“أنا أتولدت وهدفن هنا.. مستحيل أسيب شقتي اللي عشت فيها أكثر من 30 سنة، هجيب تاريخ منين وعشرة منين وجيران تانية منين.. خدوا أي فلوس وسيبوني أكمل حياتي في أوضتي وأموت على فرشتي”، بصوت مبلل بدموع الحسرة ونبرة ألم تعتصر حركة الأحرف والكلمات، عبرت “سامية” عن صدمتها بعد إعلان الحكومة إزالة الحي السادس بمدينة نصر (شرق القاهرة) في إطار مخطط التطوير العمراني الذي تقوم به الدولة المصرية.
لم تكن سامية ابنة الـ50 عامًا، التي تعيل طفلين ووالدتها بعد وفاة زوجها، الضحية الوحيدة لهذا المخطط التطويري، فالأمر لم يقتصر على شقة أو وحدة سكنية أو حتى عقار كما كان في السابق، بل تجاوز المنطق والمألوف ليشمل أحياءً بأكملها، الحي السادس والسابع بمدينة نصر.
فوجئت الأم الخمسينية كغيرها من آلاف الأمهات والأباء والمسنين، ومعهم جيلان أو ثلاثة على الأقل من الأطفال، بتناول بعض وسائل الإعلام لأخبار تتعلق بنية الحكومة إزالة الحي السادس والسابع تمهيدًا لبناء مجمعات سكنية على أحدث الطرز المعمارية كما حدث في بعض المناطق الأخرى كمثلث ماسبيرو وخلافه، تعرّف سكان المنطقة كغيرهم على الخبر من وسائل الإعلام دون تنسيق أو مشاورات أجريت معهم.. وهنا كانت بداية الصدمة.
في البداية توقع البعض أن الخبر ربما يأتي في إطار سياسة “جس النبض” لمعرفة ردود الفعل، أو من باب “الفرقعة الإعلامية” المعهودة من بعض المواقع الصفراء، خاصة أن لا أحد من المسؤولين تحرك في هذا الشأن، لكن يومًا تلو الآخر بدأت الرؤية تتضح، فإذ برؤساء الأحياء يتبادلون الزيارات ويلتقون الأهالي ويتحدثون عن جنة تنتوي الحكومة إقامتها في تلك البقعة التي باتت مهددة بسبب تجاوز الكثير من بناياتها الـ70 عامًا.
وفق الإحصاءات الرسمية يقطن هذين الحيين أكثر من 70 ألف مواطن، وأنه تم – حتى كتابة تلك السطور – حصر قرابة 4500 عقار ومحال تجاري تمهيدًا لإزالتهم، وسط مشاورات ومباحثات أجراها – وما زال – مسؤولو المحافظة مع الأهالي الرافضين تمامًا لهذا الإجراء، ليبقى السؤال: ما مصير كل تلك الأسر حال هدم الحكومة لعقاراتهم؟ ماذا لو رفضوا مغادرتها؟ وهل الأزمة في حجم وقيمة التعويضات المادية أم في التاريخ والهوية والارتباط النفسي والمجتمعي بالمكان الذي قضوا فيه معظم سنوات حياتهم؟
هنا ذكرياتنا التي لا يمكن محوها
التاريخ في مواجهة المدنية، والذكريات مقابل الطفرة الحضارية.. تحت هذا العنوان الكبير جاءت معظم تعليقات المتضررين من هذا القرار، فيما وجه آخرون صرخات دامية للحكومة التي اتهمها البعض بتعمد “إهانة المواطنين” من خلال سلبهم حرياتهم في اختيار الأماكن التي يعيشون بها ويموتون فيها.
“سلامة”.. هذا العجوز السبعيني الذي قضى أكثر من ثلثي عمره في شارع الشركات بالحي السادس، وفي العقار ذاته زوج ابنه وابنته، ويستمتع كل يوم بحفيدته التي لم يتجاوز عمرها 9 سنوات على أحد المقاهي أسفل العقار مع أصدقائه، يتسامرون الليل ويتقاسمون ضحكات الرضا والقناعة.
