قبل 11 عامًا بالضبط، شقّت الهتافات سكون القاهرة بعد طول ترقُّب، واحتشدَ الغاضبون من عقود القمع الأمني والفساد في ميدان التحرير بالقاهرة للمطالبة بالتغيير، والوقوف في وجه الشرطة التي أسرفت في امتهان المصريين ودمائهم، حيث دعمَ الجيشُ الانتفاضة الشعبية، وأُجبر الرئيس حسني مبارك على التنحّي عن السلطة بعد 30 عامًا.
رأى المصريون أن التظاهرة السلمية الجماهيرية يمكن أن تحدث تغييرًا حقيقيًّا، واعتقدَ كثيرون أن المربع الموجود في قلب العاصمة ليس مجرّد رمز بل أداة للتغيير. كانوا يعتقدون أن ميدان التحرير سيكون دائمًا في انتظارهم. كلنا نعرف الطريق إلى التحرير. إذا أردنا التغيير، نملأه مرة أخرى وسيأتي التغيير، لكن الوضع السياسي صحبه تغيُّر غير متوقع في نمط الاحتجاجات وطبيعتها.
احتجاجات ما قبل الثورة.. من “شهرين.. شهرين” إلى “لا للتوريث”
جاءت ثورة 25 يناير/ كانون الثاني المصرية التي اندلعت تحت شعار “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” بعد عقد من موجتَين رئيسيتَين من الحركات الاحتجاجية، التي اجتاحت البلاد في العقد الأول من القرن الـ 21، وغيّرت خريطتها السياسية، ومارسَت ضغوطًا اجتماعية جديدة على السلطات الحاكمة.
يمكن تقسيم دورات الاحتجاج هذه إلى فئتَين رئيسيتَين؛ كانت الأولى سياسية بحتة، فقد استمرَّت من عام 2004 حتى عام 2006، وتجسّدت في إنشاء الحركة المصرية من أجل التغيير المسماة “كفاية”. وقد عبّرت عن نفسها من خلال موجات من المظاهرات الكبيرة في الشوارع تحت شعار: “لا للتمديد، لا للتوريث”، الذي يعني “لا لاستمرار حكم مبارك، ولا لتوريث السلطة لابنه”.
رغم المظهر المُلهِم والمُبتكَر للحركة، إلا أنها كانت نخبوية إلى حدٍّ كبير، وبالتالي فشلت في الحصول على قاعدة اجتماعية كبيرة، لذلك لم يكن مفاجئًا أن نشهد ظهور موجة ثانية من الاحتجاجات التي اندلعت من عام 2005 حتى عام 2006، والتي كانت في الأساس ذات طابع اجتماعي.
كانت هذه الاحتجاجات مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقطاعات أو فئات معيّنة داخل المجتمع المصري، مثل العمّال وموظفي الخدمة المدنية والمدرِّسين وسائقي الحافلات وغيرهم، كانوا ببساطة يعبّرون عن مطالب ذات طبيعة اقتصادية ومالية (مثل زيادة الرفاهية الاجتماعية والأجور) أصبحت أكثر إلحاحًا مع سياسات التحرير الاقتصادي المتزايد.
ارتفع عدد الحركات الاحتجاجية من 266 عام 2006 إلى 614 عام 2007 وإلى 630 عام 2008. وفي عام 2009 شهدت مصر حوالي 700 احتجاج.
بدأت هذه الموجة -الأكبر منذ الأربعينيات- بالفعل مع شركة مصر للغزل والنسيج الواقعة في المدينة الصناعية بالمحلة الكبرى، شمال القاهرة، حيث تمَّ تنظيم إضراب ضخم أدّى إلى توقُّف 24000 عامل لمدة 3 أيام متتالية.
وكانت الاحتجاجات مع الهتافات والطبول واللافتات تعبِّر عن مناهضة المضربين للسلطات، وتجمّعَ العمّال وهم يهتفون: “شهرين.. شهرين!” في إشارة إلى مكافأة شهرَين من الأجور كان ينبغي أن يحصلوا عليها إلا أنه لم يتمَّ ذلك.
