ظلَّ ميدان التحرير لعقود رمزًا لعدة أيقونات متداخلة: الثورة، بداية من انطلاقة ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي، إلى ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، والطابع الشعبي المميَّز للقاهرة، بصخبها واكتظاظها ومبانيها العملاقة، وهي معالم ربما لم تكن ملائمة للمعايير الحديثة في التنظيم والجمال، ولكنها -بالنسبة إلى المؤرِّخين ودارسي الأدب الشعبي- كانت صنوًا لمعانٍ مختلفة عن تلك المعايير، معانٍ تتعلّق بالأصالة والثقافة وتفاعُل الاجتماع والتاريخ السياسي مع العمران.
ولكن ضمن خطة أكبر تندرج تحت تصنيف “الاقتصاد السياسي”، شرعَ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومعاونوه من رجال المقاولات المدنية والعسكرية خلال الأعوام الأخيرة، في إعادة رسم الميدان وتخطيطه من جديد، بما يتلاءم مع مقتضيات حقبة ما بعد 3 يوليو/ تموز 2013.. فكيف حدث ذلك؟
الميدان بين الماضي والحاضر
بعد ثورة 25 يناير التي أطاحت بأحد أكبر زعماء العالم سنًّا ومكوثًا في السلطة، الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، أُضيف إلى ميدان التحرير معلم رمزي جديد، وهو كونه، أي الميدان، مكانًا للاصطفاف والتكتُّل الشعبي المدني السلمي المستمر حتى تحقيق هدف سامٍ يتعلق بالأمّة المصرية والثورة والانتقال نحو الديمقراطية.
هناك خبا المتحف والمجمع الحكومي ومترو الأنفاق والجامعة الأمريكية في القاهرة، لصالح مشهد مغامرة آلاف المصريين طيلة 18 يومًا، محافظين ويساريين، مسلمين وأقباطًا، شيوخًا وشبابًا، رجالًا ونساء، في “صينية” الميدان الدوارة، على مرأى ومسمع من العالم كله، بالقرب من مقرّ الحزب الوطني الحاكم حينئذ، ضدّ النظام، حتى ليلة التنحّي 11 فبراير/ شباط 2011.
ومع صعود الحكم العسكري الجديد بعد حركة 3 يوليو/ تموز 2013، والتي جاءت -كما يقول الرئيس المصري الحالي- لمحاولة بعث الدولة المصرية من جديد، تزامنًا مع تغييرات ديموغرافية عميقة تتعلق بحركة العمران والسكّان، ومحاولات خلق وضع جديد يمحو ذكرى يناير/ كانون الثاني من جهة، ويؤسِّس لحكم يصعب إزاحته مستقبلًا كما حدث في يناير/ كانون الثاني؛ بدأت تلك المعالم الثورية تختفي تدريجيًّا.
أزيلت النصب التذكارية التي أقامها شباب الثورة تخليدًا لنضالاتهم في وجه أدوات الثورة المضادة.
لا نتحدث هنا عن إزالة الخيام التي كانت ترمز إلى مكان اعتصام المدنيين ضدّ ما لا يروقهم من توجُّهات السلطة، ضمن الشعار القائل: “اللي مش عاجبه الميدان مفتوح”، وهو ما قد يكون مبررًا لدى البعض بانتهاء الحالة الثورية أو إنهائها قسرًا لصالح مرادفات تحريك الحياة وعجلة الإنتاج.
وإنما نتحدث، أيضًا في الوقت نفسه، عن تغيير الشكل القديم للميدان كليًّا، فقد أزيلت الأنصاب التذكارية التي أقامها شباب الثورة تخليدًا لنضالاتهم في وجه أدوات الثورة المضادة، وأُسندت إدارة الميدان إلى شركة حراسات خاصة تابعة للمخابرات (فالكون)، تزامنًا مع نشر مزيد من رجال الأمن السرّيين في ذلك المحيط الحيوي، والمقيمين بشكل دائم في المكان، تحت دعاوى حراسة التجديدات الجارية في الميدان، والتي أشادَ بها رئيس الوزراء المصري الحالي وأحد مهندسي السياسات العمرانية القائمة في البلاد، واصفًا إياها بأنها تعيد للميدان رونقه من جديد.
الطابع الفرعوني
إحدى السمات المميزة لأعمال الإنشاءات التي شرعت فيها الأجهزة الحكومية خلال الفترة الماضية، كانت، مع نزع الطابع الشعبي البيروقراطي عن المحيط، التأكيد على الهوية الفرعونية للميدان الأبرز في مصر على الإطلاق.
من جنوب مصر وشمالها، جلبَ السيسي عددًا من القطع الأثرية الفريدة، على غرار المسلّة العملاقة التي يبلغ طولها 19 مترًا من محافظة الشرقية في دلتا مصر، إضافة إلى 4 تماثيل هجينة لأسود برؤوس كباش من الأقصر أقصى الصعيد، لكي يزيّن بها الميدان بعد إعادة تنظيمه.
