ترجمة وتحرير: نون بوست
توجد في اللغتين العربية والفارسية – وفي معظم اللغات الأخرى الموجودة في نفس المنطقة – مجموعة من الأدب تُعرَّف على أنها أدب السجون، أو “الحبسيات”، وكلاهما يعني “كتابات السجن”، فمن بين كلاسيكيات هذا النوع؛ النص الرائع للفيلسوف الصوفي عين القضاة الهمداني (1098-1131) “شكوى الغريب”؛ والذي كتبه أثناء وجوده في السجن في بغداد، قبل إعدامه بتهمة الهرطقة في مسقط رأسه همدان.
وكتابة السجون هو نوع من الأدب العالي المستوى؛ والذي تسبب في نشأته مجموعة كاملة من الطغاة المسنين والشاهات المنسيين والحكومات العسكرية القوية والديكتاتوريين المرضى نفسيًّا الذين يجب شكرهم؛ فشخصيات بارزة مثل مسعود سعد سلمان (شاعر فارسي من القرن الحادي عشر) وخاقاني شيرفاني (شاعر فارسي آخر من القرن الحادي عشر آيضًا) صنعوا سمعة شعرية كاملة من كتاباتهم في السجن، بينما قام الشاعر الأسطوري أبو فراس الحمداني (932-968) بتأليف مجموعته المميزة من شعر الروميات أثناء وجوده في الأسر.
وعندما يتعلق الأمر بسجن وتعذيب الناس لمحاولة تخويفهم وإسكاتهم وتهدئتهم؛ فإن الطغاة العرب لا يعلى عليهم، فعلى مر التاريخ كان لديهم سمعة يحافظون عليها.
ومن الأمثلة الأكثر حداثة على هذا النوع من كتابات السجون لكبار الأدباء العرب مثل صنع الله إبراهيم وعبد الرحمن منيف والناشطة في مجال حقوق المرأة نوال السعداوي، كما يمتد هذا النوع إلى الفنون البصرية والتمثيلية؛ مثل حالة الفنانة الماركسية المصرية الشهيرة إنجي أفلاطون (1924-1989)، أو المخرجة الفلسطينية مي مصري، أو المخرجة الكردية التركية يلماز غوني، أو الروائية الإيرانية شهرنوش بارسيبور.
ولذلك فإن كتابة السجون هو نوع من الأدب يعبر عن مجموعة خاصة من الأدب تم التدرب والتمرس عليها بشكل جيد، وتشمل عددا متنوعًا من لغاتنا؛ حيث يجب أن نوجه الشكر ونعبر عن الامتنان المتواضع لمجموعة كاملة من الطغاة المسنين، والشاهات المنسيين، والملالي المتحاربين، والقادة العسكريين الأقوياء والمرضى نفسيًّا؛ فلولاهم لتعرض جزء كبير من إنتجانا الأدبي للخطر؛ فيمكنك أن تفكر في الأدوار المماثلة التي لعبها طغاة أمريكا اللاتينية في إنتاج الواقعية السحرية وروايات الديكتاتورية باللغة الإسبانية؛ فهل كان سيكون غابرييل جارسيا ماركيز بدون أوغوستو بينوشيه!
السجن كمجال عام
ربما يكون أشهر مثال على أدب السجون في جميع أنحاء العالم هو دفاتر السجن التي كتبها الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي؛ حيث استخدم ظروفه الرهيبة في زنزانات رجل الفاشية الإيطالية بينيتو موسوليني لكتابة بعض من أكثر الأفكار الفلسفية إدراكًا وشهرة عن العالم الذي عاشه. وتكثر الأمثلة على ذلك، من الأطروحات الفلسفية لبوثيوس، إلى تخيلات السفر لماركو بولو؛ حيث تنتمي كلها إلى هذا النوع من الأدب.
ومع الأخذ في الاعتبار المثال الأهم المتمثل في “رسالة من سجن برمنغهام” لمارتن لوثر كينغ جونيور (1963)؛ فإنه يجب علينا التمييز بين استخدام الوقت في السجن لكتابة كتاب أو أطروحة في الفلسفة، واستخدام حالة السجن كأسلوب معين من التفكير والكتابة، وكمثال على ذلك: مذكرات بريمو ليفي عن الهولوكوست، وهو رجل نجا من محرقة معسكر أوشفيتز الألماني؛ فهي حالة واضحة عن كيف يمكن للكاتب أن يحمل رعب السجن في ذهنه ويستجمع روح معاناته فيه على الرغم من أنه ليس فيه.
ومع إصداره الجديد “لم تُهزم بعد”، وهو مجموعة من الترجمات الإنجليزية لكتاباته في السجن؛ اتبع الناشط الثوري المصري علاء عبد الفتاح هذا التقليد المقدس وانضم إلى هذا الجمع من المفكرين النقديين الذين يرمون قضبان سجنهم غير الطوعي بكل قوة للتفكير في شخصية روحنا المتحدية التي تظهر في هذا الأدب.
