بينما كان أكثر من 5 آلاف شاب من كافة أنحاء الكرة الأرضية، يرفلون وينعمون في أروقة مدينة شرم الشيخ الساحلية الساحرة، وينخرطون في مناقشات عبثية وندوات وفعاليات شكلية، فيما يُسمّى مؤتمر الشباب العالمي الرابع، بمشاركة ورعاية من كافة قيادات السلطة في مصر، كانت شمس الفتاة الصغيرة الفقيرة البائسة شروق قد غربت عن الحياة، ومعها 7 أطفال آخرين في أعماق النيل، بعد رحلة عمل شاقة مقابل حفنة من الجنيهات والأجر الزهيد.
فقد مثّلَ حادث غرق سيارة نقل كانت تحمل عشرات الأطفال العائدين من عملهم في مزراع الدواجن بمحافظة البحيرة (شمال غرب القاهرة) إلى قريتهم النائية، الغارقة في الظلام والمحرومة من خدمات الكهرباء والمياه النظيفة والصرف الصحي، بمحافظة المنوفية إحدى محافظات دلتا مصر، والذي تواكبَ مع الحشد الإعلامي والسياسي الهائل لمؤتمر الشباب العالمي الرابع بشرم الشيخ، بتكلفة باهظة تصلُ في أقل تقدير إلى مليار جنيه؛ تجسيدًا صارخًا لنهج نظام دولة 3 يوليو/ تموز في مصر التي حققت أهداف ثورة 25 يناير في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية ولكن بصورة عكسية، فسحقَتِ الفقراء ودهسَت أحلام البسطاء، وحققت إنجازت سافرة للأغنياء وأصحاب السلطة والنفوذ.
وفي الوقت الذي كان الشباب من أصحاب الحظوة وأقارب وأصدقاء ذوي السلطة والنفوذ ورجالات الدولة، يستمتعمون في فنادق شرم الشيخ بأموال الفقراء والمطحونين من أبناء الشعب، ظلَّ جسد شروق أكثر من 7 أيام قابعًا في ظلمات قاع النيل، ليخرجَ بعدها شاهدًا على زيف إنجازات ومشاريع لم توفِّر لأبناء الفقراء حقهم في التعليم الجيد والخدمة الصحية المناسبة، فضلًا عن مستوى المعيشة المعقول أو الخدمات الأساسية التي لا تضطرّ أطفال في عمر الزهور إلى ترك الدراسة والاتجاه نحو العمل الشاق وركوب المخاطر التي تودي بحياة الكثير منهم، فيموتون في صمت مثلما يعيشون في صمت وظلم وظلام.
لغة الأرقام لا تكذب
الحديث عن نهج الرأسمالية المتوحِّشة للنظام المصري الحالي، ليس مجرد حديث عاطفي أو توصيفات وتعميمات تعوزها الدقة، بل حديث عن واقع بائس يأنُّ تحت وطأته معظم أبناء الشعب المصري، وتدعم ذلك وتؤكّده عشرات الشواهد والأدلة الموثَّقة بالأرقام والبيانات الرسمية، الصادرة من قبل مؤسسات الدولة المعنية.
لم يكن تعويم الجنيه سوى بداية الضربات الاقتصادية الثقيلة التي هوت على رؤوس الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى.
فتزامنًا مع إتمام اتّفاق قرض الـ 12 مليار دولار مع صندوق النقد الدولي، وبداية بما سُمّي ببرنامج الإصلاح الاقتصادي في نهاية عام 2016، وصولًا إلى حصول مصر في آخر 5 سنوات على 20 مليار دولار قروض من صندوق النقد؛ فرضَ الأخير شروطه وتوصياته التي اصطلى بنيرانها الفقراء، بدايةً من تعويم الجينه وتحرير أسعار الوقود والكهرباء، وتقليص فاتورة الدعم وزيادة ومضاعفة الضرائب، ووقف التعيينات في الوظائف الحكومية، والسعي نحو تقليل العجز في الموزانة العامة للدولة على حساب محدودي الدخل.
ولم يكن تعويم الجنيه سوى بداية الضربات الاقتصادية الثقيلة التي هوت على رؤوس الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى، فمع فُقدان الجنيه المصري أكثر من 60% من قيمته خسرَ المصريون أكثر من نصف قيمة مدخراتهم في البنوك، وتقلّصت القدرة الشرائية لمداخيلهم التي فقدت هي الأخرى أكثر من 50% من قيمتها، في المقابل تضاعفت ثروات طبقة رجال الأعمال والأثرياء وأصحاب الممتلكات، مع ارتفاع قيمة الأصول التي يمتلكونها مقابل انخفاض قيمة مديونياتهم للبنوك.
