رفعت قوات الاحتلال المحاصرة للحرم القدسي الشريف أمس، الجمعة، الحظر المفروض على صلاة الشباب للجمعة في الحرم، فعلى مدار السنين الماضية منع أي ذكر تحت عمر الخامسة والثلاثين من أداء الشعيرة الأسبوعية في الحرم؛ في محاولة للسيطرة على أي شكل من أشكال العنف أو التظاهر داخل الحرم على حد قولهم، إلا أن الأسباب تتعدى تلك المذكورة على الأغلب.
يتربع الحرم القدسي في قلب مدينة القدس الشريف، على ما تسميه سلطة الاحتلال والمستوطنون بجبل المعبد، وهو يتبع بشكل إداري للسلطات الدينية العربية تحت إشراف الحكومة الأردنية، إلا أن توزع القوة في أرض الواقع لا يعني سوى أنه تحت سيطرة قوات الاحتلال، وبناءً على ذلك وضعت الحكومة الإسرائيلية بالقدس مجموعة من قواعد التعامل مع الحرم أشهرها: الحد العمري على المصلين وقدرتها على غلق الحرم لأي سبب بدون إخطار مسبق، وطالما قامت القوات الإسرائيلية بتأمين الاقتحامات المتكررة للمستوطنين المتطرفين للحرم الإبراهيمي في فعل طالما أشعل غضب سكان القدس الشرقية من المسلمين.
بدأت الاشتباكات الأخيرة نتيجة للدعوات المتصاعدة من قبل اليمين الإسرائيلي المتطرف لرفع منع الصلاة المفروض على غير المسلمين داخل حدود الحرم، تزامنت هذه الدعوات مع اقتحامات متكررة من قبل المستوطنين وعدد من الحاخامات تحت حراسة قوات الأمن الإسرائيلية، وكان أن وصلت هذه الاقتحامات إلى منبر المسجد في سابقة جديدة، اشتعل الغضب العربي بشكل جاد وحدثت مجموعة من الهجمات من سكان القدس على المستوطنين انتهت بقتل حاخام كبير وعدد من الجنود وإصابة عشرات من المستوطنين في حوادث إطلاق نار وطعن ودهس.
وفي محاولة أخيرة للحكومة الإسرائيلية للحد من العنف المشتعل في القدس؛ رضخت لضغوط مزعومة من الولايات المتحدة لإبقاء الوضع على ما كان عليه ورفع الحد الأدنى للسن في إشارة غير معلوم هل ستدوم للأسابيع المقبلة، يأتي كل هذا بعد ساعات على لقاء جمع وزير الخارجية الأمريكي والملك الأردني والرئيس الفلسطيني برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؛ مما مكن قرابة الأربعين ألف مصلٍ من حضور الصلاة في الحرم في سابقة لم تحدث منذ سنين طويلة.
من الواجب إذن النظر إلى سياسة الاحتلال فيما يخص الحرم القدسي في سياقها الأوسع أو سياسات الاحتلال مع قاطني الأراضي المحتلة من العرب بشكل عام، وصف الكثير من الدارسين هذه السياسة بالأبارتهايد، في محاولة لتشبيهها بسياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا سابقًا، إلا أن الاسم الذي يفضله الإسرائيليين لهذه السياسة هو الكلمة العبرية “هافرادا” والتي تترجم حرفيًا إلى كلمة فصل، بدأ استخدام الحكومة الإسرائيلية الرسمي لهذا المصطلح في العام 1999 في عدد من كتابات “دانيل شوفتان” رئيس المعهد القومي للدراسات الأمنية، وكان الظهور الأول لنظرية شوفتان – التي بدأ في تطويرها للحد من العمليات الفدائية داخل إسرائيل – في كتابه المعنون “الحاجة إلى الفصل: إسرائيل والهوية الفلسطينية”، كان هذا الكتاب بمثابة الخطة التي اعتمدتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في إعادة تشكيل النسيج العمراني والاجتماعي في الأراضي المحتلة للسنوات الخمسة عشر التالية.
بدأ تنفيذ هذه الخطة قبل نشر الكتاب بسبع سنين بالبدء في عزل قطاع غزة، فكان نقل السكان الإسرائيليين من المناطق المتاخمة للقطاع نحو الداخل الإسرائيلي، والبدء في بناء الحائط الفاصل مع قطاع غزة في حملة سماها إيهود باراك لاحقًا بـ “نحن هنا وهم هناك”، تم تبني الخطة بشكل رسمي تحت مسمى “الفصل أحادي الاتجاه” من قبل حكومة إيريل شارون، وكان معلمها الأعظم هو الجدار العازل العملاق في الضفة الغربية، وكان أن وجه شارون في أحد لقاءاته الصحفية مزحة لأحد الصحفيين قائلاً “لا تترجموها إلى الفصل فنحن حكومة ديموقراطية ولسنا نظام أبرتاهيد، ترجموها إلى فض الالتحام أو دعوها كما هي “هافرادا”، وكان أن أخلت إسرائيل مستوطنيها من قطاع غزة وأربعة من مستوطناتها في الضفة الغربية لتحيط كل منهما بجدار كفيل بتحويلهما أكبر السجون المفتوحة في العالم.
بالنظر إلى معدل النمو السكاني على الأراضي الفلسطينية يتضح أن النمو السكاني العربي يماثل اليهودي مرة ونصف بمعدل 1.7% لليهود و 2.2% للعرب، وبحساب قرابة المليون وسبعمائة ألف من عرب 48 وثلاثة ملايين وثمانمائة ألف من سكان الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة مقابل ستة ملايين من اليهود يتضح التالي: في غضون عشرين عامًا من اليوم سيبدأ التعداد السكاني للعرب في الزيادة عن اليهود، وإذا كان قرابة الـ 65% من هذه الأغلبية تعيش في سجون مفتوحة وتحت حصار تفرضه أقلية أخرى على حرية الحركة داخل الأرض وحرية حركة البضائع والمرافق الأساسية؛ فما التغيرات التي ستحدث في رؤية أبناء العرب لموقعهم في بلادهم وعلاقتهم بالمحتل؟ ومع التغير التدريجي في الخصائص الديموغرافية لليهود وتقدم سن الكتلة السكانية ستبدأ الحاجة إلى عدد أكبر من الشباب في سوق العمل والدفاع، تمامًا كما حدث في القارة الأوروبية خصوصًا مع تقلص نسب الهجرة اليهودية من دول الاتحاد السوفيتي السابق إلى إسرائيل بشكل سريع للغاية.
عمليات الفصل العنصرية والهافرادا لا تعني على المدى البعيد سوى ترسيخ وتضخيم لميراث من الكراهية متواجد منذ بداية الاحتلال من الأساس، والنظرة الإسرائيلية العنصرية الرافضة تمامًا لأي شكل من التقارب حفاظًا على النقاء اليهودي تنسى (أو تتناسى) أنها بتركيزها للمكون العربي في مناطق مغلقة إنما تصنع قنبلة موقوتة (على الصعيدين السكاني والأيديولوجي) لن يقدر أي جدار على احتوائها بعد مرحلة معينة.