تضم المملكة العربية السعودية، العديد من المناطق الطبيعية والأثرية غير المكتشفة وغير المعروفة للعموم بشكل كبير لأسباب عدة، أهمها عدم – أو تأخر – استثمار سلطات المملكة في السياحة، مكتفية بعائدات النفط الكثيرة لتنمية البلاد وجلب الاستثمارات.
من أبرز هذه المناطق، قرية الحبلة التي تعد إحدى أجمل قرى منطقة الوادين بعسير جنوب غرب المملكة، قرية تقع على ارتفاع 2000 متر فوق مستوى سطح البحر، فهي معلقة بحافة منحدر مبهر، يعبق سحرها بكنوزها المحلية الكثيرة، إذ تتميز بالجبال الخلابة والشلالات المتدفقة بين الصخور وبيوتها التقليدية العامرة والضاربة في التاريخ.
ملف “قرى معلقة” لنون بوست، سيحط الرحال هذه المرة في “الحبلة” للتعرف على ما وهب الله هذه القرية المعلقة من جمال طبيعي أخّاذ فاتن يسحر العيون ويأسر القلوب، فضلًا عن عماراتها القديمة التي تحكي قصة كفاح ومقاومة.
القرية المعلقة
عندما يفكر المرء في زيارة المملكة العربية السعودية، هناك العديد من الأشياء التي تتبادر إلى الذهن، لكن من بين هؤلاء، قلة قليلة قد يفكرون في الذهاب إلى غرب المملكة، حيث الجبال الممتدة مد البصر على طول الحدود الجنوبية المتاخمة لليمن.
العديد من السعوديين والأجانب لا يعرفون إلا القليل عن هذه المنطقة من البلاد، التي سميت بـ”عسير” وتعني “صعبة”، فالوصول إليها ليس بالمهمة السهلة إطلاقًا، رغم أنها واحدة من أجمل المناطق وأكثرها إثارة للاهتمام في المملكة.
ما إن تحط قدماك في تلك المنطقة، حتى تشدّك قرية الحبلة إليها، إذ تبدو الجبال المحيطة بالقرية هائلةً، لك أن تتساءل حينها كيف يعيش الناس هناك وكيف تمكنوا من بناء منازلهم التقليدية بين صخور الجبال وأعلى التلال، لكن ما إن تصل للقرية حتى تجد أجوبةً لكل الأسئلة التي تبادر ذهنك.
جمالها لا يوصف، طبيعتها خلابة، وتاريخها عريق، تحمل بين تفاصيلها تراثًا معماريًا ساحرًا وتكوينات رائعةً، ببساطة نتحدث عن قرية الحبلة التي يتجاوز عمرها 400 سنة وتقع ضمن نطاق منتزه الحبلة الذي يبعد نحو 57 كيلومترًا عن مدينة أبها السعودية.
توفر لك القرية المعلقة مشاهد فريدةً من نوعها، إذ تأخذك إلى السحاب وإلى أعماق التاريخ وتروي لك قصة أناس كافحوا الطبيعة وطوّعوها خدمة
فضلًا عن اسم “الحبلة”، يُطلق عليها أيضًا اسم القرية المُعلقة، لموقعها أسفل جرف صخري ينحدر لنحو 300 متر من حافة جبال السروات الشاهقة ذات الارتفاع الكبير والمتجاوز 2000 متر عن سطح البحر، فهي قرية معلقة بين الأرض والسماء.
من المؤكد أن اللون الأخضر الطاغي على المنطقة والأشجار الكثيفة والهندسة المعمارية التقليدية والمنحدرات الشديدة، لا يستحضرون على الفور أفكارًا عن شبه الجزيرة العربية، وهذا ما يدفعك نحو المغامرة والاستكشاف.
تعتبر قرية الحبلة الغامضة والفريدة من نوعها إحدى عجائب المملكة العربية السعودية، فهذه السلسلة من المنازل المصنوعة من الحجر الرملي محفورة من الصخور المحلية، بُنيت بشكل ينم عن عبقرية كبيرة وحسن تصرف مبهر، فلا مجال للصدفة هناك.
كان يسكنها في الأصل مجتمع قبلي يُعرف باسم “رجال الزهور”، وترجع هذه التسمية إلى عاداتهم في ارتداء أكاليل من الأعشاب والزهور المجففة في شعرهم في الماضي، كانوا يعيشون هنا محققين اكتفاءهم الذاتي من قطعان الماشية الصغيرة والحدائق المدرجة حتى الثمانينيات من القرن الماضي.
الحبل.. وسيلة التنقل الفضلى
رغم جمالها الطبيعي واللمسة البشرية التي منحتها روعةً فوق جمالها وزادتها بهاءً قلّ نظيره في المملكة، فإنها أقل استكشافًا من العديد من الأماكن الأخرى، لذلك فزيارة واحدة إلى الحبلة لا يمكن أن تكفيك لاكتشاف بهاء المنطقة والولوج لأسرارها.