قابل انخفاض قيمة الجنيه إلى أكثر من النصف سريعًا إجراءات حكومية قاسية وقرارات عنيفة أوجعت الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى، مع الإعلان عن تحرير أسعار الوقود والكهرباء ومياه الشرب، وخلال 7 سنوات فقط ارتفعت أسعار الوقود في مصر أكثر من 10 أضعاف، ولم تكن الكهرباء ومياه الشرب أقلّ حظًّا من تلك الزيادة.
أدى ارتفاع معدلات التضخُّم في مصر بصورة غير مسبوقة في أعقاب تلك القرارات الاقتصادية المؤلمة إلى احتراق جيوب المصريين وتآكل مدخراتهم، وهوى بالمستوى المعيشي لعشرات الملايين نحو الدرجات الأدنى.
وتواكبًا مع تلك القرارات القاسية، حمّلت الحكومة المصريين أعباء ضريبية مضاعفة، وتمكّنت من زيادة الحصيلة الضريبية من 290 مليار جينه عام 2014 إلى أكثر من 983 مليار جنيه عام 2021، ومعظم إيرادات الضرائب تنصبّ على ضريبة الدخل وضرائب المبيعات وضريبة القيمة المضافة، التي يتحمّلها في أغلب الأحيان الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى، بينما وللمفارقة يحظى الأغنياء وأصحاب الأموال والشركات بإعفاءات ضريبية كبيرة تحت بنود تشجيع الاستثمار، فضلًا عن تفنُّنهم في التهرُّب من الضرائب.
اقتصاد الكباري والقصور
في بداية ما سُمّي ببرنامج الإصلاح الاقتصادي لحكومة الرئيس السيسي، أكّدت الحكومة أن تقليص فاتورة دعم الوقود والكهرباء سيذهب إلى التعليم والصحّة، وأن حصيلة الضرائب التي تضاعفت أكثر من 3 مرات ستنعكسُ على مستوى معيشة المصريين وتطوير وتوسيع الخدمات العامة.
سخرية المصريين من كباري وقصور السيسي لم تأتِ من فراغ، فبينما خصّصت الحكومة 259.1 مليار جنيه لمشاريع التنمية العمرانية، اقتصرت مشاريع الصحة على 64.4 مليار جنيه.
لكن على أرض الواقع لم يرَ المصريون سوى الكباري تلو الكباري، والقصور التي تزيّن رمال الصحراء، والإنفاق ببذخ من أموال الشعب على مؤتمرات وفعاليات لا عائد منها؛ ومن العاصمة الإدارية إلى مدينة العلمين الجديدة، وقبلها قناة السويس الجديدة، ذهبت أموال المصريين في مشاريع ضخمة لم ولن تعود بالجدوى سوى على طبقة صغيرة من الأثرياء، فمن أين للفقير بأكثر من مليون جنيه لمجرد الحصول على شقة سكنية في تلك المدن الجديدة؟
ونظرة سريعة إلى أرقام موازنة الدولة لعام 2021-2022، توضِّح أن سخرية المصريين من كباري وقصور السيسي لم تأتِ من فراغ، فبينما خصّصت الحكومة 259.1 مليار جنيه لمشاريع التنمية العمرانية، اقتصرت مشاريع الصحّة على 64.4 مليار جنيه، وفي حين بلغت مخصصات القطار الكهربائي بين العين السخنة والعاصمة الإدارية وصولًا إلى القاهرة وخطّ المورنوريل ومترو الأنفاق نحو 112.84 مليار جنيه، كانت مخصصات مشاريع التعليم الجامعي 28.5 مليار جنيه فقط، فيما كان المبلغ المخصَّص لتطوير المدراس وتأهيل المعلمين 14.68 مليار جنيه.
وتفخر الحكومة بأن الإنفاق في عامَي 2013 و2014 على الصحة والتعليم قد بلغ 115 مليار جنيه، وأن دعم البترول والكهرباء في الفترة ذاتها وصل إلى 139 مليار جنيه، وأنها قلّصت دعم المنتجات البترولية إلى 24 مليار جنيه فقط، بينما زادَ الإنفاق على التعليم والصحة في الموازنة الحالية إلى 252 مليار جنيه.
