مدريد
8 نوفمبر/ تشرين الثاني 1936
إنها الساعة السادسة فجرًا، حين بدأ الهجوم القومي بقيادة الجنرال إيميليو مولا على ضاحية كارابانشل جنوب غربي مدريد بـ 20 ألف جندي، معظمهم من النظاميين المغاربة، مدعومين بالدروع الإيطالية الخفيفة ودبابات بانزر 1 الألمانية بقيادة الضابط الألماني فيلهلم فون توما، كما قدّم فيلق كوندور الألماني دعمًا جويًّا كذلك؛ بينما نشرَ الجمهوريون 12 ألف جندي في كارابانشل و30 ألفًا آخرين لمواجهة الهجوم الرئيسي في كاسا دي كامبو شمال غرب العاصمة.
في نهاية يوم طاحن من المعارك، اخترق الجنود المغاربة خطوط الدفاع الجمهورية، وقاموا بعبور أوّلي عبر منطقة مانزاناريس باتجاه سجن موديلو، هدف الهجوم، لكن الهجوم توقف عند الحافة الغربية للمدينة، فقد كان الجنرال الجمهوري خوسيه مياجا نفسه يقود مجموعة من كتائب اللواء الدولي التي أوقفت الهجوم الكاسح للمغاربة، واستعادت المنطقتَين؛ وللمفارقة كان كثير من مقاتليه عربًا أيضًا!
عرب من أجل الجمهورية
بسبب التوثيق المحدود وغياب الإشراف التاريخي، لا يُعرَف الكثير عن العرب الذين حملوا السلاح للدفاع عن إسبانيا وحمايتها من براثن الفاشية، ونتيجة لذلك تظلُّ العديد من أسماء المتطوعين العرب غير معروفة.
عنوان هذا الغلاف لمجلة “ستامبا” لعام 1936 هو “الميليشيات المغربية تحارب من أجل الجمهورية”.
فتحديد عددهم الدقيق هو مهمة شاقة أيضًا، ويزعم بعض المؤرِّخين أن ما يصل إلى 1000 عربي انضموا إلى الألوية الدولية، ومع ذلك وجدَ المؤرِّخ الكاتالوني أندرو كاستلس، الذي أجرى بحثًا مكثّفًا في هذا الموضوع، 716 حالة مسجّلة.
كان التفاوت في الأرقام نتيجة عدم انتظام حفظ السجلّات بين القوات الجمهورية، وسوء الترجمات والارتباك بسبب الجنسية الاستعمارية، حيث تمَّ تسجيل العديد من العرب المتطوعين كمواطنين فرنسيين، لأن كانت العديد من دول شمال أفريقيا لا تزال تحت الحكم الاستعماري عندما اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية.
بالإضافة إلى ذلك، هناك أخطاء إملائية في كتابة الأسماء العربية، وبالتالي يتم تسجيلها عدة مرات، وما يقرب من نصف العرب الذين تطوعوا في إسبانيا كانوا جزائريين، 493 انضموا إلى القوات الجمهورية، ونجا 332 منهم.
“كانت هناك حركة فوضوية قوية في الجزائر في ذلك الوقت، ما دفع الكثيرين إلى الانضمام، ولكن من الناحية العملية كان من الأسهل عليهم الوصول إلى إسبانيا حيث كانت هناك قوارب مباشرة من وهران إلى أليكانتي”، كما تقول المخرجة المصرية أمل رمسيس، صاحبة فيلم “تعال من بعيد“، عن الوجود العربي في الحرب الأهلية الإسبانية.
وفقًا لأرقام كاستلس وأرشيف الدولة الروسي للتاريخ الاجتماعي والسياسي، حمل 211 مغربيًّا و11 سوريًّا و4 فلسطينيين و3 مصريين وعراقيان ورجل لبناني السلاح أيضًا مع الكتائب الدولية، وتتنوع الدوافع وراء المشاركة العربية في الحرب الأهلية الإسبانية، رغم أن رمسيس تعتقد أنهم كانوا مدفوعين بغاية تحرُّرهم في المستقبل.
وتقول: “المتطوعون العرب لم يجنَّدوا تضامنًا مع إسبانيا فحسب، ولكن أيضًا للدفاع عن مستقبلهم (…) بالنسبة لهم، فإن انتصار الجمهوريين في إسبانيا سيعني إنهاء استعمار العالم العربي على المدى الطويل، وسيكون بداية لتحريرهم”.
على اليمين من الأعلى، مقاتل عراقي يُدعى نوري أنور، ضمن قوات الجمهورية.
كان من أبرز العرب الذين شاركوا في الحرب الأهلية الصحافي الفلسطيني الشيوعي محمد نجاتي صدقي، الذي اعتقدَ أن سقوط الفاشية الأوروبية سيتيح مزيدًا من تقرير المصير والاستقلال بين الشعوب العربية، ولا عذر يمنع العرب من التطوع.
“ألسنا أيضًا نطالب بالحرية والديمقراطية؟ ألن يتمكّن المغرب العربي (شمال غرب أفريقيا) من تحقيق حريته الوطنية في حالة هزيمة الجنرالات الفاشيين؟”، يتساءل صدقي.
يتذكّر صدقي تقديم نفسه لميليشيات الحكومة المحلية الإسبانية بالقول: “أنا متطوع عربي، لقد جئت للدفاع عن حرية العرب على الجبهة في مدريد. جئت للدفاع عن دمشق في غوادالاخارا، والقدس في قرطبة، وبغداد في توليدو، والقاهرة في الأندلس، وتطوان في برغش”.