وكتبت الناشطة الكندية نعومي كلاين في مقدمة لهذا الكتاب: “النص الذي تحمله هو تاريخ حي”، مضيفة: “تمت كتابة العديد من هذه الكلمات لأول مرة بقلم رصاص وورق في زنزانة في سجن طرة سيئ السمعة في مصر، وتم تهريبها بطرق لن نفهمها على الأرجح”.
“نحن” هنا بالطبع لا تشمل المصريين وملايين العرب والمسلمين الآخرين حول العالم الذين يفهمون جيدًا كيف تُكتب هذه الكلمات بلغتهم العربية الأصلية وكيف يتم تهريبها؛ فلديهم تاريخ كامل من هذا الأدب والطريقة التي يكتبونه بها.
مهما كان الأمر، فإن مقدمة كلاين تسهل استقبالًا عالميًا أكثر لكتاب علاء عبد الفتاح الذي يخدم قضية الحرية التي شنها هو ورفاقه، بينما أصبح في وطنه وحول العالم العربي والإسلامي شخصية مبدعة، فإن تسهيل الاعتراف به عالميًا سيوسع آفاق كلماته (إن لم يكن عمقها) إلى أبعد من مجرد نشرها الفوري.
بين الاستبداد والتضامن
إن تقديم كتابات علاء عبد الفتاح باللغة الإنجليزية هو بالطبع مسعى مرحب به؛ فـ”هنا” يقوم محررو المجلد الإنجليزي بإبلاغ قرائهم: “لأول مرة؛ يتم جمع مجموعة من أعمال علاء معًا وتجميعها وترجمتها من قبل عائلته وأصدقائه”؛ حيث تُقرأ المجموعة كتقرير عن الحركة الحية للسنوات العشر للثورة.
وهذا التواصل بين النثر العربي الأصلي والترجمة الإنجليزية يعبر الفجوة بين ظلام الاستبداد وضوء التضامن الليبرالي الذي يمكن – في النهاية – أن يقوم بما هو أكثر من مجرد الثناء على الثوري المصري؛ حيث تظل الأهمية المركزية لهذه الكتابات في كونها تعبيرًا حقيقيًّا عن تفاصيل اللحظات الثورية، وإن عمق هذه الوحشية هو الذي يجب أن يوجه آفاق هذا الاستقبال العالمي.
وما يجب على بقية العالم فهمه هو السياق الدولي والتغير العالمي الذي يقف وراء الأدب والسياسة التي يقرأونها؛ فهذا النص المحرر معروض في الصفحات الأولى من مقال أشار علاء عبد الفتاح فيه إلى حدث تاريخي حاسم، وذلك في 26 يونيو 1955 في كليبتاون، سويتو عندما “يتجمع الآلاف من الناس في مكان يشبه إلى حد كبير ساحات التحرير لدينا، متحمسين للمشاركة في مؤتمر الشعب وللتصويت على ميثاق الحرية. الثوري يصعد إلى المسرح ويقرأ الميثاق بشكل شاعري.
ويرتج الميدان المزدحم بهتافات “أفريقيا! أفريقيا!””؛ فيجب قراءة هذا الكتاب في أصداء ذلك الهتاف: “أفريقيا! أفريقيا!”.
ويجب أن ننتقل من تلك اللحظة المميزة إلى الخطاب الذي يلقيه علاء عبد الفتاح باللغة الإنجليزية لشركات التكنولوجيا في كاليفورنيا؛ حيث يحاضر حول احترام حقوق الإنسان لمستخدميهم، قبل أن يبين كم هو متشائم بشأن المستقبل قائلًا: “من غير المرجح حقًا أن تفعل الشركات أيًا من ذلك. ليس من المرجح أن تفعل الشركات أيًا من ذلك”.
ويدرك الثوري المصري، باعتباره تقنيًّا على دراية جيدة مخاطر ووعود التذبذب الناشئ بين التضامن الحقيقي الذي يمكن أن تولده شبكة الإنترنت والتشجيع اللحظي الذي يختفي بسرعة.
في هذه المصطلحات المتذبذبة على وجه التحديد، تُقرأ مجموعة كتاباته على شكل تقرير حول الحركة الحية للسنوات العشر من الثورة المصرية.
وما يجعل هذا النص الأدبي مترابطًا هو روح الدعابة المصرية المثالية: “انتشرت دعابة على الإنترنت أثناء زيارة أردوغان لمصر تقول: يطمح الإسلاميون والعلمانيون والجيش إلى “النموذج التركي”، وهو ما يثبت، كما تقول الدعابة، أنهم لا يعلمون شيئًا عن تركيا”.
ويتخلل هذا الحس الفكاهي التقرير الجاد الجامد للقطعة الأكثر إثارة في الكتاب، وهو السفر القصير إلى غزة في عام 2012، حيث يقسم نصه إلى مفاجآت متعددة: غزة طبيعية، وغزة بائسة، وغزة حرة.