غير أنها تروِّج لمغالطة متعمَّدة وأكذوبة كبيرة، ذلك أن تلك الأرقام تبيّنُ أنَّ حجم الإنفاق الحقيقي على التعليم والصحة لم يزدَد في الواقع خلال السبع سنوات الماضية، وظلَّ ثابتًا رغم تقليص فاتورة الدعم، ذلك أن قيمة 115 مليار جنيه قبل التعويم تساوي أو ربما تزيد عن 252 مليار جنيه حاليًّا.
نماذج صارخة
تدهسُ طرق وكباري النظام المصري كل ما تجده في طريقها، وذلك بكلفتها الباهظة وعدم اتّضاح الجدوى منها أو دراسة بدائل أقل كلفة وأكثر نفعًا، في ظلّ غياب الرقابة المؤسسية والشعبية، وسيادة إسناد المشاريع الكبرى بالأمر المباشر، وتوزيع كعكة الموازنة العامة وأموال الشعب دون أدنى مشاركة مجتمعية في الرأي أو اتّخاذ القرار.
وتأتي تلك الإنشاءات كقرارات فوقية، يصحو معها المصريون لا يأمنون على بيوتهم التي باتت في أي لحظة عرضة للإزالة من قبل السلطات المحلية، تحت ذريعة المنفعة العامة وإقامة الكباري وتوسعة وإنشاء الطرق.
وعلى سبيل المثال، إنَّ ما يُسمّى بمحور الملك سلمان في محافظة الجيزة قد أثار سخرية الإعلام الأجنبي، بعد أن دخلَ الجسر إلى شرفات السكّان في أحياء فيصل والهرم، ليدمِّر ذلك المحور البالغ كلفته 4.2 مليارات جنيه عددًا من أحياء الجيزة الشعبية، ويهدم عشرات المنازل على رؤوس أصحابها.
قبل 3 سنوات، وقفَ رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أمام مجلس النواب السابق، مبشّرًا المصريين بالسماح بإضافة أبنائهم إلى بطاقات التموين، ففرح الفقراء وسارعوا إلى مكاتب التموين في كافة أنحاء البلاد، من أجل تسجيل أبنائهم رجاء بعض السكّر والزيت.
غير أن وزير التموين خرجَ بأكثر من موعد من أجل تفعيل قرار الحكومة بإضافة المواليد إلى بطاقات التموين، وظلَّ تسويف وزير التموين شهورًا تجرُّ شهور، ثم انتهى به الأمر بحذف وإلغاء ملايين البطاقات التموينية، تحت زعم أن أصحابها لا يستحقّون الدعم التمويني، وأنه يجب اتّخاذ تلك الخطوة قبل إضافة المواليد، فانتظر الناس، غير أن انتظارهم الذي طال انتهى إلى ما لا يحمد عقباه، بالتلويح والتهديد والوعيد من قبل رأس الدولة برفع ثمن رغيف الخبز المدعوم، وإلغاء بطاقات التموين للمتزوجين حديثًا، وتكاثرَ حديث المنّ من قبل مسؤولي الحكومة على الشعب فيما يخصّ ملف رغيف الخبز والدعم التمويني، رغم أن فاتورة دعم رغيف الخبز والسلع التمويني لا تزيد عن 87 مليار جنيه، في حين أن الشعب يدفع ضرائب تصل إلى 983 مليار جنيه، وتمثّل وفق تصريحات وزير المالية 90% من حجم الإيرادات العامة لموازنة الدولة.
تأسّسَ جهاز مشاريع الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، أثناء قيادة الرئيس الراحل أنور السادات، لضمان تحقيق الاكتفاء الذاتي من احتياجات القوات المسلحة.
تعاني وزارة التربية والتعليم من عجز في المعلمين يصلُ إلى أكثر من 270 ألف مدرِّس، ومن تكدُّس في المدارس الحكومية حيث تصلُ كثافة الفصل إلى 120 تلميذًا، وبينما تنفقُ الحكومة بسفه على الطرق والكباري والقصور والمباني الحكومية الفخمة، تضنُّ على التعليم والمدارس، فلا تبني مدارس بشكل كافٍ وترفض تعيين معلمين لسدّ العجز الهائل.
