تعدّ البيوت الآمنة من أدوات تمكين النساء ومساندتهن على تخطّي تجربة العنف دون أن يقعن فريسة لأخطار الشارع، حيث تعمل هذه البيوت بمثابة جدار حماية للنساء المعنّفات في اجتياز المحن النفسية، ليصبحن قادرات على إعادة ممارسة حيواتهن بالطريقة التي يخترنها، دون الإحساس المستمر بالضياع.
ما يذكرنا أن مناهضة العنف لا تعني حصرًا القضاء على الظاهرة أو الحدّ منها، بقدر ما تستوجب خلق آليات حقيقية تتعامل مع وقائع العنف ضدّ النساء، من خلال منظومة متكاملة تهدف للاستجابة إلى احتياجات الناجيات من العنف على جميع الأصعدة، وتحديدا الحاجة إلى مأوى يحميهن من مخاطر الشارع والتشرد.
تقول مؤسِّسة الشبكة العالمية للبيوت الآمنة للنساء، بندانه رانا: “كنا نتعامل مع النساء المعنَّفات وكنا نشجّع النساء اللاتي يتعرضن لعنف على تقديم بلاغات، وهنا واجهتنا مشكلة أنهن عندما استمعن إلى نصيحتنا وقدّمن شكاوى وبلاغات ضدّ المعتدين من أسرهن، وهجرن بالفعل بيت الأسرة أو الزوج بسبب العنف الذي يتعرضن له، لم يجدن مكانًا آمنًا يذهبن إليه، من ثم أدركنا أهمية وجود البيوت الآمنة، للدرجة التي بتنا نعتقد فيها أنه لا جدوى من تشجيع الناجيات على ترك بيوتهن أو مواجهة المعتدين، إلا إذا كنا قادرين على توفير مكان آمن لهن”.
هل نجحت تلك البيوت في أن تكون ملاذًا آمنًا للمعنّفات وأطفالهن؟ وهل هي مؤهّلة بالفعل لاستقبال الناجيات من العنف؟
يقول الدكتور والمعالج النفسي رياض البرعي: “إن المرأة التي تتعرض للعنف تعاني الكثير من المشكلات النفسية، وإذا لم نوفِّر لها العلاج اللازم فقد تُصدِّر العنف للآخرين كنوع من الانتقام أو التعويض، كما يمكن أن تفكر في الانتحار، ومن هنا تأتي أهمية البيوت الآمنة، كونها تعمل على إعادة دمجهن في المجتمع من جديد وتأهيلهن لحياة جديدة”.
ويشير خلال حديثه لـ”نون بوست” إلى ضرورة تفعيل هذه البيوت وتطويرها والعمل على زيادة عددها، لأن المرأة المعنَّفة تشعر بالدونية وتعاني من مشكلات نفسية، مثل الإحباط والاكتئاب والقلق، ومن الممكن أن توجِّه العنف الموجَّه إليها نحو الآخرين وأحيانًا تلجأ إلى الانتحار، لكن إذا توفرت البيوت الآمنة فيمكن أن تلجأ إليها.
رغم قصص النجاح التي حقّقتها العديد من البيوت الآمنة للنساء المعنَّفات، المنتشرة في كثير من البلاد العربية، إلا أن الكثير منها يعاني من عدة أوجه قصور تمنعها من تأدية دورها في تمكين الناجيات من العنف.
ويضيف البرعي: “استمرار تعرُّض المرأة للعنف وعدم وجود مأوى لها، سيؤدّيان إلى استغلالها جنسيًّا أو استدراجها للانضمام إلى المنظمات الإجرامية والإرهابية، لكن الدعم المؤسسي يساعدها على المقاومة، لأنها ستجد أخريات لهنّ نفس ظروفها ومررن بمعاناتها، وذلك يحقِّق لها نوعًا من التضامن المجتمعي، الذي من شأنه أن يخفِّف وطأة العنف لديها”.
ورغم قصص النجاح التي حقّقتها العديد من البيوت الآمنة للنساء المعنَّفات، المنتشرة في كثير من البلاد العربية، إلا أن الكثير منها يعاني من عدة أوجه قصور تمنعها من تأدية دورها في تمكين الناجيات من العنف بشكل عام.
انتحار جماعي
في أبريل/ نيسان 2019، قضى “حريق” على 6 نزيلات في مركز إيواء النساء المعنفات، تتراوح أعمارهنّ بين 14 و19 عامًا، في حين تعرّضت أخريات إلى إصابات متعددة وحالات اختناق، في ما وصفه مسؤولو وزارة العمل في العراق بـ”أعمال شغب”.
