بنحو 12 مليار جنيه مصري (763.1 مليون دولار أمريكي) على نحو 13.8 طن في عام 2020
شكوك وقلق
على الجانب الآخر، القرارات أثارت جدلًا كبيرًا في الشارع المصري وسجالات حادة على منصات التواصل الاجتماعي، إذ اعتبرها البعض حلقةً في سلسلة كبيرة من الضغوط التي يمارسها النظام على المصريين، وأنها استكمال لما تم قبل ذلك من إجراءات قاسية، بهدف تحقيق أكبر قدر من المكاسب لإنعاش خزانة الدولة.
الرواد اعتبروا القرارات امتدادًا للضغوط التي مورست على المستثمرين العقاريين بوقف تراخيص البناء، وعلى أصحاب الأموال في المؤسسات البنكية برفع الغطاء المالي عنها، ثم وصلت إلى ملاك الذهب بقرار دمغه بالليزر، فيما أشار آخرون إلى أن النظام يهدف إلى معرفة كميات ومدخرات المصريين من الذهب لبحث كيفية الاستفادة منها بعدما نجح في حصر الأموال بالكاش عن طريق البنوك وتعزيز نظام الشمول المالي.
هناك قلق كذلك من احتمالية أن تكون هناك رسوم إجبارية باهظة بعد فترة على أصحاب المشغولات المدموغة بالدمغة التقليدية، نظير دمغها بالليزر، لافتين أن تطمينات الوزارة من باب تسكين الناس خاصة أنها ليست المرة الأولى التي تتراجع فيها الحكومة عن قرارات من هذا الشأن.
أنصار هذا الرأي يميلون – رغم رسائل الطمأنة – إلى لجوء الحكومة لتقديم مهلة زمنية لملاك المشغولات الذهبية لدمغها بالليزر وإلا سيتم وقف التعامل بتلك المشغولات، وهنا لن يجد المواطنون بدًا من الرضوخ وتقديم ما لديهم من كميات الذهب المخزنة لدمغها بالدمغة الجديدة، وبذلك تقف الدولة على حجم ما لدى الشعب من كميات ذهب حقيقية، ومن ناحية أخرى تجمع الكثير من الأموال نظير الدمغة الجديدة.
الذهب.. ملاذ المصريين الآمن
يعتبر الذهب الملاذ الأكثر أمانًا للمصريين للحفاظ على مدخراتهم من أمواج السوق المتلاطمة، وهو ما يفسر لجوء الشعب المصري إلى هذا المعدن النفيس للحفاظ على ما لديه من أموال، بعدما باتت كل مجالات الاستثمار التقليدية الأخرى ليست بمأمن كالعقارات والأراضي والاحتفاظ بالأرصدة في البنوك.
في تقريره الصادر في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021 كشف موقع Al-Monitor الأمريكي تسجيل مصر نحو 2% من الإنفاق العالمي على الذهب، بزيادة كبيرة عن الأعوام السابقة، إذ أنفق المصريون نحو 19.2 مليار جنيه مصري (نحو 1.22 مليار دولار أمريكي)، على نحو 21.1 طن من الذهب عام 2021، مقارنة بنحو 12 مليار جنيه مصري (763.1 مليون دولار أمريكي) على نحو 13.8 طن عام 2020، وفقًا لما أورده موقع Al-Monitor الأمريكي، الجمعة 24 ديسمبر/كانون الأول 2021، بحسب التقرير.
الموقع نقلًا عن أستاذة الاقتصاد في جامعة عين شمس، يمن الحماقي، أشار إلى عدة تبريرات وراء هذا التوجه المصري نحو الاستثمار في المعدن الأصفر، منها انخفاض أسعار الفائدة في البنوك المصرية وحالة انعدام اليقين المستمرة لدى المصريين، إذ خفض البنك المركزي أسعار الفائدة إلى مستوى 8.25% للادخار، ومستوى 9.25% للفائدة على القروض، علاوةً على استقرار سعر الصرف للجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي.
ربما يكون القرار وما رافقه من حزمة إجراءات أخرى تصب في صالح ضبط سوق الذهب ومواكبته للتطورات العصرية في أسواق الذهب العالمية، إلا أن التجارب السابقة والسياسات التي يتبعها النظام المصري جعلت كل القرارات محل شك في ظل استهداف جيوب المصريين لسد العجز الناجم عن سياسة الاستدانة والاقتراض التي لا تتوقف وأغرقت البلاد في مستنقع الديون الأكثر عمقًا، لتبقى كل خطوة يخطوها النظام موصومة بعار الابتزاز وحلب الضرع المتشقق من الجفاف.