وفي حين تتذرّع الحكومة بعدم وجود ميزانية لتعيين معلمين جدد وبناء مدارس جديدة وتقليل كثافة الفصول، شرعت وبشكل مفاجئ قبيل بداية العام الدراسي بالإعلان عن برنامج للتغذية المدرسية كلفته 7.7 مليارات جنيه، وأسندته بالأمر المباشر لشركة تابعة لجهاز خدمة المشاريع الوطنية التابع للجيش.
هذا في حين كانت تلك الكلفة كفيلة بتعيين قرابة 300 ألف معلم والقضاء بشكل نهائي على أزمة عجز المعلمين، لكن يبدو أن الحكومة فضّلت أن يذهب التلميذ إلى المدارس فلا يجد مقعدًا للجلوس ولا معلمًا للتدريس ولا كتابًا للدراسة، حيث ربطت استلام الكتب المدرسية بدفع المصاريف، مقابل أن يتلقّى ذلك التلميذ البائس علبتَي بسكويت كلفتهما المليارات.
عسكرة الاقتصاد
في عهد النظام الحالي، زادت إمبراطورية الجيش الاقتصادية، وأصبح يعمل الآن في تجارة الألبان والأدوية ووسائل النقل، وأصبح يشرف على نحو 2300 مشروع، يعمل فيها 5 ملايين موظف مدني، في مجال الصناعات الثقيلة والمتخصِّصة، وقطاعات الزراعة، والمزارع السمكية، والمحاجر والمناجم، والمقاولات، والبنية التحتية وغيرها من المشاريع العملاقة في الدولة.
وقد تأسّسَ جهاز مشاريع الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، أثناء قيادة الرئيس الراحل أنور السادات، لضمان تحقيق الاكتفاء الذاتي من احتياجات القوات المسلحة، مع طرح فائض إنتاجه بالسوق المحلي والمعاونة في مشاريع التنمية الاقتصادية بالدولة كمشاريع البنية الأساسية والمشاريع التنموية بالمحافظات الحدودية.
وفي عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي توسّعت صلاحيات الجهاز، وأصبح المحرِّك الأكبر لاقتصاد البلاد، من خلال مشاركته في كافة المجالات الحياتية ومنافسته للقطاع الخاص، كما صدرت ترسانة من القوانين منحَتِ الأنشطة الاقتصادية للجيش بامتيازات واسعة واستثنته من الرقابة والمساءلة، ومكّنته من السرّية التامة وانعدام الشفافية فيما يتعلّق بحجم نشاطه الاقتصادي وأرباحه واستثماراته وضرائبه.. إلخ.
فعلى سبيل المثال، في عام 2018 أصدرت الحكومة “قانون التعاقد” رقم 182، الذي يسمح للجيش والشركات العسكرية بالإعفاء من الرقابة والمحاسبة، وينصُّ على تنفيذ العقود دون اتّباع المناقصة العامة، بهدف “حماية الأمن القومي”، ما يسمح لهذه الجهات بالسرّية المطلقة في عقود البيع أو الشراء أو الأرباح، ما يؤدّي إلى غياب الشفافية وانعدام المنافسة مع القطاع الخاص.
وهذا يعني أن الشركات العسكرية، تحت ستار الأمن القومي، قادرة على الحصول على الشركة أو قطعة الأرض دون الكشف عن سعرها للمستثمرين الخارجيين، ويسمح القانون في نهاية المطاف لهذه الشركات بالسرّية المطلقة في شرائها وبيعها وتحقيق أرباح عامة من العقود، ويؤدي ذلك بالطبع إلى انعدام الشفافية والمنافسة مع القطاع الخاص.
لكن يجدر الإشارة إلى أن هذه الممارسات مستمرة قبل عام 2018، إلا أن هذا القانون عزّزَ من عدم القدرة على مراجعة الشركات المملوكة للجيش، ما جعل هذه الممارسة غير قانونية في نهاية المطاف.
كما منح السيسي وزارة الدفاع حقَّ الانتفاع الاقتصادي الكامل على 21 طريقًا سريعًا بين المدن وشريطًا بعرض 4 كيلومترات بجانبها، ما يمكّنها من جباية رسوم المرور، وتشغيل أو منح الامتيازات التجارية (بما في ذلك الخدمات على جانب الطريق والإعلان)، ووضع ومراقبة شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية (بما في ذلك كابل الألياف البصرية)، كما تقع المخالفات أو الحوادث أو النزاعات التجارية التي تحدث على هذه الطرق أو تتعلّق بها تحت اختصاص المحاكم العسكرية، كما هو الحال بالنسبة إلى جميع المناطق والمنشآت العسكرية.