باكيًا.. قال سلامة أو “الكوماندا” كما يقلبه جيرانه: “لم أعرف بيتًا غير هذا ولم أرتح في شقة أي من أخواتي أو أقاربي كما أرتاح في شقتي.. هذا المكان الذي تزوجت فيه وأنجبت أولادي، وبه أجمل ذكريات حياتي، يكفيني أني كلما دخلت إلى غرفة شممت فيها عبير سنوات طوال من عمري”، وتابع “كيف بعد هذا العمر الطويل يطلبون مني أن أترك بيتي هكذا لأبدأ حياتي التي قاربت على الانتهاء في بيت جديد وجيران جدد وأصدقاء لم أعرفهم بعد.. هل هذا هو التكريم الذي تمنحه الحكومة لي آخر أيامي بعد خدمة لهم دامت 28 عامًا؟ هل هذا هو رد الجميل؟”.
لم يختلف موقف الكوماندا عن أصدقائه بالمقهى، فجميعهم وقد تجاوزت أعمارهم السبعين أكدوا أنهم لو تركوا ذكرياتهم وحياتهم وجيرانهم وتاريخهم في الشقق التي يسكنونها فلن يعيشوا طويلًا، فالموت سيكون أقرب لهم من الاستمتاع بالمكان الجديد الذي مهما بلغت فخامته لن يساوي رماد سلالم بيوتهم الحاليّة التي قضوا فيها أجمل أيام حياتهم.
ومن شرفة أحد العقارات في منطقة أبو رامي التي من المتوقع أن تبدأ إجراءات الإزالة فيها بعد فترة وجيزة، تقف “أماني” الموظفة بإحدى الوحدات الصحية، التي لم يتجاوز عمرها 35 عامًا، تتفقد المكان بنظرات حائرة، يبدو عليها علامات الحزن والقلق، ترقبًا لمصير مجهول.
اقتربنا منها للحديث عن خطتها بعد الهدم، فامتنعت عن الحديث، مشيرة إلى تهديدات من مسؤولين بملاحقة من يتحدث إلى أي وسيلة إعلامية أو عبر منصات التواصل الاجتماعي بصورة سلبية عن مخطط التطوير المزعوم، فيما أشار جيرانها أنها باعت ذهبها وبعض ممتلكاتها من أجل شراء تلك الشقة التي تسكن فيها قبل عامين من الآن، باختصار “شقا عمرها” في هذا المكان الذي ضحت بأفضل منه من أجل أن تكون بين أهلها وأصدقائها، بحسب جيرانها ممن يواجهون نفس المصير.
تطوير حضاري
مبرر خطوة الإزالة كان بحسب الجهات التنفيذية المحلية بالمحافظة “التطوير الحضاري” للمنطقة، فبحسب رئيس حي غرب مدينة نصر، ميرفت مطر، فإن الأعداد الكبيرة للعمارات الآيلة للسقوط كانت المحرك الأساسي لإعادة تخطيط الحي بأكمله ليضاهي أعمال التطوير الموازية التي تشهدها العاصمة.
وأوضحت مطر خلال تصريحات صحفية لها لجريدة “الشروق” المصرية أن المنطقة المقرر إزالتها تقع بداية من قسم ثانى مدينة نصر، حتى شارع خليفة الظافر، وصولًا لمحور جيهان السادات، مشيرة إلى أنه تم حصر 4500 وحدة سكنية ومحال، كمرحلة أولية، تمهيدًا لإزالتها لتعارضها مع مشروع التطوير.
أما نائب محافظ القاهرة للمنطقة الشرقية، إبراهيم صابر، فكشف عقده اجتماعات عدة مع أهالي الحي السادس والسابع والاستماع لهم وعرض تفاصيل قرار الهدم عليهم ومحاولة التوصل معهم لحلول مرضية، مؤكدًا أن هناك توجيهات مباشرة بإزالة المنطقة لإعادة تخطيطها مرة أخرى على غرار مثلث ماسبيرو، بحى بولاق أبو العلا.
