ترجمة حفصة جودة
لم يفوت سليمان الهذالين – 73 عامًا – أي فرصة لمواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة مسافر يطا بالخليل في الضفة الغربية المحتلة، بوشاحه الأبيض الذي يغطي شعره الرمادي الطويل وعصاه الخشبية في يده، كان سليمان يحاول عادة منع الجرافات الإسرائيلية من هدم منازل الفلسطينيين أو الجرارات من تدمير أراضيهم.
ورغم أنه لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة ولا استخدام الإنترنت، كان الراحل الذي عُرف باسم “الشيخ” أو “الحاج سليمان” على اتصال جيد بكل من حوله.
في يوم 17 يناير/كانون الثاني، حضر نحو 15 ألف فلسطيني جنازته في قرية أم الخير شمال مسافر يطا بعد أسبوعين من دهسه عمدًا بواسطة شاحنة إسرائيلية، يقول إبراهيم – 60 عامًا – شقيق سليمان: “كان الحضور غير مسبوق في مسافر يطا، لم تشهد مجتمعات جنوب الخليل شيئًا مثل ذلك من قبل”.
تعد مجتمعات مسافر يطا منزلًا لنحو 7000 آلاف فلسطيني، وهم في طليعة الكفاح من أجل الصمود وسط جهود إسرائيلية لطردهم، بما في ذلك رفض توصليهم بشبكة المياه والكهرباء.
يقول إبراهيم واصفًا إياه كأيقونة مؤثرة في الشارع الفلسطيني: “كان يقف في الصفوف الأمامية مع الشباب، وربما ينام على الأرض لمنع المركبات العسكرية من المرور لتدمير منزل فلسطيني”.
أصيب سليمان بجروح قاتلة يوم 5 يناير/كانون الثاني عندما دهسته شاحنة إسرائيلية في أم الخير خلال حملة مداهمة من عشرات السيارات العسكرية الإسرائيلية للقرية لمصادرة مركبات فلسطينية غير مسجلة.
وفقًا لتقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “UNOCHA” فإن الشاحنة دهسته ثم سحبت جسده عدة أمتار دون توقف، أطلقت القوات الإسرائيلية النيران في الهواء لتفريق الحشود المجتمعة للتظاهر ضد الحملة ثم تراجعت سريعًا عن القرية تاركة جسده المدمى على الأرض، وبسبب نقص خدمات الإسعاف في القرية، نُقل الشيخ في سيارة خاصة إلى أقرب عيادة طبية تبعد نحو 15 كيلومترًا، لكنه تُوفي بعد 12 يومًا في مستشفى بالخليل.
رفعت عائلته قضية في المحاكم الإسرائيلية ضد سائق الشاحنة الذي دهسه والشرطي الذي لم يقدم له العلاج، لكن رغم مرور أسبوعين لم تستجوب الشرطة الإسرائيلية سائق الشاحنة بعد، وقالت الشرطة إنها تحقق في الحادث بمساعدة مكتب المدعي العام، وفقًا لوسائل الإعلام الإسرائيلية.
قال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية: “سليمان كان يتظاهر بسلمية على الطريق، وكان ظاهرًا للعيان بشكل واضح أمام سائق الشاحنة والضباط الإسرائيليين، وليس هناك أي دليل على تقديم القوات الإسرائيلية المساعدة، فقد غادروا المكان فورًا بعد الحادث”.
غرفة جمع المعلومات
ترك سليمان ورائه 3 أشقاء و7 أبناء و3 بنات ونحو 30 حفيدًا، حشد مجموعة منهم لإبلاغه بكل الاحتجاجات المخطط لها، حيث أسس غرفة جمع معلومات، كان ابنه منتصر – 34 عامًا – رفيقًا له.
يقول منتصر: “كان والدي في طليعة الاحتجاجات ضد الاحتلال، كنت مسؤولًا عن جمع تواريخ وأماكن الاحتجاجات في كل مكان، أستيقظ مبكرًا وأذهب إليه حاملًا كل التفاصيل، في بعض الأحيان كنت أخفي بعض التواريخ عنه قلقًا على صحته لكبر سنه، لكن عندما يكتشف ذلك كان يغضب كثيرًا فتوقفت عن ذلك، لقد فقد البيت أساسه المتين”.