ورغم زوبعة تصريحات الحكومة وتبريراتها غير المنطقية، ظلَّت تلك الجريمة غامضة حتى هذا اليوم، رغم مضيّ مدة طويلة ورغم تشكيل لجنة تقصّي الحقيقة، واكتفت الحكومة بالقول إن الموضوع بفعل فاعل، وأن الحريق مدبَّر وليس انتحارًا جماعيًّا.
وبحسب مصدر في المفوضية العليا لحقوق الإنسان تحدّث إلى وسائل الإعلام آنذاك، فإنَّ حريق دار “المشردات” في حي الأعظمية كان انتحارًا جماعيًّا، وهو رد فعل على استمرار سوء المعاملة والتحرُّش والمضايقات التي تتعرض لها النزيلات دون أي توقف.
وذكر المصدر أن الفتيات في الدار تعرّضن إلى التهديد والضرب والتقييد والمعاملة المهينة وإطلاق الكلمات النابية، وتذكيرهن بالحوادث المؤلمة التي مررن بها، كما تعرضن إلى انتهاكات لا أخلاقية من قبل حرّاس الدار، فقد كانوا يتحرشون بهنّ ويستغلون بعضهن جنسيًّا، كما أن إدارة الدار كانت تطلب منهم ضرب النزيلات.
من جهتها، تقول ابتسام مانع، مديرة قسم إعلام منظمة حرية المرأة في العراق، إن بيوت الإيواء الحكومية تفتقرُ إلى كل مؤهّلات العيش، فهي عبارة عن سجون تُعامَل فيها الشابات بشكل شبه إجرامي، وتفتقر إلى أبسط مقوّمات الحياة، إذ تتعرّض النساء إلى الضرب والتهميش ويُنعتنَ بأفظع الصفات الخادشة للحياء. وتكمل مانع، في حديث لـ”نون بوست”: “إنّ سطوة العادات القَبَلية في المجتمع من الأسباب التي تقف وراء انتشار العنف ضدّ المرأة، لافتة إلى أنّ منظمتها وقفت عدة مرّات لمواجهة العشائر التي تتابع الضحية التي تهرب من العنف لتحاول الوصول إليها”.
وتستطرد: “يسير ارتفاع حالات العنف والتعذيب والقتل بشكل متعمد بشكل سريع وملحوظ، جراء حالات مأساوية تذهب ضحاياها عشرات النساء، وحتى يومنا نطالب بإقرار قانون الحماية من العنف الأسري لكن دون جدوى أو استجابة، بل العكس نحن كمنظمات نسوية تُوجَّه لنا التُّهم والإساءة كوننا نعمل بإصرار تجاه سنّ قوانين تحمي النساء وتضمن حقهن بالعيش بكرامة وأمان”، واصفةً دور الحكومة بـ”ركيك ومتهاون ولا مبالي في ردع وإيقاف الإجرام بحقّ الفتيات والنساء”.
وتقع آلاف النساء والفتيات سنويًّا ضحية التعنيف وسوء المعاملة، وتتعرّض كثيرات منهنّ إلى اعتداءات بالضرب الذي قد يؤدّي إلى الإعاقة أو تنجم عنه حالات صحّية خطرة، فضلًا عن وقوع وفيات، وذلك بمعظمه يأتي تحت ذريعة “الشرف” الذي يرتبط بشكل كبير بالمرأة في المجتمعات القَبَلية، وهي واسعة في العراق.
وبحسب إحصائية لوزارة الداخلية العراقية، فإنّ عدد حالات العنف الأسري في العراق تخطّى 15 ألف حالة عام 2020، وفي مصر لا يختلف الحال كثيرًا، حيث يُظهر بحث أجراه مركز نظرة النسوي للدراسات في القاهرة، أنَّ وجود البيوت الآمنة في مصر شيء إيجابي في حدّ ذاته، إلا أن هناك عدة مشكلات متعلقة بإدارتها وأهدافها وتعاملها مع النساء وقلّة خبرة العاملين بها.
ثلث النساء في مصر يتعرضن لأحد أشكال العنف الأسري.
ويشير البحث إلى أن المشكلة الأكبر في واقع الأمر تكمن في “الثقافة الأبوية” التي ترى في ترك المرأة المعنَّفة بيتها انحرافًا عن القيم المجتمعية أو هدمًا للحياة الأسرية، ما تسبّب في عزوف الكثير من النساء عن اللجوء للبيوت خوفًا من الوصمة المجتمعية، أو فقدان حضانة الأبناء إذا قررن الطلاق، أو أملاً في الصلح مع الزوج من جهة، والتعسُّف في قبول النساء المعنَّفات في بعض الأحيان من جهة أخرى.
قيود الاعتراف بالعنف
ووفقًا للمقارنة التي سردها التقرير، تبيّن عدم وجود تعريف محدَّد للعنف في لوائح مكتوبة تجمع المراكز المنتشرة تحت مظلة إدارية واحدة، وبالتالي يتبع العاملون في البيوت الآمنة المختلفة تعريف العنف طبقًا لمفاهيمهم هم وحسب إدارة كل جمعية.
على سبيل المثال، يتبنّى أحد البيوت مفهومًا واسعًا للعنف يشمل العنف اللفظي، كما يقبل البيت أيضًا بعض الحالات التي تتعرّض للتحرُّش أو الاعتداء الجنسي في المجال العام أو في الشارع وتخشى العودة إلى المنزل.
بيوت أخرى لا تعترفُ بالعنف إلا إذا كان الأذى البدني واضحًا وتاركًا آآثار على جسد المرأة أو وجهها، وبالتالي قد تشعر الضحية بظلم شديد، لا فقط لعدم قبولها في البيت أو عدم وجود مكان لاستضافتها، وإنما لشعورها بعدم تصديقها أو الاستخفاف والاستهانة بما عانت منه.
ويقول مسؤولون إن حوالي ثُلث النساء في مصر يتعرّضن لأحد أشكال العنف الأسري، كما نقلت وسائل إعلام محلية عن وزيرة التضامن الاجتماعي، نيفين القباج، قولها منذ فترة قصيرة إن أكثر من 40% من النساء المتزوجات، اللاتي تتراوح أعمارهن بين 18 و64 عامًا، يتعرضن للعنف النفسي من الأزواج، لكن بشكل عام لا توجد إحصاءات دقيقة ومنتظمة ترصد تطور ظاهرة العنف الأسري بصورة دورية ومنهجية.
وخلال العقد الماضي، حاولت الكثير من الجمعيات الحقوقية والنسوية والمجلس القومي للمرأة تقديم مشاريع قوانين متخصِّصة لمواجهة العنف الأسري، بما فيها تقوية دور مراكز الإيواء، لكن كل هذه المحاولات لم تكلَّل بالنجاح لأسباب غير واضحة، فالقانون المطبَّق حاليًّا على هذه الجرائم هو “قانون العقوبات العام”.
تمكين مؤقَّت
أمّا ما يؤرق لبنى عشتار، الناشطة في مجال تمكين الضحايا والناجيات من العنف في تونس، هو مصير النساء المجهول بعد انقضاء فترة الإيواء، وتوضِّح أن مراكز الإيواء على قلّة توفُّرها ليست مجهَّزة لإيواء النساء طويلًا، وتتعامل على أنها أماكن للإقامة فقط، فهي بمثابة مراكز استقبال للتعرُّف إلى حالة الهاربة أو المشتكية، وبعدها يتمُّ تحويلها إلى مؤسسات رعاية أخرى، وفي أغلب الأحيان أيضًا لا تكفي الميزانية وجود محامٍ، وبالتالي لا توفر البيوت الدعم القانوني اللازم للناجيات إذا احتجن إليه.
وتضيف عشتار خلال حديثها لـ”نون بوست”: “لا يوجد نظام لمتابعة الناجيات بعد خروجهن من البيوت الآمنة، حيث من المفترض أن تتمَّ متابعة الناجية بعد خروجها لفترة محددة للاطمئنان على سلامتها النفسية والجسدية، كما لا يوجد برنامج للتمكين الاقتصادي أو برنامج منتظم للدعم النفسي، ومن غير المنطقي أن تتحمّل الجمعيات ذلك وحدها في ظل غياب الدور الحكومي”.
أما بالنسبة إلى الجانب الاقتصادي، فتشير إلى صعوبة إدماج غالبية النساء في سوق الشغل بسبب ضعف المستوى التعليمي، وعدم تحصيلهنّ أيّ برامج تكوينية بسبب نقص التمويل، وأنشطة التمكين الاقتصادي إن وُجدت تكون بالأساس بشكل عشوائي حسب الجمعية والأدوات المتوافرة، ولكنها غير موجودة بنظام واضح.