وأكد صابر أن المتضررين سيحصلون على تعويضات مناسبة، دون أن يحدد تفاصيلها، فما نقلت بعض وسائل الإعلام عن محافظة القاهرة قيمة تلك التعويضات، التي على الأرجح ستكون بالمتر المربع، وتتراوح بين 7 و8 آلاف جنيه للمتر للسكن الداخلي و9 آلاف جنيه للوحدات على الواجهة، بالإضافة إلى بعض البدائل الأخرى مثل التعويض بوحدات بديلة فى نفس المكان بعد تطويره مع صرف بدل إيجار شهري للسكان حسب الإيجار بالمنطقة طوال فترة تنفيذ المشروع.
أما المحال التجارية فسيبدأ المتر من 15 ألف جنيه، فيما ترتفع قيمة ذات المساحة في الصيديليات، على أن يتقاضى المتضررون تلك التعويضات قبل عملية الهدم، حسب كلام نائب محافظ القاهرة، غير أن أحدًا لم يتقاض أي شيء حتى كتابة هذه السطور، وأن ما يقال يندرج تحت باب التخمينات والوعود.
رساله من سكان مدينة نصر الحي السادس تشرح السيسي بيطردهم من بيوتهم ليه pic.twitter.com/T82XIAY0ZB
— Sherif Osman® (@SherifOsmanClub) January 7, 2022
تحركات برلمانية عاجلة
عدد من الأهالي، يتقدمهم صحفيون وموظفون كبار في مؤسسات الدولة، التقوا ببعض أعضاء البرلمان لتوصيل صوتهم الرافض لهذا القرار الذي وصفوه بـ”العنصري” وهو ما دفع بكرة الاعتراض من همهمات البيوت وشوارع الحي إلى قاعة البرلمان، فقد تقدمت النائبة مها عبد الناصر، عضو الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، بطلب إحاطة لكل من رئيس مجلس الوزراء ووزير الإسكان ومحافظ القاهرة ورئيسة حي شرق القاهرة، بشأن ما يتم تداوله بشأن قرار الهدم.
النائبة عبرت عن دهشتها من هذه الخطوة غير المسبوقة في تاريخ مصر، قائلة: “انتقلنا إلى مرحلة إزالة أحياء بأكملها دون أي إطار معياري تم الاتفاق عليه تحت مسمى التطوير، فمنطقة بلوكات الحي السادس والحي السابع هي منطقة مخططة ومنظمة، وهي مناطق مصممة كمساكن شعبية، ومساحات المباني والفراغات بينها قياسية، بل إن هناك مساحات خضراء مفترضة، والحد الأقصى للارتفاع خمسة أدوار، وهذه المناطق أفضل تخطيطًا من معظم مناطق القاهرة، وإذا تم اعتبارها غير مخططة فمن باب أولى أن يتم إزالة كل أحياء معظم محافظات مصر” كما نقلت عنها صحيفة “المال” المصرية.
عدد من السكان أعربوا عن استعدادهم الكامل للتعاقد مع مكاتب هندسية لتطوير العقارات التي يسكنون بها بما يتماشى مع المخطط الهندسي للمحافظة، وعلى نفقتهم الخاصة، نظير البقاء في أماكنهم دون الانتقال إلى مكان آخر
وفي طلب الإحاطة قدمت النائبة عددًا من التساؤلات للبرلمان ورئيس الوزراء ومحافظ القاهرة أولهم: هل الغرض من تلك الإزالات الاستفادة من منطقة حزام المصانع المتقادمة والأراضى الموازية للمنطقة وصولًا إلى حدود محور المشير، ما يجعل الغرض الأساسي هو تأسيس نمط عمراني ذي طبيعة اجتماعية معينة لا يحتمل بجواره مساكن “تبدو شعبية” ويسكنها أبناء الطبقة الوسطى المصرية؟ ثانيهم: هل انتقلنا من مرحلة بيع الأراضي في الصحراء إلى مرحلة بيع العمران الحي في قلب المدينة، لا سيما أن هذه المساكن لها ملكية شرعية وموثقة في حي سليم منظم.
أما السؤال الثالث: ما الأزمة التي تستدعي الوصول إلى هذه المرحلة من الإزالات؟ هل لدينا مشكلة أمنية في هذه المنطقة مثلًا؟ فيما ختمت طلب الإحاطة بمناشدة للمسؤولين بمراعاة ظروف المواطنين الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يظلوا هكذا تحت رحمة التهديد والطرد من بيوتهم بدعوى التطوير دون وجود أسباب قهرية لذلك.
77 ألف يصرخون
بحسب الإحصاءات شبه الرسمية فإن عدد سكان حي غرب مدينة نصر الذي يشمل الحيين السادس والسابع يتجاوز 77 ألف نسمة، ما يعني أن الغالبية العظمى من هذا العدد سيقع تحت مقصلة الهدم وإزالة منازلهم خلال الفترة المقبلة، سواء كان دفعة واحدة أم على عدة مراحل كما أشار مسؤولو المحافظة.
السواد الأعظم من سكان تلك الأحياء يرفضون فكرة ترك بيوتهم التي نشأوا فيها بذكرياتهم والانتقال لمكان جديد حتى لو كان أفضل وأكثر تطورًا، فالأمر أكبر وأعقد من مسألة شقة بديل أخرى، وسكن بديل آخر، وهو ما يفسر عدم استجابة الكثير حتى الآن للمبالغ الكبيرة التي تتعهد المحافظة بدفعها كتعويضات مقارنة بالمناطق الأخرى.
صرخات مدوية يطلقها أهالي مدينة نصر لعلها تجد استجابةً من المسؤولين للحفاظ على تراث وذكريات وتاريخ وهوية آلاف العائلات التي نشأت وترعرعت وعاشت وتزوجت وأنجبت في بيوت لم يعرفوا غيرها، وجدران شاهدة على محطات حياتهم بحلوها ومرها
يذكر أن المناطق الأخرى لا يتم التعامل فيها بالمتر كما هو الحال في الحيين السادس والسابع بمدينة نصر، لكن بالغرفة، فقد وضعت الحكومة سعرًا موحدًا للغرفة قرابة 40 ألف جنيه، وعليه يحدد سعر الشقة وفقًا لعدد الغرف بها، ومن ثم كانت هناك فروق كبيرة بين سعر الوحدة السوقي وسعرها التعويضي، الأمر الذي أثار غضب واحتقان المتضررين، إذ كانت الوحدة تتجاوز قيمتها في السوق 600 ألف جنيه لكن قيمة التعويض لا تتجاوز 120 ألف جنيه وفقًا لعدد الغرف بها.
عدد من السكان أعربوا عن استعدادهم الكامل للتعاقد مع مكاتب هندسية لتطوير العقارات التي يسكنون بها بما يتماشى مع المخطط الهندسي للمحافظة، وعلى نفقتهم الخاصة، نظير البقاء في أماكنهم دون الانتقال إلى مكان آخر، فأشار “محسن” مهندس مقيم في الحي السادس، إلى أنه تقدم بهذا العرض لمسؤولين في المحافظة لكنهم استبعدوا ذلك بزعم أن القرار “فوقي” وليس لهم من الأمر شيء.
المهندس الذي يبلغ من العمر 40 عامًا ويعيل ولدين وبنت، تساءل: إن كان الهدف هو التطوير فنحن على استعداد لتحمل كلفة هذا التطوير على أن نبقى في بيوتنا، أما إن كان غير ذلك حيث تنتشر بعض الشائعات عن بيع المنطقة لمستثمرين عرب وأجانب فإن الوضع سيكون مختلفًا، مضيفًا “هذا اختبار عملي لنوايا المحافظة في التعامل مع تلك المناطق، وما إن كانت تريد تطويرها فعلًا أم بيعها”.
صرخات مدوية يطلقها أهالي مدينة نصر لعلها تجد استجابةً من المسؤولين للحفاظ على تراث وذكريات وتاريخ وهوية آلاف العائلات التي نشأت وترعرعت وعاشت وتزوجت وأنجبت في بيوت لم يعرفوا غيرها، وجدران شاهدة على محطات حياتهم بحلوها ومرها، فهل تجد تلك الصرخات صداها قبل البدء في مشروع الإزالة؟