كانت تلك الحركات تركّز فقط على المطالب الاجتماعية والاقتصادية الجزئية التي لم تتجاوز أبدًا الحقوق المالية، وتحسين ظروف العمل، وتوفير الرعاية الصحية المناسبة، وما إلى ذلك. بعبارة أخرى؛ لم يكن للحركات الاحتجاجية أيّ بُعد سياسي لأنَّ المحتجّين رفضوا الارتباط بقوى سياسية ذات أجندة مختلفة عن أجندتهم.
علاوة على ذلك، لم يسعوا أبدًا إلى تغيير المعادلة السياسية الشاملة، كانت استراتيجيتهم الرئيسية هي الضغط على الحكومة لتحقيق مطالبها الاقتصادية دون معارضة السياسات الاقتصادية الشاملة للنظام، وقد شكّلت تلك السمات، إلى حدٍّ ما، جزءًا من استراتيجية بقاء هذه الحركات في سياق نظام مبارك.
تجدّدت هذه الإضرابات في الشركة في عامَي 2007 و2008، كان لهذه التعبئة العمّالية تأثير “الدومينو” على الاحتجاجات الاجتماعية، والتي زادت بشكل كبير من عام 2006 حتى عام 2010، وانتشرت الاحتجاجات المتصاعدة من مصنع إلى مصنع، ومن طاحونة إلى طاحونة، واحدة هنا، أخرى هناك، حتى أصبحت عمليًّا ظاهرة عامة في مصر.
بلغة الأرقام، ارتفع عدد الحركات الاحتجاجية من 266 عام 2006 إلى 614 عام 2007 وإلى 630 عام 2008. وفي عام 2009، شهدت مصر حوالي 700 احتجاج. ومنذ عام 2011 أصبحت هذه الاحتجاجات تمثّل ظاهرة يومية بحيث يصعب رصد أعدادها الحقيقية.
لم يجرِ تنظيم أي من هذه الاحتجاجات من خلال منظمة نقابية، حتى أن الاتحاد العام لنقابات عمّال مصر انتقدَ بشدة تلك الاحتجاجات الاجتماعية، واتّخذَ موقفًا واضحًا مؤيّدًا للحكومة.
كان هذا واضحًا خلال المفاوضات التي جرت مع عمّال المحلة في سبتمبر/ أيلول 2007 لإنهاء إضرابهم، حيث كان العمّال يتفاوضون بشأن مطالبهم مع وفد حكومي ضمَّ رئيس الاتحاد العام لنقابات عمّال مصر، وأثبتَ ردُّ الفعل هذا أن الاتحاد النقابي الرسمي عملَ كممثِّل لمصالح النظام وليس مصالح العمّال.
رغم ذلك، لم يكن في وسع اتحاد عمّال مصر السيطرة على العمّال مع تصاعد الاحتجاجات، التي وإن لم يكن في استطاعتها تغيير السياسات العامة للحكومة، فقد خلقَت ديناميكية داخلية مواتية للتغيير السياسي، وبالتالي مهّدت الطريق لظهور حركة جماهيرية.
أثّرَتِ الروح الثورية السائدة بشكل واضح على العمّال الذين شاركوا “بشكل فردي”، بما يتماشى مع ديناميات الثورة. تجلّى ذلك من خلال الشعارات التي بدأت باتّباع منطق اقتصادي بحت ثم انتقلوا نحو منطق سياسي أكثر، واُستخدمت الشعارات السياسية، المشابهة لشعارات ميدان التحرير، علانيةً من قبل المضربين، وأكثرها شعبية كانت المناداة بإسقاط النظام.