أصبحت قرية أم الخير – التي تضم نحو 1000 مواطن فلسطيني – منزلًا جديدًا لسليمان بعد نزوحه مع والديه وشقيقه الأصغر قسرًا من بلدتهم تل عراد في صحراء النقب بسبب الميليشات الصهيونية في أثناء حرب 1948 لتأسيس دولة الاحتلال.
في الثمانينيات، بدأ الجيش الإسرائيلي في بناء مستوطنة الكرمل غير القانونية على امتداد أراضي أم الخير، لتشكل معاناة أخرى للعائلة.
مثل بقية المجتمعات الفلسطينية الأخرى في مسافر يطا، تفتقر أم الخير للضروريات الأساسية مثل الكهرباء والماء والبنية التحتية والمنشآت التعليمية والصحية، كما يُمنع سكانها من بناء منازل دائمة، ما يضطرهم للعيش في أكواخ وخيام من الصفيح.
في الوقت نفسه، كانت مستوطنة الكرمل واحةً خضراء تمتلئ بالملاعب والحدائق ومزارع الدجاج التي تعمل بالكهرباء، يبعد منزل سليمان 3 أمتار فقط عن المستوطنة، ما جعله ضحية عشرات الهجمات من المستوطنين الذين يحميهم جيش الاحتلال وشرطته، خلال السنوات القليلة الماضية، تعرضت قرية أم الخير لأكثر من 15 عملية هدم.
إذا لم نقاوم، فمن سيقاوم؟
التقى فؤاد العمور – 38 عامًا – لأول مرة بسليمان عام 2018 وصاحبه 5 سنوات في رحلة المقاومة، أسسا مع العديد من سكان القرية لجنة الصمود والحماية في مسافر يطا لمحاربة السياسات الإسرائيلية الممنهجة لتهجير المواطنين الفلسطينيين.
يقول العمور إنهم وثقوا هدم منازل الفلسطينيين من خلال كاميرات اللجنة، فاضحين ممارسات وجرائم قوات الاحتلال ضد السكان الفلسطينيين، ما شكل رادعًا لهجمات المستوطنين في المنطقة.
يضيف العمور “كان الشيخ جزءًا أساسيًا في كل خطوة نتخذها، قبل يوم من دهسه طلب مني تنظيم مظاهرة في قرية أم الزيتونة حيث هدمت قوات الاحتلال عدة منازل، كان دائمًا ما يقول: إذا لم نقاوم فمن سيقاوم؟”.
“لم يشارك الشيخ سليمان في أحداث مسافر يطا فقط، لكنه كان حاضرًا في كل الاحتجاجات داخل وخارج الخليل من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب”.
يشير العمور إلى أن سليمان اعتاد الاستيقاظ منذ الفجر في أيام الاحتجاجات ليكون أول الحضور، وكان يرفض تناول الطعام أو الشراب حتى نهاية اليوم قائلًا: “لقد وهبت يومي لله وللوطن وسيظل لله وللوطن”.
يقول العمور: “في 2021 فقط اعتقل الشيخ أكثر من 60 مرةً وفرضت عليه عشرات الغرامات الباهظة، كان الجيش الإسرائيلي يستهدف الشيخ سليمان في بداية المظاهرات أو عمليات الهدم، حيث يعتقلوه أو يضربوه أو يأخذوه إلى مكان غير معلوم حتى ينتهي الحدث أو الهدم لأنهم يعملون أنه المحرك الرئيسي لتلك الاحتجاجات”.
“كانت مقاومة الشيخ لقوات الاحتلال سلميةً تمامًا، فهو لم يستخدم قط العصا التي كان يحملها دائمًا أو حتى حجر”.
يصف إبراهيم شقيقه الراحل بأنه كان عقبة أعاقت السياسات الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين، لكنه اختفى الآن من المشهد، ومع ذلك فهو يفخر بأن سليمان ورفاقه أظهروا للعالم بطريقة واضحة جرائم الاحتلال المقيتة ضد الشعب الفلسطيني.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية