برزت خلال الأشهر الماضية عدة حملات خيرية وإغاثية تستهدف اللاجئين السوريين وغيرهم ممن تشردوا بسبب الحروب والنزاعات السياسية، حيث يعاني هؤلاء اللاجئون والنازحون الذين يعيشون في الخيام من أوضاع قاسية جراء انخفاض درجات الحرارة في فصل الشتاء وانعدام مصادر التدفئة المناسبة، وعلى مدار 10 سنوات من موجات الهجرة والنزوح المختلفة، ظلت هذه المأساة الإنسانية تزداد سوءا عامًا بعد عام، دون طرح أية حلول جذرية تنهي معاناة الآلاف ممن ضاقت بهم الأرض.
ومع ذلك، سعت منظمات إغاثية ومؤسسات خيرية وفرق تطوعية إلى إنقاذ الموقف والعمل مع ما تتطلبه الحاجة الإنسانية ولو بالحد الأدنى حسب القدرات والإمكانات، ومؤخرًا بدأت هذه الجهات تطور من آليات العمل الإغاثي، وتحديدًا من ناحية الأدوات والوسائل التي تعمل على استجلاب الدعم لإمداد العوائل المحتاجة بكل ما يلزم. هذا التطور تسابقت إليه شخصيات ومنظمات وفرق تطوعية، بعيدةً عن المنظمات الدولية التي صارت غير مرغوبة بسبب عامل البيروقراطية وما يرافقها من مماطلة في إجراءات التسجيل والتنفيذ.
تنافسية جديدة
من أوائل الحملات اللافتة للنظر بخصوص دعم اللاجئين، ما بدأ به صانع المحتوى الكويتي “أبو فلة” السنة الماضية، حين استطاع من خلال بث مباشر جمع ثمن 12 منزلًا للاجئين سوريين يقيمون في مخيمات النزوح شمال سوريا، ولقيت مبادرته حينها ترحيبًا واسعًا، لأنه استخدم تأثيره على وسائل التواصل الاجتماعي في أعمال الخير والعمل الإغاثي.
استمر أبو فلة بعد ذلك في جمع مليون دولار للتبرعات الخيرية عبر 28 ساعة من البث المتواصل، وهو مبلغ قال إنه سيوزع على أكثر من 17 ألف لاجئ ونازح من برد الشتاء القارس، وقد سلط أبو فلة الضوء من خلال حملاته تلك على أهمية أن يعمل المؤثرين عبر منصاتهم لأمور تفيد المجتمع وتخدم القضايا الإنسانية عوضًا عن تقديم محتوى يهتم فقط بالربح وجمع الأرقام.
مع ذلك، أثارت الحملة الأخيرة التي استطاع بها المؤثر الكويتي جمع 11 مليون دولار لمساعدة اللاجئين في المخيمات جدلًا واسعًا بسبب طريقة تعامل منظمات الأمم المتحدة مع أموال التبرعات، فقد قالت المفوضية في بيان لها بأن نصف عائدات المبلغ الذي جمعه أبو فلة سيكون مخصصًا “لدعم جهود المفوضية للوصول إلى العائلات اللاجئة والنازحة ومساعدتهم خلال الأشهر القادمة”، أي ما يعني تكاليف إدارية وأجور تحويلات ورواتب موظفين وغيرها من النفقات، وبعد الضجة التي أثارها البيان، أصدرت المنظمة بيانًا آخر ذكرت فيه أن “كامل التبرعات التي نجح أبو فلة في جمعها لصالح العائلات المحتاجة عبر حملة “لنجعل شتائهم أدفأ” سيجري رصدها للاجئين والنازحين والمحتاجين”، وبينت أن ذلك سيحدث عبر توزيع “نصفها من خلال برامج المساعدات للمفوضية والنصف الآخر من خلال شبكة بنوك الطعام الإقليمية”.
فتح “أبو فلة” الباب أمام بعض المؤثرين العرب لجمع التبرعات بالطريقة ذاتها، عبر البث المباشر، مثل الحملة التي أطلقها المدون الرقمي الفلسطيني صالح زغاري وبعض أصدقائه السوريين برعاية “مؤسسة الخير”، والتي استطاع من خلالها بعد أكثر من 35 ساعة متواصلة من البث المباشر على موقع يوتيوب جمع 350 ألف دولار في حملة خيرية أطلق عليها اسم “عطاؤك دفئهم”، وتستهدف “دعم الفقراء والمعوزين واللاجئين من فلسطين واليمن ولبنان وسوريا”.
بدوره أطلق الإعلامي المصري يوسف حسين الشهير بـ”جو شو”، مبادرة تهدف إلى جمع تبرعات لبناء قرية متكاملة للنازحين في شمال سوريا، تتألف من 200 منزل وتتضمن مسجدًا ومدرسةً ومستشفى لإيواء النازحين السوريين في المخيمات، وذلك بالتعاون مع منظمة “Human Appeal”.
محليًا، ومن داخل مخيمات النزوح شمال سوريا، بدأ فريق ملهم التطوعي بحملة جمع تبرعات تستهدف نقل عائلات من النازحين السوريين إلى بيوت عوضًا عن الخيام التي باتت حالتها مأساوية بسبب أوضاع الجو السيئة، الحملة أيضًا جاءت من خلال البث المباشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي من أحد مخيمات المهجرين، وتهدف حملة “حتى آخر خيمة” إلى إزالة مخيم كامل للنازحين في شمال غرب سوريا عبر نقل 68 عائلةً تقيم فيه، كمرحلة أولى، إلى وحدات سكنية أعدت لاستقبالهم.
وتأتي هذه الحملة ضمن مساعي الفريق التطوعي خلال السنوات الماضية إلى اتباع سياسة استبدال الخيام بمنازل مؤقتة تؤمن لعائلات المخيمات الحماية والاستقرار وتقيهم من كوارث الحرائق وبرودة الطقس والعواصف المطرية والثلجية.
البيروقراطية الإغاثية
ربما ستؤسس الحملات المذكورة آنفًا لنهج جديد في التعامل مع الحالات الإنسانية في سوريا وغيرها من مناطق النزاع، وربما تجدي نفعًا أكثر من الطرق التقليدية، وخاصةً إذا استطاعت تجاوزت الإجراءات الروتينية البطيئة، وتمكنت من إيصال المبالغ الممنوحة لمستحقيها خلال وقت قصير، ووفق أولوياتهم واحتياجاتهم الفعلية، بعيدًا عن ما تفرضه بروتوكولات المنظمات الدولية الأخرى.
في السياق يقول رائد الصالح مدير منظمة الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء”، إن البيروقراطية التي تعتمدها الأمم المتحدة في تقديم الاستجابة الطارئة تؤخر وصول المساعدات، ويضيف “أنظمة التمويل الإنسانية التي تعمل ضمنها الأمم المتحدة لا تنظر إلى أرض الواقع، مثلًا الأمم المتحدة لا تساهم في مشاريع بناء الوحدات السكنية أو البيوت عوضًا عن الخيام لأنها تعتبر ذلك توطينًا ومساهمةً في التغيير الديموغرافي في البلاد.
أما بالنسبة للفرق المحلية فالتمويل الذي يأتيهم يحولونه إلى المستفيدين آنيًا حسب الحاجة، ففي الحملة الأخيرة “حتى آخر خيمة”، يتم نقل عائلة من خيمة إلى منزل فور جمع 4000 دولار، وهو ما يعطي مصداقية أكبر للحملة ودفعًا أكثر للناس حتى يتبرعوا للمتضررين والمحتاجين، وكذا فعل أعضاء حملة “عطاؤك دفئهم” التي قادها اليوتيوبر الزغاري، فقد حول التبرعات التي أتته إلى مساعدات عينية وبدأ توزيعها على المحتاجين بعد انتهاء الحملة، وهنا نستطيع القول إن المنظمات المحلية قادرة أكثر من المنظمات الدولية على فهم احتياجات المتضررين والنازحين.
من جانب آخر، يتردد البعض في منح تبرعاته للمؤسسات الدولية المعروفة، مثل الأمم المتحدة، لأن جزء من تلك المساعدات ترسلها إلى مناطق سيطرة النظام السوري، ما يجعل هذه المساعدات دون فائدة للمحتاجين، وهذا الأمر يقلل الثقة بجدوى التبرع، علمًا أن وكالات الأمم المتحدة مثل منظمة الصحة العالمية سمحت لنظام الأسد بالسيطرة على الاستجابة الإنسانية الدولية البالغة 30 مليار دولار، من خلال استخدام أموال المانحين لتجنب العقوبات ودعم المجهود الحربي للحكومة، وتجدر الإشارة إلى أن الحصة الكبرى من هذه المليارات المحوَلة هي من نفس الحكومات الغربية التي فرضت العقوبات على سوريا.
في هذا الخصوص، أشار المركز السوري لبحوث السياسات في تقرير له إلى أنه في عام 2017 كان “إجمالي النفقات الإنسانية للمجتمع الدولي في سوريا – بما في ذلك مصادر الأمم المتحدة وغير الأمم المتحدة للتمويل – يعادل نحو 35% من الناتج المحلي الإجمالي للبلد. أدرك النظام في بداية الحرب أن حجم هذا الجهد سيطغى على قدرات الهلال الأحمر، ونتيجة لذلك أنشأت الحكومة في عام 2013 لجنة الإغاثة العليا وهي وكالة مكلفة بتنسيق طلبات الأمم المتحدة لإيصال المساعدات الإنسانية مع الوزارات الحكومية الرئيسية والفروع المختلفة لقوات المخابرات”.
من جهتها ذكرت صحيفة “الغارديان” البريطانية في تقرير سابق لها، أن نظام الأسد “يسحب ملايين الدولارات من المساعدات الخارجية من خلال إجبار وكالات الأمم المتحدة العاملة في مناطق سيطرته على استخدام سعر صرف أقل، وهو السعر الذي يُحدده البنك المركزي”، وقالت الصحيفة: “البنك المركزي السوري الخاضع للعقوبات من المملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي جنى 60 مليون دولار عام 2020 من خلال جمع 0.51 دولار من كل دولار مساعدات يتم إرسالها إلى سوريا، ما يجعل عقود الأمم المتحدة واحدة من أكبر السبل لكسب المال بالنسبة إلى نظام الأسد وحكومته”.
ختامًا، يعود الشتاء في كل مرة ليذكرنا بمأساة أهل الخيام، فتهرع المنظمات والفرق للإغاثة والاستجابة الطارئة، دون تقديم حل جذري في ظل غياب الجهود الدولية المعنية في إعادة النازحين واللاجئين إلى بيوتهم، وبالتالي، وفي ظل الظروف الحاليّة تبقى المبادرات الخيرية بكل أدواتها ووسائلها السبيل الوحيد في تدارك الخطر قدر الإمكان وإنقاذ حياة أرواح الناس، ويكتمل ذلك بتكاتف الجميع.