“الشعب يريد إسقاط الرئيس”.. تأثير الوضع السياسي على طبيعة الاحتجاجات
اتسمت ثورة 25 يناير الجماهيرية منذ بدايتها بالدعم الشعبي لها، حيث اشتملت على جميع قطاعات السكان، بما في ذلك العمّال، وممّا لا شكّ فيه أن معظم العمّال شاركوا في المظاهرات على أساس فردي، كمواطنين عاديين وليسوا كأعضاء في حركة احتجاجية اجتماعية أو سياسية معيّنة.
وتجدرُ الإشارة هنا إلى أن جميع العمّال والموظفين تظاهروا تحت شعار مشترك: “الشعب يريد إسقاط النظام”، رافضين جميع الشعارات القاطعة الأخرى، مثل تلك المتعلقة بالمزايا لقطاعات معيّنة، لكن هذا الوضع تغير بشكل كبير بمجرد عودة العمّال إلى وظائفهم.
بعد اندلاع ثورة 25 يناير، لم تتعثّر الاحتجاجات الاجتماعية، بل على العكس من ذلك قد زادت بمعدل أكبر من ذي قبل، ومع تزايُد أعدادها وانتشارها جغرافيًّا، تغيّر المشهد السياسي بالكامل لصالح الثورة، فقد أعلن مبارك بعد 18 يومًا تنحّيه عن منصب رئيس الجمهورية.
في بعض الأيام، تمَّ تسجيل ما يقارب 200 احتجاج، وبحسب صحيفة “المصري اليوم” تصاعدَ الموقف من بضعة احتجاجات في 7 فبراير/شباط في عدة محافظات، إلى 20 احتجاجًا في 8 فبراير/ شباط في 9 محافظات، إلى 35 احتجاجًا في 10 فبراير/ شباط في 14 محافظة، وإلى 65 في 14 محافظة في 11 فبراير/ شباط، يوم استقالة الرئيس، وفي الفترة من 12 إلى 14 فبراير/ شباط كان هناك ما بين 40 إلى 60 احتجاجًا يوميًّا، والتي نُظِّمت في مناطق مختلفة في جميع أنحاء البلاد.
رغم أن النظام يمكن أن يتسامح مع المطالب الاقتصادية والتظاهر على الأقل بتلبيتها، إلا أنه لا يمكن أن يتسامح مع تحولها إلى مطالب سياسية.
سيكون من الإنصاف القول إن انخراط حركات الاحتجاج الاجتماعي في ديناميكيات الثورة حوّل مطالبها الاقتصادية الصارمة إلى مطالب سياسية أكثر، ما زادَ من تأثيرها الجزئي على المعادلة السياسية، ومع ذلك لا يمكن إنكار أن المطالب الاقتصادية التي تعكس حاجتهم إلى العدالة الاجتماعية، كانت القوة الدافعة لمشاركتهم في المظاهرات الجماهيرية.
في سياق التغيرات السياسية التي شهدتها البلاد بعد 25 يناير/ كانون الثاني، تطورت الاحتجاجات، ولم يعد المحتجون معزولين تمامًا عن القوى السياسية التي اشتركوا معها في الهدف نفسه، وهو تحقيق أهداف الثورة.
من ناحية أخرى، بدأت الاحتجاجات تأخذ شكل “المؤسسات” بدلًا من “الحركات”، من خلال تأسيس نقابات عمّالية جديدة مستقلة عن النقابة الرسمية للاتحاد العام لنقابات عمّال مصر، رغم أنهم كانوا معزولين في السابق، إلا أنهم حاولوا إعادة تجميع أنفسهم في اتحاد نقابي جديد.
تتلخّص استراتيجية نظام مبارك في التعامل مع الاحتجاجات في إنشائه نظام للفصل بين ما يمكن وصفه بالمجالَين الاجتماعي والسياسي، واعتبرَ أي ارتباط بينهما خطًّا أحمر لا يجب تجاوزه، وسُمح للأحزاب السياسية بتنظيم مؤتمرات وندوات تنتقد النظام، لكن بشرط عدم وجود قاعدة اجتماعية.