لم يتمَّ إرسال صدقي للقتال ضمن الكتائب الدولية، بدلًا من ذلك عمل في صحيفة “موندو أوبريتو”، ثم أدار إذاعة مناهِضة للفاشية، لزعزعة استقرار القوات المغربية التي تشكّل الجزء الأكبر من قوات فرانكو.
“لا داعي للقتال مع الجنرال الفاشي، كل من يترك قوات الطاغية سيكون مرحّبًا به، وسيحصل على نفس راتبه، وسيعود للوطن إذا ما أراد التوقف عن القتال”، كانت هذه هي الدعاية التي تنشرها الإذاعة، وفي حقيقة الأمر لم يستجب إلا القليل من المقاتلين المغاربة، حيث كان الكثير منهم يفضّل المال مع فرانكو، والكثير منهم لا يجيدون العربية الفصحى التي كان صدقي يستخدمها في الإذاعة.
عرب فرانكو
على الجانب الآخر، شكّلت القوات العربية العمود الفقري من قوات الجنرال فرانشيسكو فرانكو، حيث يقول البروفيسور سيباستيان بالفور، وهو خبير في تاريخ إسبانيا وماضيها الاستعماري، إن “غالبية العرب (من المشاركين بشكل مباشر) كانوا إلى جانب فرانكو؛ تمَّ إحضار 80 ألف جندي أو نحو ذلك من المغرب كانوا معروفين باسم “المنظمين” وكذلك “جيش أفريقيا””.
صورة لنقطة تفتيش عام 1937 تضمُّ جنودًا مغاربة مع فرانكو.
لكن السؤال هو: ما الذي دفع المغاربة الذين تعرّضوا لقمعٍ استعماري وحشي إلى عبور مضيق جبل طارق والقتال في أرض أجنبية؟ الجواب يكمن في التاريخ الاستعماري للمغرب، حيث كانت هناك معارضة قوية للمستعمرين من منطقة الريف في شمال المغرب، بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي.
يقول البروفيسور بالفور: “قاد عبد الكريم كفاحًا كبيرًا لتوحيد القبائل المختلفة، وأن ما لا يعرفه الكثير من الناس هو أن إسبانيا كانت القوة الأولى التي تستخدمُ الأسلحة الكيميائية، بما في ذلك غاز الخردل، كسلاح جوّي ضد المدنيين”.
ويكمل: “لم يتمكّنوا من هزيمة المتمردين بالوسائل التقليدية، لذلك ألقوا بالغاز القاتل في القرى والأسواق، ويبدو أن الدافع وراء الهجمات الكيماوية المروّعة كان الانتقام لهزيمة الجيش الإسباني في أفريقيا ومجنّديه المغاربة في معركة أنوال في 22 يوليو/ تموز 1921، وقُتل حوالي 13 ألف جندي إسباني واستعماري في تلك المعركة، ما أدّى إلى أزمة سياسية وتغيير في السياسة الاستعمارية الإسبانية تجاه منطقة الريف”.
يقول البروفيسور الإسباني إن معظم الجنود الذين جنّدهم فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية لم يكونوا من منطقة الريف، وإنما من مناطق أخرى، وكانوا من الأساس موالين للإسبان، حيث كان فرانكو قادرًا ببساطة على ترسيخ أيديولوجيته الفاشية بين هؤلاء النظاميين أو ما يُعرَفون بالـ Regulares، ووعدهم برواتب جيدة ومساعدة عائلاتهم.
لم يكن المال وحده على ما يبدو هو الحافز الذي دفع هؤلاء المقاتلين للقتال في إسبانيا، فإلى جانب هذا كان هناك تعزيز للدافع الديني في المعركة، حيث كانت المعركة تبدو لكثيرين وكأنها حرب ضد الشيوعيين والملاحدة.
وبعكس الجمهوريين العرب الذين كانوا يعانون العنصرية في أوساط الجمهوريين، كان المغاربة يتمتّعون بمكانة بارزة عند فرانكو، فقد كانوا القوة الضاربة الرئيسية، وكان يحقّ لهم الصلاة وممارسة الشعائر الدينية الإسلامية، بل كان معهم الكثير من الشيوخ والأئمة المرافقين للجيش.
كانت القوات المغربية مع فرانكو هي قوات الصدمة التي حسمت الكثير من المعارك وسحقت قوات الجمهوريين، ونتجة لذلك سقط العديد منهم أثناء القتال، ويُعتقد أن ما يقارب من 10% إلى 12% منهم سقط أثناء القتال.
وفي النهاية انتهت الحرب الأهلية بانتصار فرانكو، بعد أن كان مسلّحًا ومدعومًا بشدة من الفاشيين الألمان والإيطاليين، بينما تلقّت الحكومة الجمهورية دعمًا محدودًا من الإدارات اليسارية في الاتحاد السوفيتي والمكسيك.
وسُمح لبعض المغاربة الذين قاتلوا من أجل فرانكو بالاستقرار في إسبانيا بعد الحرب، لكن تمَّ تشجيع الكثيرين بشدّة على العودة، وفي عام 2013 أنشأ نشطاء مغاربة مركز الذاكرة المشتركة والمستقبل، للتواصل مع المجتمع المدني الإسباني لتغيير المواقف تجاه الماضي والتركيز على التعاون المستقبلي، ويحاول المركز البحث في مصير المغاربة الذين لقوا حتفهم خلال الحرب.