يخلق علاء عبد الفتاح، على هذه الصفحات، فضاءً شبه عام تظهر فيه كتاباته في السجن على أنها الروح الأكثر تحررًا للمواطنين المصريين الجدد.
من الواقعي إلى المثالي
ومن المواضيع الرئيسية في هذه المجموعة انشغاله بصياغة دستور لمصر ترضخ فيه فوضى الثورة والطغيان لحل عادل وسلمي، وفي هذا المجال؛ يدرك علاء عبد الفتاح تمامًا موقعه الخاص والعالمي، فيكتب: “إذا قرأت دستور إيطاليا، المكتوب سنة 1946، ستلاحظ أن كتابه كانوا قلقين بشأن إمكانية عودة الفاشية. وبالمثل؛ فإن دستور جنوب إفريقيا، المكتوب في سنة 1996، يهتم بشكل كبير بمعالجة آثار نظام الفصل العنصري”.
ويستنتج من هذين المثالين أن الدساتير الحديثة تحمل تجارب ونضالات شعوبها، في حين تعكس الدساتير المكتوبة في أعقاب الثورات أسباب الثورة واهتمامات الثوار.
وتعتمد رؤيته على تحويل التجارب الحية للشعوب المستبدة إلى نسيج الدستور الجديد، فيقول: “هل يعقل أن لا يذكر الدستور المكتوب إثر اندلاع الثورة المصرية كلمة التعذيب؟”، ويخلص من ذلك إلى أن: ” الدساتير المكتوبة سنة 1971 اعتبرت التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم (أي لا تسقط بالتقادم من المحاكمة)، لكن كتابها أحالوا تعريف جريمة التعذيب إلى القانون”.
ويضيف علاء: “لذلك، قام ترزية النظام بتعديل القوانين بحيث تُحاكم معظم ممارسات وزارة الداخلية – حتى القاتلة منها – على أنها انتهاكات بسيطة، مع إصدار أحكام” القتل الخطأ ” أو “الإعدام غير المشروع” في القضايا التي ينبغي حقا أن تُسقط إدارة الأمن بأكملها”
وهنا حيث يصبح الواقعي مثاليًّا؛ فمن خلال عمق تجاربه الثورية تظهر الحاجة إلى العدالة والمصالحة التي يجب أن تمهد الطريق لمستقبل ديمقراطي.
إعادة التفكير في الشخصية العربية
تظهر كتابات الثوري المصري في سياق قضية كرس حياته من أجلها بفعل ما هو أكثر بكثير من مجرد الحفاظ على استمرارية روح الثورة؛ فما فائدة تلك الروح إذا كانت لا تفعل شيئا للتجارب الحية للمصريين ولنا جميعًا حول العالم؟ لذلك لا ينبغي أن تُقرأ كتاباته على أنها استعادة ليبرالية للأمل بل على أنها تنفيذ لوعد جذري.
ينحدر علاء عبد الفتاح من عائلة مرموقة، لكنه في الحقيقة ابن ميدان التحرير، فعلى الأرض المقدسة للتطلعات الديمقراطية للأمة، ولد كرمز للتحدي الذي هز أسس الديكتاتورية العربية.
وفي أحدث إنتاجاتها؛ بدأ التحدي في ساحة آزادي بطهران في حزيران/ يونيو 2009، وفي أقل من سنة امتد إلى تونس ومصر وبقية العالم العربي، ومن هناك سافر إلى تركيا وازدهر في احتجاجات حديقة جيزي.
ومثلت هذه الأحداث جزءًا لا يتجزأ من الزخم العالمي الذي شمل انتفاضة وول ستريت في الولايات المتحدة وبقية العالم الغربي، وهو ما لم يكن ليذهب أدراج الرياح.
يبرز هذا الكتاب الأصداء الخاصة لكيفية تحول التصرف الثوري للأمم بعيدًا عما وصفتُ به الثورات العربية من أنها التحول المعرفي من الثورات الشاملة إلى الثورات المفتوحة.
لم نعد ننتظر شجاعة هوميرس لتنتهي قصتنا، ولكننا مشغولون بحوار باختيني الذي نكتشف فيه دراما الثورة بصفتنا صانعو أقدارنا، وفي هذا السياق؛ لا تكمن أهمية علاء عبد الفتاح في أدب النزعة الثورية التي ألفها فحسب، بل في السعادة العامة التي يسببها.
ويحتوي كتابه على بهجة التحدي؛ فقد حول أرضية السجن المظلمة في سجنه إلى مكان عام مشرق؛ حيث يكون أكثر حرية داخل زنزانته الانفرادية مما كان سيكون عليه تجواله بحرية في شوارع القاهرة.
يمثل علاء عبد الفتاح في كتابه الجريء وفي الشخصية العربية الجديدة التي يجسدها؛ شهادة حية على أن الثورات العربية قد حققت نجاحًا باهرًا.
المصدر: ميدل إيست آي