في الوقت نفسه، سُمح للحركات العمالية بالمطالبة بحقوقها الاقتصادية المنتهَكة، وتوجيه الانتقادات لسياسات الحكومة في الاعتصامات والمظاهرات، لكن في المقابل لم يكن عليهم تجاوز المطالب الاجتماعية، إذا أرادوا تجنُّب القمع.
كانت الاحتجاجات الاجتماعية تدرك ذلك جيدًا: رغم أن النظام يمكن أن يتسامح مع مطالبها الاقتصادية والتظاهر على الأقل بتلبيتها، إلا أنه لا يمكن أن يتسامح مع تحولها إلى مطالب سياسية، حيث كانت هذه قواعد اللعبة.
وبعد مرور عام على الثورة، ومنذ تولّيه السلطة في فبراير/ شباط 2011، نادرًا ما وضعَ المجلس الأعلى للقوات المسلحة رؤية أو أجندة واضحة للتعامُل مع الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في مصر ومطالب عمّالها.
وبدلاً من ذلك، سادت استراتيجية النظام القديم، حيث تمَّ التعامل مع مطالب العمّال على أنها مسألة أمنية يجب السيطرة عليها واحتوائها، وليس باعتبارها شكوى اجتماعية يمكن حلّها على أفضل وجه من خلال إنشاء عقد اجتماعي جديد.
يمكن أن يتّضح استمرار نهج نظام مبارك القاسي في التعامل مع الحركة العمّالية، من خلال تشريعات حكومة رئيس الوزراء السابق عصام شرف، التي حظرت الإضرابات في جميع أنحاء البلاد التي أعقبت الثورة، ومن المؤكد أن هذا القانون لم يفعل شيئًا لقمع الإضرابات، لأن القمع ليس حلًّا أبدًا للمظالم المشروعة.
احتجاجات ما بعد الثورة ليست كما قبلها
عام ونصف بعد تنحّي مبارك لم تعرف خلالهما مصر الهدوء بفعل انفتاح المجال السياسي فجأة على مصراعَيه، وبفعل أحداث دامية أكّدت لدى كثيرين الشكوك حول حقيقة إسقاط النظام القديم الذي ظلَّ أركانه يُبرَّأون تباعًا.
في منتصف عام 2012، تولّى الرئاسة محمد مرسي بعد انتخابات غير مسبوقة، لكن الأمر لم يستتبَّ يومًا واحدًا لأول رئيس مدني خلال عام رئاسته الوحيد المثير لكثير من الجدل، لتتصاعد الاحتجاجات المطالبة برحيله مدعومة بحماية من الشرطة والقوات المسلحة.
اتسمت الأشهر الخمسة التي أعقبت الانقلاب على مرسي بأعلى مستوى من الاحتجاجات (107.5 في اليوم) منذ ثورة 2011 التي أدّت إلى الإطاحة بمبارك. على النقيض من ذلك، خلال عام مرسي في السلطة كان هناك، في المتوسط، 38.6 احتجاجًا يوميًّا.
في 30 يونيو/ حزيران 2013، في الذكرى الأولى لتنصيب الرئيس محمد مرسي، تجمّع عشرات الآلاف من الأشخاص -تحت حماية الشرطة والجيش- أمام القصر الرئاسي، كان الجيش يستجيب لإرادة الشعب، وليس الاستيلاء على السلطة كما كان يروِّج.
في حين أن قلّة من المراقبين كانوا على استعداد لتصديق المصادر العسكرية المجهولة، التي ادّعت أن ما يصل إلى 33 مليون شخص كانوا في الشوارع، إلا أن الكثيرين ما زالوا يوافقون على أن مرسي واجه مستوى مرتفعًا بشكل غير معتاد من الاحتجاجات في الشوارع خلال عامه الوحيد في السلطة.