بالنسبة إلى الأثريين غير المحسوبين على الدولة، فإنه ليس لعمليات النقل تلك أي ضرورة فنية، بل على العكس، قد تضرُّ بتلك الآثار مع انتقالها إلى مكان مغمور بالتلوث لا ينتمي إلى الجذور التاريخية لميلاد تلك القطع، ما يعرِّض تلك المواد الغرانيت إلى التلف والتأذّي.
على مضض كذلك، اعترضَ برلمانيون محليون من أبناء تلك المناطق التي جُلبت منها القطع على حرمانهم منها لصالح ميدان في العاصمة القديمة، لا يعود تاريخ تأسيسه إلى أبعد من قرنَين، وتساءلَ باحثون في ذلك المجال، مثل أيمن بدر، عن الجدوى الفنية من المغامرة بمستقبل تلك القطع الفرعونية في ظلّ احتلال قلب الميدان، فعليًّا، بالمباني الخرسانية العملاقة التي تنتمي إلى تصنيف تاريخي عمراني مختلف، مثل الجامعة الأمريكية والمجمع الحكومي والمتحف.
في مادة نقدية لـ DW الألمانية عمّا يحدث في الميدان، تساءلت مواطنة عن إمكان المقاربة بين تلك الأيقونات الفرعونية التي توجد في الميدان حاليًّا، والحمولة السياسية والتاريخية للحكم الفرعوني في أذهان المصريين، بمعنى: هل تريد السلطة الحالية إرسال رسالة معيَّنة من تلك الأيقونات؟
منتصف العام الماضي، حضرَ السيسي، دون أدنى مشاركة شعبية، حفلًا فرعوني الطراز لنقل عدد من المومياوات من متحف التحرير إلى أحد المتاحف الجديدة في منطقة الفسطاط، على نحو أبرزه للإعلام المحلي والغربي، ربما، بمثابة “فرعون” جديد يؤسِّس لدولة مختلفة إداريًّا وديموغرافيًّا أطلقَ عليها السيسي مصطلح “الجمهورية الجديدة”.
كما عجّت مشاريعه ومحافله، مثل قناة السويس الجديدة والمنتدى الاقتصادي، بالأيقونات الفرعونية على غرار مفتاح الحياة، وقد طرحَ مقرَّبون من النظام مسألة إعادة تدريس اللغة المصرية القديمة للطلاب في مراحل النَّشء، قبل أن يحضر السيسي حفلًا مماثلًا لحفل القاهرة ولكن جنوبًا في محافظة الأقصر، فهل يعدّ ذلك كله من قبيل المصادفة؟
أغراض اقتصادية
تندرجُ خطة صياغة ميدان التحرير أيضًا ضمن خطة إعادة اهتمام الدولة إلى مجال العمران والاجتماع السياسي بشكل عام، فمع العاصمة الإدارية الجديدة التي أزاحت مقرّات الحكم القديمة باتجاه الشرق إلى مقرّات أكثر حوكمة ورفاهة وتأمينًا، مقارنة بنظيراتها التي سقطت سريعًا أمام زحف المتظاهرين في يناير/ كانون الثاني 2011، جاء الدور للاستفادة المالية من المواقع الحيوية لتلك المقرّات القديمة.
نزع السيسي صفة النفع العام عن عدد من الأراضي الواعدة في القاهرة، واضعًا إياها تحت تصرف الصندوق السيادي.
بعد مدة وجيزة من استقراره في الحكم رئيسًا للبلاد، قال السيسي إنه لم يعد مقبولًا في الدولة الجديدة أن تُترك تلك المناطق الواعدة المترامية في مناطق القاهرة في أيدي الأهالي والسكّان، دون استفادة مالية، فبدأ مخططًا لإزاحة المواطنين من أرقى المناطق في العاصمة القديمة، مثل الوراق وماسبيرو ومنطقة الأهرام ووسط البلد، حيث تُقدَّر قيمة المتر الواحد في تلك المناطق بآلاف الجنيهات، لصالح مشاريع عمرانية ضخمة تشرفُ عليها الحكومة.
هنا لا يلعب الجيش وحده فقط دورًا في التهديد بإمكان الاستعانة به لإخراج المواطنين من ديارهم، أو في الإشراف على المشاريع الجديدة وحسب، وإنما يشاركه أيضًا ما يُعرَف بالصندوق السيادي الذي أسّسه السيسي عام 2018 برأس مال حوالي 12 مليار دولار، وذلك تحت لافتة تعظيم الاستفادة من أصول الدولة عبر شراكات أجنبية في المجالات الواعدة.