يتساءل البعض عن سبب تسمية القرية بـ”الحبلة”، الإجابة تجدها هناك، فالقرية أخذت هذا الاسم نسبة إلى “الحبل”، فموقعها شديد الانحدار جعل الحبال الوسيلة الوحيدة المستخدمة للصعود والنزول من وإلى القرية الواقعة في حافة مرتفعات السروات.
قديمًا، كان لا يمكن الوصول إلى القرية المعلقة إلا عن طريق سلالم من الحبال، وهو ما أكسبها اسمها الحاليّ “الحبلة”، كان القرويين ينقلون غذاءهم وكل مستلزماتهم المعيشية عن طريق الحبال فقط، فلا سبيل لهم للوصول هناك دون هذه الوسيلة، لصعوبة تضاريس المنطقة.
كانت المهمة صعبةً، لكن أفضل لهم من العيش في الأراضي المنبسطة وأسفل الجبال، فقد اختار الأهالي السكن في أعلى الجبال وعلى التلة للحفاظ على أرواحهم وحماية ماشيتهم، فالمنطقة لم تكن آمنة وعادة ما تتعرض للهجمات.
مكان جذب سياحي
في تسعينيات القرن الماضي، بدأت سلطات المملكة العربية السعودية حملةً ترويجيةً للتعريف بالمنطقة، ولذلك تم تجريد “رجال الزهور” المحليين من منازلهم وأجبروا على الانتقال إلى قرية حديثة أُنشئت من أجلهم في الوادي أدناه.
رفض بعضهم ترك منازلهم ومغادرة القرية، لكن الحرس الوطني السعودي أجلاهم بالقوة، فأصبحت القرية فارغةً لا أحد فيها، ويُسمح الآن لبعض السكان الأصليين بالعودة إليها من حين لآخر، فقط لأداء بعض عاداتهم التقليدية للسياح خلال أشهر الصيف.
تم تحويل معظم المباني القديمة في القرية إلى مرافق سياحية، وأصبحت المنازل التقليدية الجميلة ذات الأبواب الخشبية تُستخدم في الغالب كمطاعم ومقاهٍ، يجلس السياح داخلها أو خارجها للاستمتاع بشرب الشاي ومشاهدة المناظر الطبيعية الخلابة التي لم تشوهها يد اللإنسان.
عوض الحبل الذي كان يساعد السكان على الصعود للقرية المعلقة، أنشأت السلطات تلفريكًا (العربات المعلقة) لتوفير الوصول إلى مناظرها الجبلية المبهرة، وتتوافر في القمة، إطلالة بانورامية على وديان الحبلة وتهامة، والأشجار المترامية هنا وهناك.
تتحرك أربع عربات معلقة على حبال حديدية لنقل الزوار من أسفل القطع الصخرية إلى قرية الحبلة القديمة بمسافة 600 متر تقريبًا، ووفرت السلطات المحلية في أعلى القمة خيارات كثيرة من الأنشطة الترفيهية يمكن ممارستها لجميع أفراد العائلة، النزول إلى الأسفل عبر التلفريك سيثير فيك أيضًا مشاعر مختلطة من المغامرة والتأمل للهوة السحيقة أسفل الجرف، لذا عليك أن تسترخي وتستمتع بالمشاهد الحالمة.
توفر لك القرية المعلقة مشاهد فريدة من نوعها، إذ تأخذك إلى السحاب وإلى أعماق التاريخ وتروي لك قصة أناس كافحوا الطبيعة وطوّعوها خدمة لهم هربًا من الإنسان، ستحكي لك الحجارة المتراصة والأبواب الخشبية العتيقة والمنقوشة بنقوش سكانها الأوائل والطرقات الضيقة المتعرجة، بعضًا من قصص وتراث قرية الحبلة العتيقة.
تجمع قرية الحبلة التراثية بين الأصالة والتاريخ والحضارة والترفيه والمناخ الساحر والعمارة الفريدة
يوجد هناك متحف يضم أكثر من 400 قطعة أثرية تاريخية تصور تاريخ منطقة عسير وتراثها، ويلخص المتحف ما كانت عليه الحياة في منطقة عسير منذ مئات السنين، ففيه قسمان يمثلان مرحلتين، الأول فيه قطع أثرية منزلية وزراعية كانت تستخدم في عسير قديمًا، أما القسم الثاني فيعرض الخيام العربية ومصادر الغذاء والتجارة لسكان منطقة عسير والحيوانات المستخدمة في النقل وأقدم السيارات المستخدمة في المحافظة منذ أكثر من 80 سنة.
تجمع قرية الحبلة التراثية بين الأصالة والتاريخ والحضارة والترفيه والمناخ الساحر والعمارة الفريدة، ما يجعلها مقصدًا مهمًا للسياح من داخل المملكة ومن خارجها أيضًا، رغم عدم وجود حملات كافية للترويج لها.
أياً كان أصل قرية الحبلة والخالية من السكان حاليًّا فإن جمال الأبواب الخشبية لمنازلها الساحرة وهندستها المعمارية الفريدة وروعة منظر منحدرات السروات ومتعة الهبوط لها من الأعلى عن طريق العربات المعلقة، كلها تجعل هذه القرية أحد أشهر المواقع السياحية في عسير والمملكة العربية السعودية ككل.