أسّسَ وزير الدفاع آنذاك، عبد الفتاح السيسي، انقلابه على هذه الرواية، مدّعيًا أنه كان لا بدَّ من إنهاء حكم محمد مرسي لأن البلاد قد دمّرها عدد قياسي من الاحتجاجات، لكن بيانات الاحتجاج في عهده أيضًا تضع هذه الرواية موضع تساؤل. بدلاً من التركيز على حجم الاحتجاجات قصيرة الأجل -مهما كانت مهمة أو رمزية-، تصبح الصورة أكثر تعقيدًا عندما ننظر إلى متوسط عدد الاحتجاجات في اليوم على مدى فترة زمنية أطول.
تُظهر البيانات التي نشرَها مركز كارنيغي للشرق الأوسط، أن متوسط عدد الاحتجاجات في اليوم تضاعفَ 3 مرات تقريبًا بعد الإطاحة بمرسي، حيث اتسمت الأشهر الخمسة التي أعقبت الانقلاب على مرسي بأعلى مستوى من الاحتجاجات (107.5 في اليوم) منذ ثورة 2011 التي أدّت إلى الإطاحة بمبارك. على النقيض من ذلك، خلال عام مرسي في السلطة كان هناك، في المتوسط، 38.6 احتجاجًا يوميًّا.
النظام الذي سمحَ وحرَّضَ وبالغَ في حجم الاحتجاجات لإضفاء الشرعية على الإطاحة بمحمد مرسي، قد وضع حدًّا للاحتجاجات تمامًا.
لم تتقلّص التعبيرات العامة عن المعارضة في مصر بشدّة إلا بعد أن أصدر الرئيس المؤقت، عدلي منصور، قانون التظاهر في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013؛ القانون الذي وُصف بأنه أكثر قسوة من قانون الاحتجاج لعام 1914 الذي حلَّ محله، والذي أقرّه ضبّاط الاستعمار عندما كانت مصر لا تزال تحت حماية بريطانيا.
في عام 2014، ترشّح السيسي للانتخابات بنفسه، وفازَ بأغلبية ساحقة بعد أن أقصى جميع منافسيه، ثم سرعان ما تبنّى سياسة عدم التسامح مطلقًا مع أي احتجاجات تقودها المعارضة، وكانت هناك حملة قمع غير مسبوقة على الحريات الأساسية وعلى وسائل الإعلام، وانتهى المطاف بالعديد من الشخصيات السياسية للثورة، من كتّاب وفنانين ونشطاء، في السجن أو المنفى، وأصبح من الصعب منذ ذلك الحين مواكبة أخبار من تمَّ القبض عليه أو إعادة اعتقاله أو يواجه تُهمًا جديدة.
يبدو أن النظام الذي سمحَ وحرَّضَ وبالغَ في حجم الاحتجاجات لإضفاء الشرعية على الإطاحة بمحمد مرسي قد وضع حدًّا للاحتجاجات تمامًا، لكن الأمور ليست كما تبدو، فمنذ بداية الاحتجاجات ضد مرسي في 30 يونيو/ حزيران 2013 حتى 31 ديسمبر/ كانون الأول 2015، سجّلت قاعدة البيانات التي تراقب باستمرار الأحداث العالمية (GDELT) 54677 احتجاجًا في مصر.
ومع ذلك، لا تأخذ بيانات الاحتجاج في الحسبان حجم كل احتجاج، حيث يتمّ احتساب احتجاج صغير بنفس طريقة احتجاج كبير، وهذا يعني أيضًا أن تصاعد الاحتجاجات بعد الإطاحة بمرسي لا يمكن أن يُعزى إلى الاعتصامات الحاشدة في ميدانَي رابعة العدوية والنهضة، رغم أن اعتصام رابعة كان أكبر بكثير من الاعتصامات في ميدان التحرير عام 2011 من حيث المساحة الجغرافية التي احتلّها، إلا أنه اُحتسب احتجاجًا واحدًا فقط من بين 107.5 احتجاجات حدثت في المتوسط يوميًّا بعد الانقلاب وقبل تمرير قانون التظاهر.