نزعَ السيسي تباعًا صفة النفع العام عن عدد من الأراضي الواعدة في القاهرة، واضعًا إياها تحت تصرف ذلك الصندوق، وذلك بالتزامن مع نزع الأراضي الواعدة القاطن فيها الأهالي شرقًا وغربًا، وأبرز تلك الأراضي الواعدة التي ذهبت للصندوق مؤخرًا هي أراضي معهد ناصر، ومقرّ وزارة الداخلية القديم في القاهرة، والمجمع الحكومي العملاق في التحرير.
تأسّسَ ذلك المجمع في العهد الملكي عام 1951 بقيمة 2 مليون جنيه، يتكوَّن من حوالي 40 طابقًا ونحو 1400 غرفة تكتظُّ بالمواطنين كل يوم، ولكن السيسي أمرَ، قبل 7 أعوام، بإيقاف العمل بالمجمع الذي كان يتدفّق إليه نحو 100 ألف مواطن، وذلك تمهيدًا لطرحه في خطة إعادة صياغة الميدان تنظيميًّا، والاستفادة من الأصول العقارية الواعدة في القاهرة.
يقول أيمن سليمان، الرئيس التنفيذي للصندوق السيادي، إن الصندوق يسعى إلى تحويل محيط الميدان، بما في ذلك المجمّع الذي سيصبح مشروعًا سكنيًّا سياحيًّا تجاريًّا، إلى منطقة أعمال خلال السنوات الخمس القادمة، فيما تؤكّد وزيرة الاستثمار هالة السعيد إن تلك الخطة ستشمل أيضًا إعادة استغلال المبنى القديم للحزب الوطني المنحلّ، والذي لا يبعد كثيرًا عن ميدان التحرير.
قبل الذكرى الـ 11 لثورة يناير بحوالي شهر واحد، أعلنَتِ السلطات المصرية أنها أسندت عملية إعادة تطوير مجمّع التحرير الحكومي (سابقًا) إلى تحالف أمريكي خليجي، ضمن صفقة تجاوزت قيمتها 220 مليون دولار أمريكي، وهو ما يتوقَّع منه أن يؤثِّر طرديًّا على ارتفاع قيمة العقارات في تلك المنطقة، كما يقول مطوِّرون عقاريون.
طمس هوية الميدان
تأسّيًّا بسيناريو يناير/ كانون الثاني 2011، حاولَ المواطنون الدخول إلى الميدان في مناسبات عديدة للاحتجاج على ظواهر رأوا أنها تستحقُّ التظاهر والتعبير السلمي ضدّها بصورة جماعية، مثل الإفراج عن حسني مبارك في نهاية مسار محاكمته، والتفريط في جزيرتَي تيران وصنافير على البحر الأحمر للسعودية، والتعديلات الدستورية الأخيرة، ولكن هذه المحاولات كانت تقفُ على أعتاب الميدان بعد أن تقابلها الشرطة بحركة اعتقالات مفاجئة.
الحكومة تهدف، من ضمن ما تعمل عليه في الميدان، إلى إرسال رسالة للمواطنين مفادها أن تلك الساحة لم تعد ملكًا لهم، وإنما عادت إلى الدولة من جديد.
ولكن أبرز تلك المحاولات، وأكثرها نجاحًا وفق مراقبين للشأن المصري، كانت تلك التي وقعت في سبتمبر/ أيلول 2019، تفاعلًا مع المعطيات التي أفصحَ عنها المقاول المنشق عن الجيش محمد علي، بخصوص طريقة إدارة النظام للمشاريع العقارية وشبهات فساد عائلة الرئيس، الذي غادرَ البلاد حينها لزيارة إلى الولايات المتحدة، قابلَ خلالها ترامب وحضر اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وفقًا لخالد فهمي، أستاذ التاريخ في جامعة كامبريدج، وأحد العاملين على واحد من مشاريع توثيق ثورة يناير، فإن الحكومة تهدفُ من ضمن ما تعمل عليه في الميدان، إلى إرسال رسالة للمواطنين مفادها أن تلك الساحة لم تعد ملكًا لهم، وإنما عادت إلى الدولة من جديد، فكل الأنشطة الجماعية السلمية العامة التي قامت عام 2011 بالنسبة إلى السلطة كانت “تخريبًا”، كما يصف فهمي.
ورغم مضيّ تلك المساعي قدمًا بوتيرة جادّة منذ أعوام، يستبعد عمرو عادلي، الأستاذ المساعد في الاقتصاد في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، والتي تقع في محيط الميدان، في حوار لـ”بي بي سي”؛ أن تؤدّي تلك المخططات إلى تحقيق الزعم الرسمي بالاستفادة من الأصول المستغلَّة، لأن هذا الهدف لا يقوم على أساس ربحي فقط، وإنما لا بدَّ أن يُأخذ في الاعتبار عوامل مثل توليد فرص العمل على نحو مستدام، ومحاولة توظيف تلك الأصول في القطاعات التصديرية، وهو ما لا يحدث حاليًّا.