وتصرُّ غالبية النساء الضحايا/ الناجيات، عند استقبالهنّ في مراكز الإيواء، على رغبتهنّ في مقاضاة المعتدي، لكنهنّ يتراجعن في غالب الأحيان بسبب الفقر ومسؤولية رعاية الأطفال وعدم توفُّر مسكن خاصّ بهنّ.
ولم يبقَ من مراكز الإيواء التابعة للدولة سوى مركز واحد مفتوح لاستقبال النساء، هو مركز سيدي علي عزوز في تونس العاصمة، في حين أغلقَت باقي المراكز أبوابها بسبب تراكم المشكلات التنفيذية واللوجستية، وفشل الشراكة مع السلطة المشرفة، وانعدام الموارد، بالإضافة إلى الأزمة الناتجة عن جائحة كورونا، في حين يعود عمل الجمعيات في مجال استقبال النساء ضحايا العنف ومرافقتهنّ إلى أكثر من 20 عامًا.
تبقى البيوت الآمنة ملاذًا للناجيات من العنف القائم غالبًا على النوع الاجتماعي في الدول العربية، لكن ما زالت أنظمة الشؤون الاجتماعية التابعة للدولة تعاني من القصور في فهم احتياجات المرأة والتعاطي معها بشكل حقيقي يضمن حمايتها.
وتشير الأرقام الخاصة بوزارة الداخلية التونسية إلى تسجيل الوحدات المختصّة في جرائم العنف ضد المرأة والطفل 64979 حالة عنف ضد النساء والفتيات خلال عام 2019، شكّلت جرائم العنف الجسدي 59% منها.
الكواليس حافلة، وما زالت تطلق الجمعيات والناشطات صافرة الإنذار بشأن ما يخلّفه العنفُ كل يوم من آثار على حياة النساء والفتيات، وبسبب عجز كافة الأطراف عن درء الخطر وجبر الضرر الناجم عنه، وتوفير الإمكانات اللازمة للإحاطة بالضحايا والناجيات، تقع الكثير من النساء المعنّفات في شباك منظمات مدنية وهمية، بعدما تلفظهنّ “البيوت الآمنة”، بحجّة انتهاء مدة المكوث، كغريق يستجير بمنقذ طلبًا للعون والدعم، فينتهي بهنّ الأمر إلى تعنيف آخر وفصول من المعاناة والاستغلال، والوقوف على مسارات الرجوع منها مستحيل.
ومن بين تلك المعاناة، تهريبهن بحجّة توفير مأوى دائم لهنّ خارج بلادهن، وفي حقيقة الأمر يتمثّل ذلك المأوى بالعمل ضمن شبكات الدعارة أو التسول، كقصة نورا التي انتشرت لفترة قبل أن تُركن على الرفّ، حيث وقعت في أيدي “عصابة” أوهمتها بأنها منظمة حقوقية ستحميها من تهديدات عائلتها، كونها هربت إلى أحد بيوت الأمان في أربيل شمال العراق، بالسفر إلى تركيا وإيجاد فرصة عمل.
هذا قبل أن تكتشف نورا أنها ضحية استغلال العمل في أحد بيوت الدعارة، وابتزازها من خلال تهديدها بنشر مقاطع فاضحة لها إنّ فكرت بالفرار، لكنها بعد شهور نجت بمساعدة شاب استحدث لها أوراقًا رسمية ورسوم تذكرة العودة لديارها والرضا بالقدر المحتوم هناك.
كثيرات هنّ اللواتي غيّبتهن ظروف مختلفة دون أن يعلم أحد مصيرهنّ، في حين فُرضت على أخريات عقوبات شديدة من قبل ذويهنّ، فحبسوهنّ في المنزل ولا يخرجنَ إلا للضرورة القصوى، لذا تبقى البيوت الآمنة ملاذًا للناجيات من العنف القائم غالبًا على النوع الاجتماعي في الدول العربية، لكن ما زالت أنظمة الشؤون الاجتماعية التابعة للدولة تعاني من القصور في فهم احتياجات المرأة والتعاطي معها بشكل حقيقي يضمن حمايتها، رغم كل الجهود التي تُبذل في هذا السياق من قبل الجمعيات والناشطات في مجال مناهضة العنف ضد المرأة.