تكشف البيانات أيضًا أنه منذ تنصيب السيسي كرئيس في 8 يونيو/حزيران 2014 حتى نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2015، كان هناك ما معدّله 29.1 احتجاجًا يوميًّا، في حين أن هذا الرقم أقل من المتوسط (38.6 احتجاجًا يوميًّا) أثناء وجود مرسي في السلطة، فهو أيضًا أعلى بكثير من عدد الاحتجاجات خلال العقد الأخير من حكم حسني مبارك.
بلغة الأرقام، كان هناك ما يقارب 5 أضعاف عدد الاحتجاجات التي تحدث في المتوسط يوميًّا في عهد السيسي، مقارنة بما كان عليه الحال في الفترة من عام 2008 حتى عام 2010 في عهد مبارك، وعلاوة على ذلك ظلَّ عدد الاحتجاجات منذ فبراير/ شباط 2014 ثابتًا إلى حد ما.
لا يمكن قياس معدل زيادة هذه الاحتجاجات في السنوات التالية التي أعقبت تولي السيسي السلطة، ففي حين استخدم النظام الحراك في الشارع لإضفاء الشرعية على الإطاحة بمرسي، تحرك على الفور لإسكات أي عمل جماعي من هذا القبيل في حملة قمع شرسة لم تتوقف فصولها حتى اليوم، ودشّنَ حملة دموية غير مسبوقة في تاريخ البلاد، شملَت ارتكاب أكبر مذبحة في تاريخ مصر ما بعد الاستعمار، وإعلان جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية، وإصدار أحكام الإعدام الجماعية، وإقرار قانون التظاهر الصارم الجديد.
دفعت هذه الحملة القمعية العديد من المراقبين إلى الاعتقاد بأنه من غير المرجّح حدوث انتفاضة جماهيرية أخرى، بحجّة أن التهديد الأكبر للسيسي لا يأتي من الاحتجاجات لكن من داخل نظامه، لذلك تُظهر البيانات أن العدد الإجمالي للاحتجاجات منذ عام 2015 يُظهر علامة واضحة على التناقص التدريجي.
الآن، مع كل محادثة أو مكالمة للاحتجاج على وسائل التواصل الاجتماعي، يقدِّم مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي نصائح لبعضهم حول إخفاء حساباتهم، لأن الشرطة تبحث بشكل عشوائي في هواتف المواطنين.
يبدو أن القمع والرقابة الإعلامية وضعا حدًّا للاحتجاجات في مصر أو حقّقا “الاستقرار” الذي وعدَ به السيسي، لكن اللافت خلال السنوات الأخيرة هو التجدُّد المتباعد والمتفاوت لموجات احتجاج شعبي ذات دوافع مختلفة، ففي عام 2016 تحدّى المتظاهرون القيود مع تصاعد الغضب العام من قرار السيسي بنقل السيادة على جزيرتَي تيران وصنافير في البحر الأحمر إلى المملكة العربية السعودية.
في أواخر عام 2019، اندلعت مظاهرات انخرطت فيها أعمال وقطاعات مجتمعية لم تَثُرْ عام 2011، بسبب سلسلة من مقاطع الفيديو التي نشرها المقاول السابق محمد علي، الذي يعيش في منفى اختياري في إسبانيا، واتّهم السيسي وكبار المسؤولين بالفساد، بينما كانت هذه الاحتجاجات صغيرة نسبيًّا وقصيرة الأجل أول تهديد حقيقي لحكم السيسي منذ سنوات.
ربما لم تكن المظاهرات في عهد السيسي كبيرة كما كانت في 30 يونيو/ حزيران 2013، إلا أن السمة المميزة للاحتجاجات في عهده هي العناد الذي لا هوادة فيه، لذلك ليس من السهل القول إن جدار الخوف الذي هدمه المصريون عام 2011 قد أُعيد بناؤه، أو أن أنفاس الثورة خُنقت في صدور المصريين بقبضة القمع الأمني.